أسيرة أبي (الجزء الأول)

جلستُ في المأتم وحاولتُ قدر المُستطاع التظاهر بالحزن، إذ لَم يكن أبدًا مِن اللائق أن أُبدي مشاعري الحقيقيّة. تكلّمتُ مع بعض الناس وشربتُ القهوة المُرّة، وتمتمتُ ما كان يُشبِه بالصلاة. لكن في داخلي، كانت هناك ابتسامة عريضة وشعور بالارتياح لَم أحسّ به منذ سنوات: كان أبي قد ماتَ!

عدتُ وزوجي إلى بيتنا وهو اعتنى بالأولاد كَي يُريحُني في هكذا يوم، لكن كان بودّي أن نذهَبَ جميعًا للمطعم للاحتفال! خلَدتُ إلى النوم في تلك الليلة عالِمة تمام العلم أنّني سأنام أخيرًا جيّدًا.

تقولون أيّة ابنة هذه؟!؟ تفرَح لموت أبيها وتُريدُ الاحتفال؟ أجل! فلَم أعُد أسيرته وضحيّته، بل صرتُ حُرّة بعد الذي مَررتُ به. إليكم قصّتي منذ البداية، وسأدَع القارئ يُقرِّر إن كان عليّ أن أرتاح وأفرَح أم لا.

منذ وُلِدتُ وخلال الفترة القصيرة التي تلَت، كنتُ على ما أظنّ فتاة سعيدة، لكنّني كنتُ صغيرة جدًّا لأذكرُ شيئًا. بعد ذلك، أيّ قُرابة الثالثة مِن عمري، بدأَت المشاكل بين والدَيّ، بسبب إهمال أبي لنا وغيابه الدائم عن البيت. كانت لي أخت أكبر منّي اسمها جنان وكنتُ ألعب معها بفرَح ومحبّة. إلا أنّ المسكينة توفّيَت بعد عيد ميلادي الخامس بيومَين جرّاء حادث سَير. كان أبي يقودُ السيّارة وهي تجلسُ بالقرب منه، وليس على المقعد الخلفيّ كما اعتادَت، لأنّه لَم يكن يستمع لتوصيات أمّنا بل يفعلُ ما يشاء. إصطدمَت سيّارته بعامود للكهرباء بعد أن فقَدَ السيطرة عليها بسبب سرعته، وماتَت جنان وهو أُصيبَ ببضع كسور فحسب.

حياتنا في البيت تغيّرَت بعد ذلك، إذ أنّ والدتي لَم تستطِع مُسامحته على ما فعلَه. وبعد أقلّ مِن سنة، أخذَتني وراحَت إلى بيت أهلها طالبة الطلاق. أسرَعَ أبي بتطليقها لأنّه لَم يكن يُحبُّها، أو يُحبُّني، أو يُحبُّ أيّ كان. بعد ذلك، أسّسنا حياة جديدة عند جدّي وجدّتي، وأعترفُ أنّني كنتُ سعيدة عندهم. فهناك لَم يعُد أحَد يُزعِلُ أمّي أو يُبكيها، ولَم أعُد أنتظرُ مِن أبي أيّ شيء، بل حسبتُه سافَرَ بعيدًا. فالحقيقة أنّني لَم أرَه إلا مرّات قليلة يوم كان يتذكَّرَ أنّ لدَيه ابنة، ثمّ انقطعَت زياراته واتّصالاته، إلى أن اختفى تمامًا. وأنا لَم أشتَق إليه على الاطلاق.

عملَت والدتي في مكتب لأنّها كانت تحملُ شهادة، وجاءَت بالمال اللازم لدراستي وشراء كلّ ما يلزَم لي. وهكذا كبرتُ، ويا لَيتني لَم أكبر وأفهم طبيعة البشر التي بإمكانها أن تكون أحيانًا بسواد الليل.

فحين بلغتُ الخامسة عشرة، تذكّرَني والدي وعادَ يطلب رؤيتي وتمضية بعض الوقت معي. حاولَت أمّي مَنعه مِن ذلك، لكنّه كان والدي ولدَيه حقوق عليّ. للحقيقة، لَم أرَ مانعًا مِن ذلك، فذلك الرجُل كان بمثابة لغز بالنسبة لي لعدَم معرفتي الوطيدة به. قبِلتُ اللقاء به، وأعترفُ أنّ في كلّ مرّة كنّا نمضي وقتًا مُمتعًا سويًّا، حين كان يأخذُني إلى المطاعم والحدائق العامّة أو السينما. وكان يقصّ عليّ مُغامراته المُشوِّقة، مِن دون أن ينسى تصوير أمّي وكأنّها التي وقفَت في درب تحقيق أحلامه، وأنّها ستفعل الشيء نفسه معي. ومرّة بعد مرّة، بتُّ أشعرُ بالامتعاض تجاه التي أعطَتني الحياة، وأراها وكأنّها إنسانة قاسية ومُتعجرفة. وصارَت مواعيد لقائي بأبي الشيء الوحيد الذي أنتظره، إلى حين هو أقنعَني بأن أعيش معه بصورة دائمة. عندها بدأَت معركتي مع أمّي لأنال ما أُريده، فهي مانعَت بشدّة. إستعمَلتُ معها شتّى الطرق، إلى أن هدَّدتُها بالانتحار إن هي لَم تقبَل، والمسكينة خافَت أن تفقِد ابنة أخرى، لِذا هي قبِلَت على مضَض بعد أن وعدتُها بقضاء الكثير مِن الوقت معها، إلا أنّني كنتُ لا أريدُ سوى الابتعاد عنها قَبل أن تبتلِعَني كما فعلَت بأبي.

إنتقلتُ للعَيش مع أبي بصورة دائمة، وكنتُ مُتحمِّسة جدًّا! الأيّام الأولى كانت رائعة، إذ أخذَني والدي إلى مطاعم جميلة وقمنا بنشاطات مُشوّقة، وأعترِف أنّني لَم أندَم أبدًا على ترك والدتي وجدَّيّ، بل العكس. والأمر الذي زادَ مِن سعادتي، هو أنّني كنتُ وسط الفرصة المدرسيّة الصيفيّة، أيّ لا مدرسة أو دروس وفروض أقومُ بها.

لكن بعد حوالي الشهر، قالَ لي أبي:

 

ـ حبيبتي... هناك شاب وسيم يُريدُ الارتباط بكِ رسميًّا.

 

ـ مَن؟ ولماذا؟ أنا لا أزال صغيرة يا أبي!

 

ـ كلام تافِه، ليس هناك مِن سنّ للزواج ما دامَ أبوكِ موافقًا. تعرّفي إليه أوّلاً ثمّ قرّري.

 

ـ لا يا بابا، لن أُفكّر بشيء على الاطلاق، فأنا لا أريدُ الزواج إلا بعد سنوات طويلة. أُريدُ إنهاء المدرسة ودخول الجامعة والعمَل و...

 

ـ ما هذا الكلام؟!؟ ستتعرّفين على مجد وحسب! إنّه ابن رجُل ثريّ ذي نفوذ كبير. أُريدُ مصلحتكِ يا حبيبتي، فهكذا فرصة لن تأتي مرّتَين.

 

ـ أبدًا!

 

في اليوم التالي دقّ بابنا مجد حاملاً باقة ورد. رحتُ أختبئ في غرفتي وسمعتُ أبي يقول له: "إبنتي خجولة كثيرًا بفضل تربية أمّها الحسنة". أيّ خجَل هو يتكلّم عنه؟ لن أتزوّج وحسب! وبعد رحيل ضيفنا، دخَلَ والدي غرفتي وبدأ يصرخ عليّ بغضب، فخفتُ منه. إلا أنّه هدأ فجأة وتغيّر صوته ليصير ناعمًا وقالَ: "حسنًا حبيبتي... لا تعتبريه عريسًا بل صديقًا. هو سيزورُنا لأنّ بيننا أعمالاً". لَم أُصدّقه طبعًا، لكنّني قبِلتُ أن أخرجَ مِن غرفتي حين يأتي مجد فقط مِن أجل أبي. لَم أُخبِر والدتي عن الأمر طبعًا وإلا طالبَت بعودتي إليها.

كان مجد شابًا غليظًا بقدر ماله الوفير، وعمِلتُ جهدًا كبيرًا لتحمّل وجوده. وكان والدي ممنونًا منّي ويبتسم كلّما قدّمتُ لضيفنا العصير أو الحلوى. لكنّني كنتُ أتفادى النظَرَ إلى مجد كَي لا يتصوّر أمورًا غير موجودة.

بعد حوالي الشهر، حين بدأتُ أتحضّر للعودة إلى المدرسة، خابرَتني إحدى صديقاتي تسألني لماذا تركتُ المدرسة. ماذا؟!؟ فلقد علِمَت أمّها بالأمر، لأنّها تعمَل سكرتيرة في المؤسّسة وحزِنَت صديقتي كثيرًا للخبر. طمأنتُها لكنّها أضافَت: "لقد قال أبوكِ إنّكِ ستنتقلين إلى مدرسة أخرى. ما الموضوع؟". ركضتُ عند أبي وهو أجابَ:

 

ـ أجل لن تعودي إلى تلك المدرسة أو أيّة مدرسة أخرى... فستتزوّجين قريبًا.

 

وقَبل أن اُجيبَ، حمَلَني بقوّة وأخذَني إلى غرفتي وأخَذَ هاتفي منّي ثمّ أقفلَ الباب عليّ قائلاً: "لن تخرجي مِن هذا المكان سوى لدخول بيتكِ الزوجيّ!".

بكيتُ كلّ دموعي، أوّلاً مِن خذلاني مِن أبي، ومِن ثمّ لأنّ ما مِن طريقة للهروب أو إعلام أحَد بالذي يحصلُ لي. فبيتُنا كان في طابق علويّ ولا أحَد مِن حولنا سوى على بعد كبير. يا إلهي... ماذا سيحصلُ لي؟!؟

بقيَ أبي يطرقُ باب غرفتي كلّ بضع ساعات، ليسألني إن كنتُ غيّرتُ رأيي، وبقيتُ أرفضُ بقوّة. هو لَم يُعطِني أيّ طعام بل فقط بعض الماء. للحقيقة، لَم أكن جائعة، إلا أنّني أدركتُ أن وقتًا سيأتي وأجوعُ. كيف لأب أن يفعل ذلك بابنته؟!؟ بقيتُ بلا أكل طوال يومَين وفقدتُ قوّتي تمامًا، لكنّني لَم أتراجَع! ويوم دخَلَ أبي غرفتي ليُعطيني ماءً، سألتُه:

 

ـ أنتَ أبي... ألا تُحبّني؟!؟

 

ـ إسمعي... أنتِ بالنسبة لي تذكرتي للبقاء خارج السجن، فأنا مُدين لأب مجد بمبلغ طائل، قصّة طويلة. لا آبه لكِ على الاطلاق، فلو عادَ الأمر لي، لمَا أنجبتُكِ وأختكِ.

 

ـ لا تتكلّم عن المسكينة أختي!

 

ـ ما حصَلَ لها كان مشيئة الله.

 

ـ بل قيادتكَ المُتهوّرة.

 

ـ أصمتي! أتعرفين شيئًا؟ لن أصبُر عليكِ طويلاً، فحتّى الآن اكتفَيتُ بحجزكِ، أمّا بعد ذلك، فسأضطّر لأذيّتكِ جسديًّا.

 

ـ ماذا؟!؟ ستضربُني؟!؟ أيّ صنف مِن الناس أنت؟!؟

 

ـ ستتزوّجين مِن مجد بالقوّة! لن أدخلَ السجن بسبب عنادكِ! أنتِ مُلكي وأفعلُ بكِ ما أشاء.

 

ـ سيعرفُ الناس أنّكَ تحتجزُني، فلَم أتكلّم مع أمّي منذ يومَين.

 

ـ دعي تلك الغبيّة لي، فأنا أعرف كيف أُقنِعَها بالذي أريدُه.

 

ـ كما أقنعتَها بعدَم ترككَ!

 

ـ أنا لَم أعُد أُريدُها ولَم أُصدّق أنّها رحلَت معكِ! لكن اليوم أنا بحاجة لكِ. مِن حسن حظّي أنّكِ كبرتِ لتصبحي جميلة، في حين كنتِ قبيحة للغاية في صغركِ!

 

ـ بالفعل أنتَ أب مُمتاز! لا تضيع وقتكَ معي، أفضّل الموت جوعًا على الزواج قسرًا.

 

ـ سنرى ذلك.

 

اليوم الثالث كان صعبًا جدًّا عليّ لكنّني تخطّيتُه. صلّيتُ أن تفهمَ أمّي أنّني لستُ بخير وأن تأتي لنجدتي. لكنّني كنتُ أعلَم كم أنّ والدي ماكِر وكاذِب، ولا بدّ أنّه طمأنَ بالها بفضل كذباته المُحكمة. يا رب، أنقذني مِن هذا المصير البائس!

 

يَتبَع...

المزيد
back to top button