بقيتُ أنتظرُ مِن زوجتي حنان أيّة مُبادرة حبّ واهتمام، إلى أن وصَلَ عيد الحبّ ووصلتُ أنا البيت مُحمّلاً بالهدايا والورود. قمتُ بذلك لأنّني، منذ فترة طويلة، لَم أحصل منها على إمتنان أو تقدير أو رومنسيّة مِن أيّ نوع. لكن في تلك السنة بالذات، وبعد عشر سنوات مِن زواج أصفُه بالبارد، مِن ناحيتها، صمَّمتُ على إتّخاذ موقف جِدّي.
فتحَت حنان لي الباب وهي بثياب البيت، الثياب نفسها التي ترتديها كلّ يوم بطوله، ونظرَت إلى الورود والأكياس بعدَم اهتمام، وسألَتني:
- ألَم تجلِب معكَ البطاطا التي طلبتُها منكَ؟ أين تفكيركَ؟ أحتاجُ إليها لأُكمِل طبختي للغد! صحيح أنّكَ غائب، حاضر! أدخُل.
شعرتُ بالغضب الشديد، ودخلتُ البيت حيثُ وضعتُ الورود والهدايا ثمّ خرجتُ مُجدّدًا، فلَم أعُد أتحمّل الخذلان. مشيتُ ومشيتُ وكدتُ أبكي، إلا أنّ عنفواني كرجُل لَم يسمَح لي بذلك. ثمّ رأيتُ مقهى مليء بالناس، فخطَرَ ببالي الدخول إليه لأحصل على بعض الرفقة ولو عن بُعد. جلستُ إلى إحدى الطاولات وطلبتُ فنجان قهوة، لكن بدلاً مِن ذلك، جلبَت لي النادلة قطعة حلوى كبيرة قائلة:
- أحد الزبائن يحتفلُ بعيد الحبّ مع زوجته، وجلَبَ قالب حلوى كبير جدًّا طالبًا توزيعه على جميع الموجودين هنا. أليس ذلك جميلاً يا سيّدي؟ آه كَم أنّ الحبّ يُسعدُ الإنسان!
هزَزتُ برأسي وابتسَمتُ قليلاً، ثمّ اختفَت النادلة داخل مطبخ المقهى. نظرتُ إلى صحني وقلتُ لنفسي: "مِن الظاهر أنّني سأحتفلُ بعيد الحبّ الليلة بالرغم مِن كلّ شيء! لنأكلُ مِن هذه الحلوى، قد يكون الحبّ مُعديًا وأحظى بالقليل منه."
وفي تلك الليلة، ظهرَت أمامي صورة تلك السكرتيرة الجميلة التي تعمَل في المكتب، والتي لا تنفكّ تحدّقُ بي كلّما مرَرتُ بالقرب منها والابتسام لي بوضوح. هي كانت بالفعل مُعجبة بي والكلّ في العمَل على علم بذلك، فأحَد زملائي قال لي ذات يوم:
- أحسدُكَ يا صاحبي... فتلك الصبيّة جميلة ورقيقة للغاية ولا تُريدُ سواكَ.
لَم أُعلِّق على كلامه لأنّني رجُل مُتزوّج وأب. وفي تلك الليلة، وأنا في المقهى، سألتُ نفسي إن كانت تلك السكرتيرة أكثر رومنسيّة مِن زوجتي، وكيف كانت ستتصرّف لو قدّمتُ لها ما قدمتُه لحنان في عيد الحبّ. تصوّرتُها مُرتدية فستانًا أحمر للمُناسبة، وحذاءً ذا كعب عالٍ وأحمر شفاه جريء. إبتسَمتُ للفكرة فعدتُ إلى البيت حيث وجدتُ زوجتي أمام التلفاز. هي لَم تفتَح الهدايا أو تضَع الورود في إناء مِن الماء. هزَزتُ برأسي أسفًا وخلدتُ إلى النوم.
في الصباح رحتُ بسرعة إلى المكتب، وانتظرتُ بفارغ الصبر تلك السكرتيرة التي وصلَت وجلسَت خلف مكتبها بعد أن بعثَت لي نظرات دافئة. آه... لو أستطيع أخذها بين ذراعَيّ والقول لها: "أتمنّى أن أُحَبّ". لكن سرعان ما تذكّرتُ أنّ لي زوجة وأولادًا. ربّما إذ تأكّدتُ مِن مشاعر تلك الصبيّة أستطيعُ أخذها زوجة ثانية، فبالتأكيد لن تُمانع حنان إذ علمَتْ أنّني سأظلّ أصرِف عليها وعلى البيت كعادتي. فهذا ما كان يهمّها قبل كلّ شيء. أنا لَم أسمَع منها يومًا كلمة جميلة تُعبّرُ عن حبّ أو تقدير ما. كان الأمر وكأنّ عليّ أن أكون ممنونًا فقط لوجودها معي، مع أنّها ليست امرأة مُميّزة بشيء. لكن ماذا لو لَم تكن السكرتيرة تشعُر تجاهي بأيّ شيء؟ إحترتُ لأمري وقرّرتُ التروّي، فقد أكون لا أزال تحت تأثير عيد حبّ قد فشِلَ فشلًا ذريعًا.
في المساء سألتُ حنان إن كانت الهدايا قد أعجبَتها وكذلك الورود، وهي أجابَتني بكلّ هدوء:
- أجل... لكنّني أعطَيتُ قارورة العطر لأختي والورود لزوجة الناطور، فأنا أكرَه كيف تذبل بسرعة، وتتساقط أوراقها في كلّ مكان وتفوح رائحة نتِنة منها.
هي لَم تلفُظ حتى كلمة شكر أو أسف على رمي أو إهداء هدايايَ، التي دفعتُ ثمنها مِن تعَبي واخترتُها مِن وقتي. أكملتُ وجبة العشاء ثمّ تحجَّجتُ بزيارة أصحابي ورحتُ أمشي كما في الليلة السابقة. وقفتُ أمام واجهة ذلك المقهى، وتذكّرتُ فرحة الموجودين فيه قبل ليلة لاحتفالهم بعيد الحبّ. وخلال تلك الوقفة، أدركتُ أنّ زواجي ليس ناجحًا وأنّني أستحقُّ أن أكون سعيدًا.
في اليوم التالي، تركتُ مكتبي متوجّهًا إلى مكتب السكرتيرة، وقلتُ لها مِن دون مُقدّمة:
- آنسة سلوى، هل تقبلين دعوتي للغداء اليوم عند استراحة الظهيرة؟
إبتسمَت لي الصبيّة وقبِلَت بسرور.
صرتُ أُقابِل سلوى كلّ يوم ظهرًا ونتكلّم عن أنفسنا وعن مئة موضوع. وخلال تلك الجلسات، شعرتُ أنّني رجُل آخر. كنتُ أضحَك وأمزَح وأنسى كلّ شيء معها. الشيء الوحيد الذي كان يُحزنُني كان التزامي بالعودة إلى البيت بعد الدوام. فذلك عنى العودة إلى زوجة وأولاد لا يعون وجودي بل يهمّهم فقط كَم أجني مِن المال. وسرعان ما لَم أعُد أطيقُ كلّ ما يتعلّق بزواجي مِن بعيد وقريب، وأنتظرُ بفارغ الصبر التواجُد مع سلوى.
آه... يا سلوى... شباب وجمال ورقّة، كلّ ما يتمنّاه الرّجُل! أمّا حنان، فكانت جافّة وقاسية ومُترهّلة الوجه والجسَد والرّوح. فلا لزوم للتفكير بأيّة منهما سأختار! لِذا طلبتُ مِن سلوى أن تصبَح زوجتي، شرط ألا تطلُبَ منّي أن أُطلِّق أمّ أولادي، وهي قبِلَت بفرَح واضح. بقيَ عليّ أن أزفّ الخبر لحنان، وخفتُ طبعًا مِن ردّة فعلها. إلا أنّ حماسي لزواجي القريب أعطاني القوّة اللازمة لمواجهة زوجتي. وذات يوم، أخذتُ إجازة مِن عملي مُدّعيًا المرَض، لأتكلّم مع حنان بينما يكون أولادنا في المدرسة، فكنتُ أتوقّع منها ردّة فعل قاسية لا بل عنيفة. إلا أنّني تفاجأتُ بها تقولُ لي بهدوء:
ـ تُريدُ الزواج مِن أخرى... أظنُّ أنّها أصغر منّي سنًّا أليس كذلك؟
ـ أجل لكن...
ـ وهي لُم تُنجِب وتُربِّ، أم أنّني مُخطئة؟
ـ صحيح ذلك لكنّني...
ـ وهي تضَع المساحيق وتلبسُ الفساتين الجميلة، لأنّها نامَت نومًا هنيئًا وطويلاً بسبب عدَم وجود مسؤوليّات وواجبات، كحمّام الأولاد وتدريسهم بعد ترتيب البيت وتنظيفه وطهو وجبة الطعام.
ـ كلّ ما تقولينَه صحيح إلا أنّ المشكلة بيننا...
ـ أتعني عدَم اكتراثي لكَ بالتحديد؟
ـ أجل!
ـ كَم أنّكَ أنانيّ بالفعل! دعني أُذكّرُكَ ببعض محطّات زواجنا، وسنحكمُ بعد ذلك مَن منّا لا يكترثُ للآخر.
ـ تكلّمي.
ـ حسنًا... لقد ربَّيتُ ثلاثة أولاد لوحدي... دعني أكمل! ولَم أكن أُريدُ إلا ولدًا أو إثنَين على الأكثر، لكنّني اقتنعتُ بالإنجاب مُجدّدًا لأنّكَ وعدتَني كاذبًا بأنّكَ ستجلب لي مَن يُساعدني. لكنك لَم تفعَل، ليس لقلّة المال بل لأنّكَ ارتأيتَ أنّ لا لزوم لذلك، فحسب قولكَ "كلّ النساء تنجِبنَ أعدادًا مِن الأولاد ولا تتذمَّرنَ مِن ذلك". بسببكَ، باتَت حياتي تقتصر على الأعمال المنزليّة وتربية الأولاد، بينما أنتَ قضَيتَ الفترات الصعبة مِن صراخ وبكاء الأطفال في غرفة أخرى. وقضَيتَ أوقاتًا مُسلّية مع أصحابكَ، بينما أنا لزِمتُ البيت مع أولادنا. إضافة إلى ذلك، أُذكّرُكَ بتذمّركَ كلّما أصابَتني وعكة صحّيّة لأنّكَ، وحسب قولكَ أيضًا، لستَ مُجبرًا على الاهتمام بأولادكَ. وهل نسيتَ كَم مِن مرّة تغاضّيتَ عن عيد ميلادي أو عيد زواجنا؟ آه... كدتُ أنسى! وهناك أعياد أولادنا التي قضَيتَها في عملكَ.
ـ لكنّني تذكّرتُ عيد الحبّ هذه السنة ولقد جوبهتُ ببرودة مِن جهتكِ.
ـ تراكمات سنوات تُريدُها أن تُزال بباقة ورد وهديّة؟ أُريدُ زوجًا فعليًّا وليس هدايا. إذهب إلى تلك العروس، فلَن يتغيّر شيء بالنسبة لي، صدّقني.
ـ يا لنكران الجميل!
ـ أيّ جميل؟!؟ وهل الزواج والإنجاب خدمة لأربحَ لكَ جميلاً؟ أنسيتَ أنّكَ أحبَبتني إلى حدّ الجنون، ورغبتكَ بالأولاد نابعة مِن رؤية ثمار حبّنا؟ أنتَ تصرف على عائلتكَ لأنّ ذلك دوركَ كربّ عائلة، كما أنّ دوري هو الاهتمام أيضًا بعائلتي. إسمَع... وتذكّر كلامي جيّدًا... عروسكَ الحسناء لن تبقى حسناء في نظركَ مُطوّلاً، بل ستراها على مرّ السنوات كما تراني، وتستاء منها كما تستاء منّي، لأنّ المشكلة تكمنُ فيكَ أنتَ. هيّا، خُذ أمتعتكَ وارحَل، فأنا أعيشُ مِن دونكَ منذ سنوات وأقومُ بكلّ شيء بنفسي. لن أشعُر بأيّ فرق، لا بل سأرتاحُ مِن لقب "إمرأة مُتزوّجة" أحملهُ مِن دون جدوى.
ـ يعني ذلك أنّني لستُ نافعًا؟!؟
ـ أنتَ قلتَها.
غضبتُ كثيرًا مِن كلام حنان، فلَم أتوقّع ردّة فعلها هذه، بل حسبتُها ستبدأ بالبكاء والنحيب والتهديد. لكن شيئًا آخر أزعجَني: كلام زوجتي كان في مكانه. لكن عدتُ ونزعتُ تلك الحقيقة مِن رأسي، لحظة تذكّرتُ حبيبتي سلوى ورقّتها ورائحتها الرائعة.
أخذتُ بعض الأمتعة لأضعَها في الشقّة التي استأجرتُها لزواجي القريب. وفي المساء، رحتُ أودّعُ أولادي واعدًا إيّاهم بأنّني سأراهم باستمرار وسأظلّ أصرفُ عليهم كما في السابق. هم بكوا كثيرًا، الأمر الذي أتعسَني. حنان بقيَت في غرفة النوم، فرحلتُ مِن دون أن أراها.
بعد أسبوعَين على التمام، عقدتُ قراني على سلوى. ولو ترَون وجهي حينها، لقرأتم عليه أقصى علامات الفرَح والانتصار. فرَح لَم يدُم بالقدر الذي تصوّرتُه.
يتبع...