أريد استرجاع عائلتي!

ذقتُ مرارة الحرب التي لا ترحم أحدًا، خاصّة الأبرياء الذين يقعون ضحيّة أحقاد كانت نائمة في نفوس الكثيرين. فوسط ضوضاء عدم المحاسبة، إستغلّ أعداء لي الفرصة وقد حسبتُهم أصدقاء لي، لزجّي في سجن لا يعرف القيّمون عليه الرحمة أو العدالة.

إنّ قصّتي هي قصّة الكثير مِن الشعوب التي عانَت بصمت، بعدما اختفى صوتهم تحت دويّ الرصاص والقمع.

فذات ليلة، بينما كنتُ عائدًا مِن عملي إلى عائلتي التي كانت بانتظاري لتناول العشاء، أوقفَني رجال بلباس شرطة. أنزلوني عنوة مِن السيّارة، ومِن دون أن يعطوني أيّ تفسير، إقتادوني إلى سجن لم أكن أعلم حتى بوجوده. وأظنّ أنّ لا أحد كان يعرف أنّ مكانًا كهذا موجود فعلاً، لأنّه كان مخصّصًا لأعداء الدولة الذين يجب إسكاتهم بعيدًا عن علم منظّمات حقوق الإنسان. لكن لم يكن لي دخل بالسياسة أو بأي تحرّك مناهض للحكم، بل كنتُ موظّفًا بسيطًا لا يتعاطى سوى بعمله وعائلته.

حاولتُ إفهام سجّانيّ أنّهم أخطأوا حتمًا بشخصي، وأنّهم يبحثون عن رجل غيري قد يحمل الاسم نفسه، لكنّهم لم يُجيبوني بل اكتفوا بضربي لإسكاتي. ومع الوقت، تعلّمتُ ألا أكثر مِن الكلام، بل أن ألزم الصمت لأتجّنب ذلك العنف المجّانيّ.

تفكيري كلّه كان متوجّهًا نحو عائلتي الحبيبة وأمّي العجوز. فكيف لهم جميعًا أن يستمرّوا مِن دوني، أنا الذي كنتُ معيلهم الوحيد؟ بكيتُ ليال طويلة وأنا أتصوّر ضياعهم وتساؤلاتهم بشأن اختفائي. نعم، لم أفكّر بنفسي بل بهم. هكذا كنتُ ولا أزال: رجلاً محبًّا وحنونًا ومعطاءً. ومرَّت الأشهر والسنوات وأنا مدفون حيًّا في سجن إلى جانب أناس مثلي. فلَم يكن في زنزانتي مجرمون أو تجّار مخدّرات، بل أشخاص إمّا أبرياء كليًّا أو مِن الذين لم يُوافقوا على ما يجري في البلد.

وذات يوم، مِن دون إنذار أو تفسير، فتحوا لنا أبواب الزنزانة وقالوا لنا: "هيّا! أخرجوا! لم نعد قادرين على إطعامكم... فلا منفعة منكم بتاتًا!" خرجتُ غير مصدّق الخبر، وخلتُ فعلاً أنّها مكيدة لقتلنا خارج المبنى للتخلّص منّا. إلا أنّ الأمر كان حقيقيًّا، ووجدتُ نفسي في الهواء الطلق بعد خمس سنوات مِن العَيش في الظلام والقلّة والتعرّض للضرب. بكيتُ كالطفل، وشكرتُ السماء على تلك الهديّة التي لا تُقدّر، وركضتُ أوقِف سيّارة لتقلّني إلى عائلتي الحبيبة. صحيح أنّني لم أكن أملك شيئًا لكنّني كنتُ حرًّا أخيرًا.

 


عندما وصلتُ إلى البيت وجدتُه خاليًا، وعلِمتُ مِن الجيران الذين تفاجأوا لكَوني لا أزال حيًّا أنّ عايدة، زوجتي، وأولادي ترَكوا المسكن منذ سنتَين للذهاب إلى مكان آخر أكثر أمانًا خارج الحدود. سألتُهم عن أمّي التي كانت تسكن معنا، وعلِمتُ للأسف أنّها توفَيت مِن حزنها عليّ. فالجميع خالَني ميتًا، بعدما بحثوا عنّي ولم يجدوا أثرًا لي. جلستُ على السلّم أبكي بمرارة على فقداني والدتي الحبيبة وعائلتي. أدخلَني الجيران وأعطوني ما آكله وبعض الثياب النظيفة. لم أشأ أن أبيتَ عندهم، لكنّني قبلتُ المال الذي عُرِضَ عليّ. بعد ساعات قليلة ذهبتُ أبحث عن طريقة لإيجاد زوجتي وأولادي.

قصدتُ أخ عايدة الذي لم يترك البلد، وبعد أن تفاجأ هو الآخر بي واستمَعَ إلى قصّتي المحزنة، قبِلَ أن يقول لي أين أحبّائي. كان العنوان تقريبيًّا، فهو فقَدَ الاتصال بأخته، مرجّحًا أنّها انتقلَت إلى مسكن آخر. أعطاني بدوره بعض المال، وشرَحَ لي كيف أصل إلى أناس عملهم نقل مَن يُريد إلى ما وراء الحدود. شكرتُه كثيرًا وقبِلتُ دعوته لقضاء الليل عنده.

في الصباح الباكر، غادَرتُ وسكّان البيت نيامًا، وبحثتُ عن مهرّبيّ البشَر الذين كانوا، شأن كل مَن يستفيد مِن يأس الناس، بلا رحمة. أخذوا كلّ ما لدَيَّ ووضعوني في مؤخّرة شاحنة نتنة ومظلمة، وقادوا بي ساعات طويلة قضيتُها بالخوف والجوع. وفجأة توقّفَت الشاحنة، وأنزلوني وسط حرج قطعتُه بصعوبة كبيرة لأصل إلى طريق واسعة لا أحد فيه أسألُه عن وجهتي.

مشيتُ كثيرًا، وخلتُ أنّني سأقع أرضًا مِن التعب، إلا أنّ سائقًا أشفقَ عليّ وأخذَني معه حتى المدينة. كان الرجل يعمل بين البلدَين ويجيد العربيّة. أخبرتُه قصّتي وصمّم على مساعدتي، فلَم أكن أتكلّم لغة البلد. وجَدنا أخيرًا الشارع الذي سكَنَته عائلتي فور وصولها، وهناك أخَذنا ندقّ باب الجيران حتى وقعنا على مَن استطاع أخبارنا أين زوجتي وأولادي. بعد ذلك، تركَني السائق ودعا لي بالتوفيق. ولم ينسَ أن يُعطيني مالاً لسيّارة الأجرة التي كانت ستجمعُني أخيرًا بعائلتي.

عندما أوقفَتني سيّارة الأجرة أمام عنوان زوجتي وأولادي، بدأ قلبي يدّق بسرعة لم أتصوّرها ممكنة. في تلك اللحظة، نسيتُ السجن والضرب والجوع وسنين الفراق. إمّحَت الذكريات البشعة بلحظة، ليحلّ مكانها الأمل بغَد جميل.

إلا أنّني تفاجأتُ بضخامة البيت والحديقة التي تحيط به، وتساءلتُ كيف لزوجتي أن تسكن في هكذا مكان، وخلتُ طبعًا أنّها تعمل هناك كمدبّرة منزل أو طاهية. لكن عندما قرَعتُ الباب، فتحَت لي عايدة وبالكاد تعرّفتُ إليها، لأنّها بدَت لي أنيقة للغاية ومبرّجة بطريقة لم أرَها مِن قبل. لم تكن تبدو وكأنّها عاملة في ذلك البيت بل مالكته، إلا أنّني ابتسمتُ لها قائلاً: "لقد عدتُ يا حبيبتي!".

نظَرَت زوجتي إليّ وكأنّها رأت شبحًا، لأنّها كالآخرين ظنَّت أنّني ميّت. توقّعتُ منها أن تعانقَني وتقول لي كم هي فرحة لأنّني لا زلتُ على قَيد الحياة وكم اشتاقَت إليّ. لكن بدل ذلك، فتحَت عينَيها قائلة: "ماذا تفعل هنا؟!؟". سادَ سكوت رهيب لم أعرف خلاله بماذا أجيب لكنّني استطعتُ القول:

 

ـ لقد أفرجوا أخيرًا عنّي... فتّشتُ عنكم في كلّ مكان واستطعتُ العبور إليكم، وها أنا، يا حبيبتي. أين الأولاد؟ أريد رؤيتهم وضمّهم إلى صدري!

 


ـ إنّهم في مدارسهم... إسمع... لقد حدثَت أشياء كثيرة خلال غيابكَ.

 

ـ أعرف، لقد ماتَت أمّي.

 

ـ ليس ذلك فقط. أدخل.

 

دخلتُ البيت الفخم، وخفتُ أن أكون قد فهمتُ الذي تنوي عايدة قوله لي، لكنّني تأمَّلتُ أن أكون مخطئًا. جلَسنا في صالون لم أرَ مثله في حياتي، ونادَت زوجتي الخادمة لتجلب لنا الشاي. ثمّ قالَت لي:

 

ـ كلّ ما تراه هنا هو لي، أقصد لنا... أنا وزوجي.

 

ـ زوجكِ؟ أنا زوجكِ!

 

ـ حسبناكَ ميتًا، عندما لَم نجدكَ في أي مكان... إنتظرتُ سنينًا طويلة ومِن بعدها قرّرتُ البدء مِن جديد. لا تستطيع لومي فقد كان عليّ تأمين حياة آمنة وكريمة لأولادنا. تعرّفتُ إلى زوجي صدفة، وهو أحبّني كثيرًا وجلَبَنا للعَيش في هذا البيت الجميل. أولادنا يذهبون إلى أفضل المدارس ويحصلون على ما يريدونَه.

 

ـ هل تحبّينَه؟ أجِيبي!

 

ـ أجل، فهو أنساني حزني وحيرتي وعذابي مع أطفال صغار وسط حرب لا ترحم.

 

ـ ها قد عدتُ فلا حزن بعد الآن!

 

ـ تريدني أن أعود إليكَ؟ وماذا سأقول لأولادنا؟ تعالوا نترك هذه العيشة المريحة والجميلة مِن أجل العَيش بفقر؟ هل لدَيكَ ما يلزم لإيجاد المسكن والمدارس والأكل والشرب؟ لا أرى حقيبة معكَ... أين ملابسكَ وممتلكاتكَ؟ تريدنا أن نموت معك جوعًا؟

 

ـ وما ذنبي إن كنتُ وقعتُ ضحيّة الفساد والظلم؟

 

ـ وما ذنبنا نحن؟ ألا يكفيانا ما مرَرنا به؟ أتركنا بسلام، أرجوكَ.

 

ـ تعلمين أنّ زواجكِ مِن ذلك الرجل باطل، فلا أزال زوجكِ الشرعيّ.

 

ـ صحيح ذلك... لكنّني أعرفكَ جيّدًا وأعرف أنّكَ توافقني الرأي. إرحل عالِمًا أنّ أولادكَ سيحظون بالأفضل وبفرصة بحياة هنيئة. إفعل ذلك مِن أجلهم وليس مِن أجلي.

 

ـ هذا يعني أنّني لن أراهم مجدّدًا.

 

ـ لقد اقتنعوا بأنّكَ متَّ، وحزنوا عليكَ كثيرًا، ويُبقون ذكراكَ حيّة، وأنا لبِستُ الأسود وبكيتُ على فقدانكَ.

 

ـ لكنّني لم أمت!

 

ـ بلى، لقد متَّ بالنسبة إلينا.

 

وبعد أن تفوّهَت بتلك الكلمات المؤلمة، وقفَت عايدة مشيرة بذلك إلى نهاية حديثنا ووجوب مغادرتي. خرجتُ بصمت وهي لم ترَني أبكي.

لكنّني بقيتُ بجوار البيت مختبئًا حتى حانَ موعد عودة الأولاد مِن المدرسة. كنتُ قد انتظرتُ سنوات طويلة لضمّهم إلى صدري وتقبيلهم ألف قبلة، وها أنا أكتفي بمشاهدتهم عن بعد. نزلوا مِن سيّارة فخمة يقودها سائق أنيق، وركضوا إلى باب البيت. كانوا قد كبروا ويبدون سعداء. فتحَت لهم عايدة وابتسمَت بحنان. دخلوا جميعًا وأقفلوا الباب وراءهم. وفي تلك اللحظة أدركتُ أنّني لم أعد أملك مكاني في وسطهم، وأنّ مِن الأفضل تركهم يعيشون حياتهم.

مسَحتُ دموعي وتركتُ الحيّ الفخم الذي لم يكن يليق برجل بمثل حالتي. درتُ على المحلات والشركات والمعامل حتى وجدتُ عملاً بتحميل البضائع مِن مستودع إلى المرفأ وبالعكس. سكنتُ في شقّة أتقاسمُها مع عمّال آخرين، وبدأتُ أتعلم اللغة وصرتُ أذهب يوميًّا لمراقبة أولادي في موعد رجوعهم مِن المدرسة.

ولكن سيأتي يوم وأتجرّأ فيه على التكّلم معهم، وأنتظر حتى يكبروا ليستوعبوا الحقيقة. وإلى ذلك الحين، سأعيش بأمل رؤية نظرة حب في عيونهم وأسمعُهم ينادوني "بابا".

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button