لَم تظهَر الخلافات بيني وبين زوجي إلا بعد عشر سنوات. كيف بقيَت هذه المشاكل مخفيّة حتى ذلك الحين؟ ربمّا لأنّ وائل كان شديد الإنشغال بأعماله وأنا بأولادنا، ولأنّ أحاديثنا كانت تقتصرُ على مواضيع حياتيّة بحتة. وعندما تغيّرَت حياتنا وصارَت أفضل بكثير وكبُر الأولاد، بدا الأمر وكأنّني تزوّجتُ مِن رجل لا أعرفُه. حاولتُ جهدي التأقلم مع إنسان لا يهمُّه سوى نفسه ولا يُبالي بعائلته، لكنّني لَم أعُد سعيدة معه. فقد شعرتُ بوحدة قويّة بعد أن أدركتُ أنّ كلّ ما فعلتُه وأفعلُه مِن أجل زوجي وأولادنا وكأنّه ليس موجودًا، بل أنّني، بنظر وائل، إمرأة لا تُجيدُ فعل شيء أو لا تنفعُ حتى لحياة "تَعِبَ هو لتحسينها". هكذا إذًا... أصبحتُ العنصر غير النافع الذي لَم يُحقّق شيئًا، بل تفرَّجَ واستفادَ مِن نجاح رجل أعمال عصاميّ.
رفضتُ هذه المُعادلة الإزدرائيّة، الأمر الذي لَم يُعجِب زوجي الذي اعتادَ أن أقبَل منه كلّ شيء وأن أسكتَ عن أنانيّته. حتى حياتنا الجنسيّة أمسَت مملّة وشبه موجودة، بعد أن بدأ وائل يفضّلُ النوم على أنوثتي. وصرنا نتشاجر بقوّة. كلّ ما كنتُ أريدُه منه هو أن يُقدّرني كما أقدّرُه، إلا أنّه لَم يكن يرى مُبرّرًا لذلك. كان يرى أنّ وحده هو الكفوء الذي يستحقُّ التبجيل.
وبعد أكثر مِن سنتَين على هذا النحو، وبعد أن سئِمَ أولادنا مِن أصواتنا المُتعالية والإتهامات المُتبادلة، قرّرتُ الذهاب وزوجي إلى مَن باستطاعته إصلاح زواجنا. أخذتُ موعدًا مع أخصّائيّة أسرة قرأتُ عنها في إحدى المجلات، وبدأتُ عمليّة إقناع وائل بزيارة تلك الطبيبة. فعَلَ ذلك لإسكاتي ولينعَم براحة بال عزيزة على قلبه.
جلستُنا الأولى كانت رهيبة، إذ انتابَ وائل غضب شديد حين سألًته رندا الأخصائيّة أمامي بعض الأسئلة الشخصيّة، ورفَضَ الإجابة وأدارَ إصبع الإتهام نحوي في كلّ مشاكلنا. طلبَت منّي عدَم الإجابة على تهجّماته، بل الإستماع إليه بصمت. وحين جاءَ دوري لشَرح ما يُزعجُني بعلاقتي الزوجيّة، بدأ وائل بالتهكّم ومِن ثمّ أرادَ قطع الجلسة والرحيل. عندها عرضَت عليه رندا المجيء بمفرده في المرّة القادمة، وهو لَم يُمانع. عُدنا إلى البيت صامتَين ولَم نتكلّم بالموضوع.
صارَ زوجي يذهب إلى جلساته مرّتَين بالأسبوع، وكان سيحين دوري بعدما تكوّنُ الأخصائيّة صورة واضحة للمشكلة. كنتُ آملُ أن نصل إلى نتيجة سريعة وإيجابيّة، فأنا لَم أكن اريدُ أن يستمرّ الوضع على ما كان عليه أو أن أخسر الرّجل الذي أحبَبتُه.
لاحظتُ تغيّرًا بسيطًا في طباع زوجي بعد جلسته الثالثة، وزادَ أمَلي بالنجاح. فهو لَم يعُد إستفزازيًّا بل صار هادئًا وباتَ يُعيرُني أهميّة أكبر. فارتاحَت الأجواء في البيت ولَم نعُد نتشاجر كالسابق. عندها، رحتُ أشتري لنفسي فساتين جديدة وملابس داخليّة مُغرية بانتظار أن نعاوِدَ حياتنا الحميمة. لكنّ قابليّة وائل لي لَم ترجَع، فقرّرتُ الإنتظار إلى حين تصل الطبيبة إلى صلب المشكلة وتُزيلُها.
وما حدَثَ بعد ذلك لَم يكن أبدًا بالحسبان، فكيف لي أن أتصوّر ولو للحظة أنّ زوجي سيأتي إليّ بخبر كهذا.
فذات مساء، جلَسَ وائل بالقرب منّي على الأريكة وقال لي:
ـ أنا راحل.
ـ إلى أين يا حبيبي؟
ـ أقصدُ أنّني سأتركُ البيت.
ـ ماذا؟!؟
ـ أجل، أريدُ الطلاق. لدَيَّ حياة واحدة وأريدُ أن أعيشها كما أريدُ... وأنتِ لستِ جزءًا منها.
ـ والأولاد؟!؟
ـ سيبقون معكِ طبعًا. سأراهم بين الحين والآخر، بعدما أعتادُ على حياتي الجديدة.
ـ ماذا دهاكَ؟ لماذا الآن؟ ما الذي حصل؟
ـ وقعتُ في الحبّ... أجل، أحبّ رندا وهي تُحبُّني.
ـ رندا الطبيبة؟!؟
ـ أجل. أنا آسف، لكنّها المرأة التي أريدُها والتي لا يُمكنُني العيش بدونها.
ـ وعرفتَ ذلك مِن بضع جلسات؟
ـ أجل. أرجوكِ، لا تُجادليني، فلَن أغيّر رأيي
بالرّغم مِن صدمتي الكبيرة، فهمتُ أنّ زوجي قد تعلّقَ بمعالجته كما يجري للعديد مِن الناس، بعد أن يكونوا قد أفرغوا ما في داخلهم لشخص جدير بالثقة. وهذا التعلّق قد يُفسَّر بأنّه حبّ، إلا أنّ ذلك الشعور يزولُ بسرعة. لِذا اتّصلتُ برندا لأطلعُها على المُستجدّات وأعرف منها ما الموقف الذي عليّ اتّخاذه حيال وائل:
ـ دكتورة رندا، قال لي وائل إنّه مُغرمٌ بكِ وسيتركُني مِن أجلكِ... ما عليّ فعله؟
ـ لا شيء، لا شيء... عليكِ تقبّل الوضع.
ـ يعني ذلك أنّني سأتركُ زوجي يتصوّر أنّ بينكما علاقة؟
ـ هذا ليس تصوّرًا بل حقيقة، نحن فعلاً على علاقة.
ـ ماذا؟!؟ أخذتِ زوجي منّي؟!؟
ـ لَم أُجبِره على شيء، ولو كنتِ قادرة على إبقائه معكِ، لمَا حصَلَ شيء بيننا. أنتِ زوجة فاشلة.
ـ بل أنتِ طبيبة فاشلة! سأشتكي عليكِ عند نقابة الأطبّاء، وسينتزعون منكِ إجازتكِ، فما تفعلينَه مُنافٍ لأخلاقيّات المهنة.
ـ إن فكّرتِ حتى بالإبلاغ عنّي، سأحملُ وائل على أخذ أولادكِ منكِ.
ـ وماذا ستفعلين بثلاثة أولاد؟
ـ سأضعُهم في مدرسة داخليّة. أهذا هو المصير الذي تُريدينَه لأولادكِ؟
ـ لا... بالطبع لا.
ـ إذًا إنسِ أمر وائل وتابعي حياتكِ... وإلا!
عندها فهمتُ خطورة وضعي ووضع زواجي وأولادي. وما عساني فعله عندما لَم يعُد زوجي يُريدُني، ويمضي بعلاقة مع إنسانة معدومة الأخلاق والشفقة؟ قبِلتُ بالطلاق والحزن يملأ قلبي. يا لَيتني لَم آخذ وائل عند رندا! لكن كيف لي أن أتكهّن بالذي سيحصل؟ فالملايين مِن الناس يذهبون إلى أطبّاء نفسيّين ولا ينتهي الأمر بهم بترك عائلتهم.
رحَلَ وائل وبالكاد ودَّعَ أولاده، ولَم نسمَع منه بل اكتفى بإرسال المال لنا شهريًّا عن بُعد. كان قد حذفَنا مِن حياته بصورة دائمة.
لكن بعد أقلّ مِن ستّة أشهر، وصَلتني رسالة على هاتفي مِن زوجي السابق تقول: "علينا الجلوس سويًّا، فلدَيَّ ما أقوله لكِ". رفضتُ رؤية الرّجل الذي رمى عشرة سنين مِن زواج وحبّ، لكنّه وعَدَني بأنّها ستكون المُقابلة الوحيدة وبأنّه سيختفي بعد ذلك نهائيًّا. وأقنعَني عندما طلَبَ منّي أن أراه مِن أجل أولادنا.
في ذلك اليوم، كنتُ خائفة جدًّا. ما الذي كان يُخفيه وائل؟ هل كان سيقطعُ عنّا المال أو يأخذُ الأولاد منّي؟ رحتُ إلى الموعد وقلبي يدقُّ بسرعة فائقة، وتحضّرتُ لخوض معركة شرسة معه.
جلَسنا في مقهى وكان الجوّ مُشنّجًا للغاية. كان وائل مُربَكًا وغير قادر على البدء بالكلام. قلتُ له:
ـ ما الأمر؟ ماذا تُريدُ؟ ألَم يكفِكَ ما فعلتَه بنا؟
ـ أريدُكِ أن تعلمي أنّني آسف... آسف جدًّا، ونادِم. أجل، ما فعلتُه بكم لا يوصَف.
ـ هل سئمتَ مِن عشيقتكَ؟
ـ بل استيقظتُ مِن الغيبوبة التي وضعَتني فيها رندا. تلك المرأة علِمَت كيف تتلاعب بعقلي وشعوري، فهذه مهنتها.
ـ أتريدُ إقناعي بأنّها المُذنبة الوحيدة؟ وهل كلّ مَن يذهب إليها يتركُ عائلته؟
ـ بالطبع لا... فهي رأَت فيّ المؤهّلات المطلوبة.
ـ ولماذا تفعل رندا ذلك؟ وما حاجتها إليكَ؟
ـ لقد استفادَت منّي كثيرًا... أخذَت مالي والشقّة التي نملكُها على الشاطئ.
ـ ماذا؟!؟ الشقّة التي طلبتُ منكَ أن تكتبها بإسمي ورفضتَ؟!؟
ـ أجل... كَم أنّني غبّي! وعندما رأت عشيقتي أنّه لَم يعُد هناك مِن منفعة منّي، تركَتني.
ـ وعُدتَ إليّ... عُدتَ عندما لَم يعُد يُريدُكَ أحد. واعتقدَتَ أنّني سأفرحُ بكَ؟
ـ لستُ أدري.
ـ إسمَع... ذهابنا إلى طبيبة نفسيّة سببه وجود مشاكل بيننا. فأنتَ إنسان أنانيّ لا احترام له لأمّ أولاده وتعَبها. أنتَ مِن صنف لَم يعُد له وجود بعد أن أدركَ الرّجال أنّ النساء هم نصف المجتمع. أنسيتَ تعَب أمّكَ عليكَ؟ لولاها هل كنتَ ستكبر لتصبح رجلاً ناجحًا؟
ـ لا
ـ مَن سهِرَ عليكَ ومَن حضَّر طعامكَ ومَن درّسَكَ ومَن حضنَكَ عندما كنتَ تقَع وأنتَ تلعَب، وعندما كنتَ حزينًا؟
ـ أمّي
ـ صحيح... وهذا ما أفعلُه لأولادي... ولكَ، فأنتَ ككُلّ الرجال لا تزال ولدًا صغيرًا في قلبكَ وعواطفكَ. شدَّكَ الجنس إلى تلك الطبيبة؟ وماذا ينقصُني لأفعل معكَ ما فعلَته هي؟ لو أعطَيتَني حقيّ بالأنوثة، لأرَيتُكَ ما يُمكنُني فعله في غرفة النوم.
ـ سامحيني
ـ أُسامحُكَ لِتعود ذلك الرجل البغيض الذي يُقلّلُ مِن شأني كلّما أُتيحَت له الفرصة؟ لا شكرًا!
ـ أعدُكِ بأن...
ـ واصدّقُكَ؟
ـ جرّبيني، فليس هناك مِن خسارة. وإن فشلتُ في الإمتحان، إرميني خارجًا. لقد عرفتُ مدى حبّي لكِ وللأولاد، لا تحرميني مِن فرصة ثانية... أرجوكِ!
وبدأ وائل بالبكاء، وهو شيء لَم يفعله مِن قبل.
لَم أفكّر بنفسي بل بأولادنا الذين لَم يفهموا سبب رحيل أبيهم. هل يحقُّ لي أن أحرمهم منه بسبب كبريائي؟ وما ذنبهم باختياري له زوجًا لي؟
لقد مضى على عودة وائل حوالي التسع سنوات. حياتنا في البدء كانت صعبة، لأنّني حجَبتُ عنه مشاعري وجسَدي كي لا يؤذيني مُجدّدًا. لكن عندما رأيتُ كيف تغيَّرَ معنا جميعًا، فتحتُ له قلبي شيئًا فشيئًا.
نحن اليوم أفضَل زوجَين، وأنا إمرأة سعيدة، فحياتنا مليئة بالحبّ والتفاهم، وكأنّنا لَم نمضِ مع بعضنا عشرين سنة، بل لا نزال في شهر العسل.
لَم أشتكِ على رندا، بل حذَّرتُ كلّ مَن حولي منها واتّكلتُ على سرعة وفعاليّة إنتشار الخبر، وأنا متأكّدة مِن أنّها لَم تعد تستقبل إلا القليل مِن المرضى.
لكن مِن جهّة أخرى، لولاها لَما صارَ زوجي أفضل الأزواج!
حاورتها بولا جهشان