كان اسمها داليا وكانت إحدى زميلاتي في الجامعة. والغريب في أمرها أنّها لَم تكن جميلة بالمعنى التقليديّ أو تملكُ قوامًا مُلفِتًا، إلا أنّها كانت دائمًا مُحاطة بالشبّان الذي رموا نفسهم عليها وتحت أقدامها. وهي كانت بمثابة لغز بالنسبة لي، فعلى عكسها كنتُ أنا جميلة ملامِح والشكل، إلا أنّني كنتُ أفتقدُ للمُعجَين، وأخشى أن أبقى على هذا الحال لمدّة طويلة. راقبتُ تلك الصبيّة عن كثب لمعرفة سرّها، وارتأيتُ أنّ عليّ، على الأرجَح، التقرّب منها.
وبعد فترة، صِرتُ فردًا مِن دائرتها. وأعترفُ أنّ الأمر أعجبَني، فشلّة داليا كانت مُؤلّفة مِن الطلاب المُميّزين، ليس مِن حيث علاماتهم بل لأناقتهم وشعبيّتهم. أحاطَني هؤلاء واستقبلوني برحابة صدر، ربّما لأنّني كنتُ جميلة، الأمر الذي زادَ مِن قيمة المجموعة. وحدها بقيَت داليا بعيدة عنّي، وأظنُّ أنّها كانت تدرسُني لتعرفَ إن كنتُ أستحقّ صداقتها. لكن ذات يوم، رحّبَت بي علنًا مُعطية بذلك بركتها لوجودي معها.
وذات يوم، تشجّعتُ وقلتُ لها:
ـ يا داليا... ما سرّكِ؟
ـ ماذا تقصدين؟
ـ أعني أنّ الشبّان كلّهم مُتيّمون بكِ مع أنّ...
ـ مع أنّني لستُ جميلة مثلكِ؟
ـ لا... أعني...
ـ بلى، هذا ما قصدتِه وأنتِ على حقّ، فأنا لستُ جميلة، إلا أنّني جذّابة وأعرفُ ما يطلبه الرجُل في المرأة.
ـ هل لكِ أن تُعلّميني كيف أُصبح جذّابة؟ فأريدُ أن أحظى باهتمام الشبّان شأنّكِ، فأحيانًا أشعرُ وكأنّني غير مرئيّة لهم مع أنّني حسنة الملامِح!
وبدأ داليا تدريبي، فأخذَتني إلى المحلات المُفضلّة لدَيها، فاشترَيتُ الملابس التي اختارَتها لي مع أنّني لَم أكن مُعتادة على هذا النوع. فالحقيقة أنّ ملابسي كانت مُحافِظة، لكن على ما يبدو، لا تروقُ للشبّان الذين يُريدون، حسب داليا، أن يشعُروا بأنوثة الفتاة. ثمّ أخذَتني إلى أخصائيّة تجميل حيث تعلّمتُ كيف أُبرِّج نفسي وأُلوّن أظافري الاصطناعيّة التي تمّ تركيبها لي. نظرتُ إلى نفسي في المرآة وكنتُ ممنونة مِن النتيجة، فهكذا تفعل اللواتي أراهنّ على مواقِع التواصل. يا ربّ إبعَث لي شابّا وسيمًا ومُحِبًّا... وثريًّا!
أخفَيتُ ملابسي الجديدة عن أهلي، وأزلتُ التبرّج والأظافر قَبل عودتي إلى البيت، فهم لن يفهوا أنّ الأيّام تغيّرَت وعليّ مواكبة عصري وإلا بقيتُ عانسًا حتى آخِر أيّامي.
بعد ذلك، تعلّمتُ مِن داليا طريقة المشي والجلوس والمحادثة وحتى الضحك، وأحيانًا الصّمت والنظر في عَينَي الشابّ الذي يُخاطبُني. فالهدف كان أن أصبَح فتاة لا تُقاوَم بفضل سحرها وأيضًا غموضها.
لكنّ تلك الدروس كانت تستهلكُ الكثير مِن وقتي، لأنّ عليّ التمرّن عليها عندما أكون لوحدي كي تجري لي داليا فحصًا بها بعد أيّام. وإن هي رأت أنّني تلميذة غير جيّدة، فستتخلّى عنّي. وبسبب ذلك أهمَلتُ دروسي الجامعيّة لكنّني لَم آبَه لذلك، ألَم أكن سأتعرّف على أفضل شاب ويتزوّجني بسرعة؟ فما نَفع الدرس إذًا؟ وفي آخِر السنة، رسبتُ ووحدهم أهلي أسِفوا لذلك، فهم لَم يعلَموا أنّ ابنتهم تُحضِّر لمستقبل أفضل مِن العِلم والعمَل.
أجبرَني ذويّ على إعادة السنة، فباتَ زملائي في صفوف أخرى، إلا أنّ مَن كان يهمّني الأكثر كانت داليا وشلّتها. أمّا في ما يخصّ باقي زملائي وزميلاتي، فمَن يأبَه لهم؟ ألَم يكونوا مثلي أناسًا لا لون ولا طعم لهم؟ على كلّ الأحوال، هم ابتعدوا عنّي يوم صرتُ ضمن "الفريق المُميّز"... يا للفاشلين!
ثمّ تقرّبَ منّي فادي أحَد شبّان الشلّة، مُعرِبًا عن فرحه بتحسّني الملحوظ. لَم أفتَح له مجال المُحادثة إلا بعد أن تأكّدتُ منه أنّه ليس صديق داليا الحميم، فلقد رأيتهما معًا مرّات كثيرة. لكنّه أكّدَ لي أنّها مُجرّد زميلة وصديقة.
كان فادي وسيمًا للغاية ويعرفُ كيف يُكلّم الفتيات، لِذا لَم يتطلَّب منه جهد كبير لينالَ إعجابي. صحيح أنّني كنتُ أُريدُ شابًّا ثريًّا لكنّ فادي كان لا يُقاوَم. هو كلّمَني عن مُستقبلنا سويًّا بعد تخرّجه، ولَم يهمّه إن كنتُ قد رسبتُ، فهو قادر على تأمين ما يلزمُني مِن دون أن أعمَل يومًا. حاوَلَ فادي تقبيلي في إحدى المرّات لكنّني رفضتُ ذلك. عندها، غضبَ منّي وابتعَدَ عنّي. رحتُ أستشير داليا وهي صرخَت بي:
ـ أيّتها البلهاء... جاءَتكِ فرصة للتمرّن مع فادي، فهو حتمًا ليس العريس الذي نبحثُ عنه لكِ. قبّليه... وأكثر، فالرجال يُحبّون الفتاة ذات الخبرة في هذا المجال!
وهكذا سمحتُ لفادي أن يُقبّلني في إحدى زوايا الجامعة. لكنّ أحدهم رآنا وأوصَلَ الخبَر إلى والدَيّ... ووقعَت المُصيبة! سمعتُ كلامًا قاسيًا بشأن تغيّر سلوكي، وبشأن رسوبي وكلّ الذي يتعلّق بالقيَم والأخلاق. بكيتُ كثيرًا عندما علِمتُ أنّني سأضطرُّ لتغيير كليّتي للذهاب إلى أُخرى تقَع في الجانب الآخَر مِن العاصمة. إتّصلتُ بداليا بسرعة وأطلعتُها على مشروع أهلي وهي حاولَت تهدئتي قائلة:
ـ لن أترككِ فأنتِ "تلميذتي". إسمعي، ماذا لو هربتِ مِن البيت مع فادي؟
ـ لستُ أدري... فهو لَم يُكلّمني عن الزواج رسميًّا، بل كانت كلماته فقط وعودًا في الهواء.
ـ شبّان اليوم خجولون، ستكونين بين أيدي أمينة. إفعلي ما سأقولُ لكِ وحسب.
هربتُ مع فادي يوم تحجّجتُ بأنّني ذاهبة لقضاء النهار عند إحدى صديقاتي، ولَم آخُذ أيّ شيء معي، كما نصحَتني داليا أن أفعل كَي لا ألفِت الأنظار. أخذَني حبيبي إلى شقّة صغيرة، وهناك فعَلنا ما لَم يكن يجدُر بي فعله، لأنّني حسبتُ أنّنا سنتزوّج بأقرب وقت. يا لحماقتي... فبعد أن حصَلَ فادي على مُبتغاه، غادَرَ الشقّة ولَم يعُد. إنتظرتُه لساعات طويلة، وحاولتُ الاتّصال به لكنّه لَم يُجِب. سألتُ داليا عنه وهي قالَت لي ضاحكة:
- صحيح أنّكِ بلهاء... كنتُ أمقتُكِ لأقصى درجة حين كنتُ أراكِ مع صديقاتكِ، تعرضين جمالكِ بصمت. حسدتُكِ على هذا الجمال وأنتِ لَم تُقدّري كَم أنّكِ محظوظة. تساءلتِ لماذا لا يركضُ الشبّان إليكِ، وسأقولُ لكِ السبب في الحال: لأنّ كلّ هؤلاء الموجودين معنا لا يُريدون سوى الفتيات السهلة وأنتِ كنتِ صعبة المنال. أقولُ "كنتِ" لأنّكِ أردتِ أن تتغيّري وأنا لبَّيتُ طلبكِ بكلّ طيبة خاطِر. وهكذا صرتِ صبيّة رخيصة.
ـ فعلتُ كما تفعلين، وهل أنتِ رخيصة؟
ـ أنا لا أملكُ ما تملكينَه، فعليّ أن أٌقنِع الشبّان بي. لكن إعلمي أنّني لَم أدَع يومًا أيًّا منهم يلمسني، على خلافكِ. كلّ ما أفعلُه هو إعطاء صورة مُعيّنة لإرضاء غروري. حتى حبيبي فادي لَم يستطِع لمسي يومًا.
ـ حبيبكِ؟!؟
ـ صحيح ذلك... خطَرَ ببالي أنّكِ ستكونين ألعوبة مُفيدة له بينما نُخطّط لمُستقبلنا سويًّا، فأنتِ أعطَيتِه ما لا يُمكنُه الحصول عليه معي.
ـ لقد غشَّيتِني! وكذلك فادي!
ـ لَم يُجبِركِ أحدٌ على شيء، ولستِ قاصرة. أنتِ إختَرتِ هذا الطريق. وصَلَ الأمر بكِ إلى أن ترسبي لمدى انشغالكِ بالجنس الآخَر وسلّمتِ نفسكِ لأوّل شاب رأيتِه. أنا نجحتُ سنتي ولا أزال شريفة.
ـ ماذا سأفعلُ الآن بنفسي؟!؟
ـ هذه مُشكلتكِ، يا عزيزتي.
عدتُ إلى أهلي وهم لَم يعرفوا بشيء، إذ لَم يطُل غيابي في ذلك اليوم. بكيتُ على غبائي وإصراري على نَيل إعجاب الشبّان، ونسيتُ كلّ المبادئ التي تربَّيتُ عليها، وكذلك هدفي بتأمين مُستقبل لنفسي عبر نَيل شهادتي. لَم أفهَم كيف تمّ غشّي لهذه الدرجة، بينما كنتُ أُعدّ نفسي إنسانة ذكيّة ورصينة. بعد ذلك، قبِلتُ بسرور الانتقال إلى كلّيّة أخرى، بعيدًا عن داليا وفادي.
هل كنتُ سأحظى بفرصة ثانية لإصلاح الأمور؟ الأمر كان يتوقّف عليّ طبعًا، لِذا صمّمتُ على الاجتهاد لأقصى درجة والعودة إلى مبادئي وقيَمي. أمّا بالنسبة لفقدان عذريّني، فأتّكلتُ على الوقت ليُنسيني ما فعلتُه ويُخفّف عنّي شعوري بالخزي.
درستُ ودرستُ، ولَم تطأ قدمايَ خارج الجامعة أو البيت، ولَم يخطرُ ببالي قط أي فرد مِن الجنس الخشِن، إلى حين نجحتُ سنتي... والسنوات التالية. وحين حصلتُ على شهادتي، كنتُ أسعَد إنسانة على وجه الأرض! وجدتُ بسرعة عمَلاً أحبَبتُه واجتهدتُ له لأنّه أشعرَني بأنّني مُهمّة وقادرة وكفوءة.
حصَلَ مرارًا أن تقرّبَ رجال منّي، إلا أنّني إبتعدتُ منهم لأبقى مُركزّة على هدفي... ولأنّني كنتُ أشعرُ بالنقص والخوف مِن وسمة عاري. لكن مع مرور الوقت، إستوعبتُ أنّني لستُ بضاعة "مضروبة"، وأنّ ليس عليّ دفع عمري كلّه ثمَن حماقة إرتكبتُها حين كنتُ مُراهقة، لأنّ الحياة مؤلّفة مِن أحداث عديدة مُعظمها ليس لصالحنا. وحين صارَت لي ثقة بالنفس كافية، قبلتُ دعوة ذلك الرجُل إلى العشاء. تواعدنا لفترة ثمّ قلتُ له حين هو طلَبَ منّي أن يزورَ أهلي:
ـ إسمَع، لقد حصلَت لي أمور لا أفتخرُ بها، لكنّني وقعتُ ضحيّة غشّاشَين وكذلك ضحيّة نفسي. لستُ إنسانة سيّئة بل رصينة وشريفة. إن كان لدَيكِ أيّ تردّد أو إن كنتَ ستستعمِل ما سأخبرُه لكَ الآن ضدّي، فارحَل مِن حياتي على الفور لأنّني أقسمُ لكَ أنّني سأتركُكَ لحظة ما أشعرُ أنّكَ تُعيّرُني بالماضي، حتى لو صارَ لدَينا ستّة أولاد!
لَم نُنجِب ستّة أولاد بل إثنَين فقط ونحن نعيشُ سعيدَين للغاية. لَم يُفاتِحني زوجي يومًا بما حصَلَ لي مِن قَبل، لأنّه فهِمَ أنّني لَن أرضى بذلك وقد يخسرني.
فيا أيّتُها الفتيات والصبايا، لا تُحاوِلن التشبّه بأحد مهما كان السبب، بل إبقَينَ على قناعاتكنّ وقيَمكنّ فهذا سيوصلُكنّ إلى حياة هنيئة ومُتوازِنة. كلّ ما ترَينه على الانترنِت ليس سوى سرابٍ، مجرّد ديكور مسرح تجري خلفه الحياة الحقيقيّة، التي لا تكون جميلة على الاطلاق.
ماذا حصَلَ لداليا وفادي؟ لقد تزوّجا وأنجَبا وهما سعيدان... بعدما بنَيا سعادتهما على حساب فتاة ساذجة!
حاورتها بولا جهشان