أردتُ أن أصبح ممثّلة ولكنني لم أكن أعلم...

منذ صغري وأنا أحلم أن أصبح ممثلة. كنتُ أحتال على أمّي، حتى تدعني أشاهد التلفزيون أطول مدّة ممكنة، قبل أن أخلد إلى النوم. وحين أدخل فراشي وأغمض عينيّ، كنتُ أتخيّل أنني فنانة مشهورة، ألبس الفساتين الجميلة ويتهافت عليّ الناس للحصول على توقيعي. وكبرتُ ورغم أنني إخترتُ المحاماة كإختصاص جامعي، بقيَ عالم السينما في نفسي. وهذا ما كاد أن يوقعني في مشكلة كبيرة، فالذي لم أكن أعرفه، هو أنّ عالم الفن مليء بالمصالح والكذب. كنتُ في سنتي الثانية في الكليّة حين جاءت سامية زميلة لي وأخبرتني أنّ إبن عم جارتها علِمَ بأنّ هناك منتج يبحث عن ممثلات شابّات لمسلسله الجديد وبأنّه سيجري تجارب إداء بعد يومين في مكتبه. وبما أنّها تريد أيضاَ أن تصبح ممثّلة، عرضَت عليّ مرافقتها:

- هكذا سنعلم إن كنّا فعلاً ننتمي لعالم الفن.

وكانت على حق، فلم أكن أدري حتى إن كانت لديّ موهبة أو لا. وبالطبع لم أقل شيئاً لأهلي خوفاً من أن يمنعوني من الذهاب، فكانوا فخورين بي لأنني كنتُ سأصبح في يوم من الأيّام محامية بارعة، أرافع في المحاكم. وبعد أن وضعتُ سرّاً في حقيبتي، ثياباً جميلة، ذهبتُ بعد يومين إلى الكليّة ودخلتُ الحمام وخرجتُ إنسانة أخرى.

ثم توجهتُ مع صديقتي إلى مكتب المنتج وهناك وجدنا صفّاً طويلاً من الفتيات تنتظر دورها. ثم جاءت إمرأة في الأربعين من عمرها وأخذَت إسمنا ورقم هاتفنا وأعطتنا ورقة عليها الدور الذي علينا تقديمه أمام المنتج. فبدأنا نحفظه على الفور، بينما كانت الفتيات الواحدة تلو الأخرى تدخل غرفة الأداء. وكلّما إقترب دورنا، كلّما زادت دقّات قلبي سرعة. حتى أن فُتِحَ الباب ونادى أحدهم بإسمينا. وحين دخلنا وجدنا رجل في الخمسين من عمره، جالساً وراء مكتب ينظر إلينا بتمعّن:

- هيّا! ليس لديّ النهار كلّه! أنتِ قفي هنا وأنتِ هناك!

وبالرغم من أن لهجته معنا لم تعجبني، إمتثلتُ لأوامره. وبدأنا بتمثيل الأدوار وبعد أن إنتهينا، قال لنا أنّه سيتّصل بنا في حال قبولنا. خرجنا بصمت وبقينا هكذا حتى أن وصلنا الكليّة. فلم نتوقع أن تكون الأمور بهذه البرودة وبهذه السرعة، لأنّ ما من أحد يقول للناس أنّ السينما والتلفزيون هما صناعة أوّلاً وآخراً وأنّ الممثل هو بضاعة في يد المنتج يجني من وراءه المال. علِمتُ بكل هذا لاحقاً وعلى حساب أشياء كثيرة. وبعد أن مرّ نحو أسبوع، تلقّيتُ مخابرة من سكريتيرة المنتج تقول فيها أنني إجتزتُ الإختبار وعليّ الخضوع لتجربة ثانية، هذه المرّة في حضور الممثلين الآخرين والمخرج. وعلِمتُ منها أنّه لم يتم إختيار سامية. حزنتُ لأنّ الفكرة كانت فكرتها ولكن أتّضحَ أنّها لم تكن موهوبة كفاية. هي أيضاً لم تكن مسرورة ولكنّها تمنّت لي التوفيق في مشواري الجديد. وعندما حان موعد ذهابي إلى الجلسة الثانية،دخلتُ المكتب وتفاجأتُ بوجود سامية هناك. وعندما سألتُها عن السبب قال لي:

- جئتُ أساندكِ، فهذه لحظة حاسمة ووجودي قد يعطيكِ الشجاعة اللازمة.

عانقتها وقبّلتُها بحرارة، فكنتُ بالفعل بحاجة إلى دعم. وتمّ إستدعائي إلى الداخل وعرّفوني على باقي الممثّلين والمخرج وبدأنا نتبادل الحوار حسب الدور الذي كان كل واحد منّا سيؤدّيه. الكل كان مسروراً وخرجتُ مبتسمة إلى صالة الإنتظار. كانت صديقتي تتكلّم جانباً مع السكريتيرة وعندما أخبرتها بما جرى، فرِحَت كثيراً من أجلي. ولكنّها أبدَت رغبتها بالمكوث قليلاً لإنهاء حديثها مع تلك المرأة وخرجتُ من دونها. مرّ حوالي أسبوع حين إتّصل بي المنتج وطلب منّي الذهاب إليه مساءً. إستغربتُ للأمر وسألته إن كان هناك من مشكلة فقال لي:

- لا... أنا فقط أريد مراجعة أمر معكِ قبل توقيع العقد. فأنا أحبّ أن يكون كل شيء واضحاً. هكذا أعمل.

وحين دخلتُ المكتب، لم أجد السكريتيرة ولا أحد سوى ذلك المنتج الذي كان ينتظرني بالداخل. قال لي من دون أيّ مقدّمة:

- إسمعي... لن أكذب عليكِ وأقول لكِ أنّكِ ممثّلة بارعة... أنتِ جيّدة وليس أكثر... ولكن وجهكِ لطيف وقوامكِ حسن... والدور الذي ستلعبينه لا يستلزم أكثر من ذلك.

- ولكن...

- ولكن ماذا؟ ما الأمر؟ أنا لا أحبّ النقاش!

ثم وقفَ الرجل من وراء مكتبه وتوجّه إليّ وجلس بقربي:

- أريد أن أعلم إن كنتِ فعلاً تريدين هذا الدور.

- من المؤكّد أنني أريده! فهذا حلمي منذ ما كنتُ طفلة صغيرة!

- حسناً... إلى أيّ مدى أنتِ مستعدّة للذهاب لِنيله؟

- لا أفهم... ظننتُ أنني نلتُ الدور، فهذا ما قلتُه لي في المرّة السابقة.

- أجل... ولكن حصل أمر... صديقتكِ... ما إسمها؟ سامية... تكلّمَت معي على إنفراد وقالت لي أنّها مستعدّة لفعل أي شيء لتكون في المسلسل... أي شيء... ولكن أفضّلكِ أنتِ وها أنا في حيرة من أمري... ماذا تقولين؟

- للصراحة لا أفهم تماماً ما تريد قوله.

- هل أنتِ غبيّة، أم أنّكِ تدّعين الغباء؟ هناك الكثيرات اللوات تردنّ التمثيل! إنّكِ تهدرين وقتي! سأكون صريحاً معكِ: إذا أردتِ أن تكوني ممثلة عندي، فعليكِ ممارسة الجنس معي. أفهمتِ الآن؟ صديقتكِ مستعدّة لفعل كل ما أطلبه منها.

- ماذا؟؟؟ من تخالني أكون؟ هل تعتقد أنني رخيصة إلى هذه الدرجة؟ أحبّ التمثيل لأنّه فنّ راقي وممتع ولكنني لن أبيع جسدي للحصول على الشهرة أو المال! لا أريد الدور ولا أريدكَ كلّك!

وخرجتُ من المكتب بسرعة وبدأتُ أركض بالشارع وكأنّ أحد يطاردني. لم أنم جيّداً تلك الليلة، لكثرة غضبي وخيبة أملي وفي اليوم التالي ذهبتُ إلى الكليّة وبحثتُ عن سامية وسألتها إن كان ما قاله المنتج صحيحاً فأجابتني:

- هل تعتقدين أنّ كل الممثلين والممثلات موهوبين؟ ألا تعلمين أنّ نيل دور في فيلم أو مسلسل يتطلّب تضحيات؟ الحياة عرض وطلب وأنا عرضتُ على المنتج ما يطلبه. أجل أنا مستعدّة لفعل اللازم لأرى نفسي على الشاشة الصغيرة ومن ثمّ الكبيرة. أنتِ جبانة وستبقين مواطنة عاديّة.

- لا! بل سأصبح محاميّة كبيرة أجني مالي بشرف وأدافع عن المظلومين. أمّا أنتِ، فتشترين بجسدك موهبة لا تمتلكينها ِ وهذا هو الجبن والكسل بعينه. أتمنّى لكِ التوفيق وأرجو منكِ أن تبتعدي عن طريقي فأنا لا أريد صديقات مثلكِ.

وحصلَت سامية على الدور وظهرَت على الشاشة لفترة قصيرة ثمّ إختفَت. من المؤكّد أن ذلك المنتج وجد بسرعة غيرها لتأخذ مكانها. إلى أين يذهب الإنسان للحصول على المال والشهرة وأيّ ثمن هو مستعدّ أن يدفع؟ من الجميل أن يركض المرء وراء أحلامه، شرط أن تحمله إلى الأعلى وألا تحوّله إلى بضاعة تُشترى وتُباع.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button