أرادَت أمي الإتجار بي!

" أنتِ أجمَل فتاة في الدنيا!". هكذا كانت تُكلّمني والدتي على مدار الساعة مذ بدأتُ أفهَم الكلام. صحيح أنّني كنتُ طفلة جميلة، ليس فقط في نظَر أمّي بل في نظَر الجميع. وحصَلَ مرارًا أن يتوقّف المارّة للتفرّج عليّ وأنا في عربة الأطفال ويُعربون عن إعجابهم بي. متى خطَرَ ببال التي ولدَتني أن تحوّلني إلى ملكة جمال مُستقبليّة؟ أظنّ مِن البدء، خاصّة أنّني ورثتُ جمالي منها ولَم يتسنّ لها الاستفادة مِن شكلها، بعدما تزوّجَت في سنّ مُبكّر وأنجبَت أربع بنات، الأمر الذي غيّرَ ملامحها وقوامها بصورة نهائيّة.

صارَت أمّي تشتري لي الملابس الجميلة والباهظة، بالرغم مِن مدخول أبي المحدود وغيرة باقي أخواتي اللواتي لَم تحظَينَ بهكذا دلال بل تقاسمنَ الملابس نفسها بالمداورة. حاوَلَ والدي إفهام زوجته أنّ لا امكانيّة له بالاستمرار بالصرف على ابنة صغيرة بدلاً مِن تأمين الأكل والشرب لكلّ العائلة، إلا أنّها واجهَته بشراسة وتهديدات عديدة. بعد فترة، وجدَت أمّي عمَلاً يُخوّلها المضيّ في مُخطّطها مِن دون سماع تأنيبات مِن أحد. فكنتُ لُعبتها التي ستُحقِّق لها أحلامها الخائبة.

للحقيقة، كنتُ سعيدة بكلّ ذلك الانتباه لكن بعيدة عن أخواتي، الأمر الذي أشعرَني بالعزلة. لَم أفهَم أنّهنّ صِرنَ تكرهنَني وتغَرنَ منّي لِدرجة عدَم الاعتراف بوجودي. على كلّ الأحوال، كانت أمّي تتصرّف وكأنّها أمّ لابنة واحدة.

كبرتُ قليلاً وصارَت أمّي تأخذني لدى المُصوّرين ومُصفّفي الشعر، وتُبرّجُني وتُمرّنُني على المشي وكأنّني عارضة أزياء. أحبَبتُ الأمر لكنّني كنتُ أودّ اللعب مع أخواتي ورفيقاتي، أي أن أعيشَ سنّي بالفعل. إلا أنّها قالَت لي:

 

ـ ما بالُنا وبال تلك الفتيات الأخريات البشعات؟ أنتِ أجمل منهنّ ولا ينبغي عليكِ الاختلاط معهنّ. بعد سنوات قليلة ستصبحين عارضة أزياء لدى أكبر المُصمّمين وتشتركين بمُسابقات الجمال. العالم بأسره سيتفرّج عليكِ على التلفاز وفي المجّلات... إصبري يا حبيبتي!

 

ـ أُريدُ أن ألعَب يا ماما!

 

ـ وما نَفع اللعب؟ إنّه مضيَعة للوقت. ستشكُرينني يومًا على ما أفعله.

 

حين صرتُ مُراهقة، كان الناس يلتفتون نحوي حين أمرُّ بالقرب منهم وأحاطَني العديد مِن المُعجبين. إلا أنّ أمّي أبعدَتهم جميعًا قائلة لي:

 

ـ أُريدُ أن تبقى سُمعتَكِ بنقاوة الثلج، فحين تصبحين مشهورة، سيُفتّشُ الصحافيّون عن كلّ عمَل قمتِ به أو شاب واعدتِه لاستعمال ذلك ضدّكِ.

 

هكذا فصلَت والدتي بيني وبين أحدهم كان يُعجبُني بالفعل. حزنتُ كثيرًا لكنّني رضختُ للأمر الواقع، عالمة تمام العلم أنّ لا منفعة مِن الجدال. لكنّني وعدتُ نفسي بالاستمتاع بالحياة والتعرّف إلى الحبّ حالما تنزعُ أمّي يدها عنّي وعن حياتي الشخصيّة. إلا أنّها كانت تنوي إدارة شؤوني إلى أجَل غير مُسمّى.

موقف أبي مِن تصرّفات زوجته كان غير واضح. فهو كان يؤنّبها أحيانًا ويوافقها في الأوقات الأخرى، خاصّة حين كانت تُبيّنُ له محاسن مُستقبلي عليه وعليها. أجل، كنتُ سلعة لدى أهلي وذنبي الوحيد أنّني جميلة.

بقيَت علاقتي بأخواتي شبه مقطوعة، خاصّة عندما تزوّجنَ وسكَنّ بعيدًا عنّا. حينها شعرتُ بالفعل أنّني وحيدة في بيت شبه فارغ.

 

إشتركتُ في أوّل مُسابقة جمال لي وكنتُ خائفة للغاية. لا تسيئوا فهمي، فلَم أخَف مِن عدَم الفوز بل العكس. أمِلتُ أن أفلِتَ مِن مصيري إن وجدَت أّمّي أنّني لستُ جميلة كفاية. إلا أنّ القدرَ شاء أن أفوز بالمرتبة الأولى، وعلِمتُ على الفور أنّني دخلتُ دوّامة لن أخرجَ منها قبل وقت طويل.

تتالَت الدروس في عرض الأزياء وحسن التصرّف في المجتمَع، ولحقَتها دروس أخرى بالرقص واللياقة البدنيّة. حصلتُ على شهادة البكالوريا ورفضَت أمّي أن أدخلَ الجامعة، ففي رأيها يتعلّم المرء ويحصل على شهادات مِن أجل جني المال، بينما سأجني الكثير بفضل مُستقبلي، ناهيكَ عن زواجي المحتوم مِن رجُل ثريّ للغاية. بكيتُ كثيرًا لأنّني أسيرة داخل عائلتي ولا رأي لي في ما يخصّ حياتي وميولي.

بعد أقلّ مِن سنة، دخلَت والدتي غرفتي وعلى وجهها علامات انتصار وفرَح لا يُقاس:

 

ـ لقد بعثتُ صوَركِ إلى شركة عرض أزياء عالميّة لدَيها وكيل في البلد، ولقد تمّ اختياركِ لإجراء تجربة أداء. وإن قُبِلتِ، سيتمّ تسفيركِ إلى الخارج وستبدئين العمَل على الفور! يا إلهي، نحن قريبتان جدًّا مِن تحقيق أحلامنا!

 

ـ أحلامكِ يا ماما، أحلامكِ.

 

ـ كفى نحيبًا! ألا يُعجبُكِ شيء على الإطلاق؟!؟ ألف صبيّة تتمنّى أن تكون مكانكِ. صحيح أنّكِ ناكرة للجميل! ستذهبين إلى تلك الشركة شئتِ أم أبَيتِ. أنا لَم أمضِ حوالي عشرين سنة مِن حياتي في تدريبكِ مِن أجل لا شيء.

 

رحتُ وأمّي إلى مقرّ الشركة وقابلَنا فريق عمَل شرحوا لنا ما يُريدونه منّي. وكانت هناك صبايا عديدات تنتظرنَ دورهنّ، وتفحّصَتني كلّ منهنّ مِن رأسي إلى أسفل قدمَيّ. بعد ذلك، دخلتُ لوحدي غرفة حيث كان بانتظاري رجُل في مُنتصف عمره وبِيَده كاميرا تصوير، فأشارَ لي أن أقِفَ أمام ستار كبير. ثمّ طلَبَ منّي المصوّر أن أُبيّن كتفَيّ ورجلَيّ، فشعرتُ بانزعاج واضح ورفضتُ أن أفعَل ما طلَبه منّي. عندها، إقترَبَ منّي وقال بجدّيّة تامّة:

 

ـ أرأيتِ كيف أنّ غرفة الانتظار مليئة بالصبايا؟

 

ـ أجل.

 

ـ واحدة منكنّ فقط ستفوز بفرصة السفر إلى الخارج، والعمل كعارضة لدى أشهَر دور الأزياء العالميّة. أنتِ جميلة بالفعل لكن هنّ أيضًا. وإذا أردتِ التميّز عنهنّ، عليكِ إقناعي بكِ أوّلاً.

 

ـ إقناعكَ؟

 

ـ إسمعي... سأكون بمنتهى الصراحة معكِ إذ ليس لدَيّ وقت أُضيعُه... ستخلعين ملابسكِ وستفعلين ما أُريدُه. وإن كان وجود والدتكِ في الخارج يُزعجُكِ، عودي في المساء.

 

ـ أخَلع ثيابي؟!؟ أفعَل ما تُريدُه؟!؟

 

ـ لا تدّعي البراءة مِن فضلكِ! وحدي أُقرّر مصيركِ يا صغيرتي، لِذا عليكِ أن تستجيبي لِملذّاتي. لماذا تعتقدين أنّني أقوم بهذا العمَل؟ لن تكوني الأولى ولا الأخيرة، فالغبيّات مثلكِ كثيرات ومُستعدّات لفعل أيّ شيء مِن أجل الشهرة.

 

خرجتُ كالمجنونة مِن تلك الغرفة المليئة بالفجور والاثم، وصرختُ بالفتيات الموجودات:

 

- أهربنَ قبل أن تفقدنَ أنفسكنّ!

 

سحبَتني أمّي مِن ذراعي خارج الشركة وسألَتني عمّا حصل فأخبرتُها كلّ شيء. لكنّني تفاجأتُ بها تصفعُني بقوّة صارخة:

 

- أيّتها البلهاء! لقد خربتِ كلّ ما بنَيتُه! عودي إلى الداخل بسرعة!

 

نظرتُ إليها مُندهشة ورأيتُ في عَينَيها الشرّ بحدّ ذاته. كانت تلك المرأة مُستعدّة لأن تُفقدني شرَفي مِن أجل الشهرة. أين ذهَبَ تمسّكها بالحفاظ على نقاوتي؟ شعرتُ بلحظة بالخذلان والاشمئزاز، فتركتُها حيث هي وعدتُ مشيًا إلى عمَل أبي شاكية. لن تتصوّروا مدى غضبه تجاه ما فعلَته زوجته فعانقَني قائلاً:

 

- لا تخافي يا صغيرتي، لن يلمسكِ أحد ولن أسمحَ بأن تبيعكِ أمّكِ. ستدخلين الجامعة وتحصلين على شهادة تخوّلكِ العمَل بشرَف. أمّكِ جنَّت حتمًا وسأعرفُ كيف أتعامَل مع جنونها.

 

حصلَ شجار عنيف بين والدَيّ، وأخذَت أمّي أمتعتها وقصدَت أهلها. للحقيقة، رحيلها كان أمرًا مُباركًا لي ولأبي، فبسببها لَم نعِش يومًا كعائلة عاديّة. بقيتُ على إتّصال معها وهي بقيَت تصرّ على ضرورة ذهابي إلى شركة عرض الأزياء، إلى حين طفَحَ كَيلي منها ولَم أعُد أردُّ على مُكالماتها. بعد فترة، طلّقَ والدي زوجته بعد أن وجَدَ أنّها بالفعل غير عاقلة، وأسرعَ بتسجيلي في الجامعة ومتابعة سَير درسي عن كثب. عشتُ معه أيّامًا وسنوات جميلة، حاولَ خلالها التعويض لي عمّا مرَرتُ به. سافرَت أمّي إلى إبنة عمّها في الولايات المُتّحدة وارتحنا منها نهائيًّا.

لَم يتزوّج أبي مُجدّدًا قبل أن يتمّ عقد قراني على شاب أحببتُه وسعِدتُ معه. وأعترفُ أنّ زوجته الجديدة كانت بالفعل إنسانة خلوقة وطيّبة عرَفَت كيف تُعطيه الحبّ الذي كان ينقصه مع أمّي.

علِمنا لاحقًا أنّ أمّي أسّسَت في الخارج شركة لتدريب وتوظيف عارضات الأزياء. وأنا مُتأكّدة مِن أنّها، تحت غطاء قانونيّ، تحثُّ تلك الفتيات على غضّ النظر عن أغلى ما لدَيهنّ. يا للعار! وعندما أفكّرُ بالذي كان سيحصلُ لي لو سمعتُ مِن أمّي، يقشعرُّ بدَني وأشعرُ بخوف شديد. كيف لإنسانة تُسمّي نفسها أمًّا أن تدفعَ بابنتها إلى الهلاك الروحيّ والجسديّ مِن أجل المال والشهرة؟ لستُ أدري على الإطلاق!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button