أرادَ أبي تزويجي لِمَن يدفع أكبر مبلغ

أن يكبر المرء ويعيش في حالة فقر ينتج عن حالتَين: الأولى أن تكون القلّة حافزاً للعمل الدؤوب والمثمر مع الاحتفاظ بالأخلاق الحميدة والثانية أن يصبح الإنسان ساعياً وراء القرش بأيّ ثمَن ولو كان ذلك يعني الدوس على أبسط القِيَم وعلى كل مَن يمنعه مِن بلوغ غايته. وللأسف كان أبي مِن الفئة الثانية.

فبعد ان فقدَ والدَيه وعاش حياة صعبة إستطاعَ أخيراً أن يصعد بضع درجات سلّم الاكتفاء. وعندما تزوّجَته أمّي عانت كثيراً مِن تمسّكه بالمال وعدَم إستعداده لمشاركة أحداً فيه. ومجيئي إلى الدنيا لم يطرّي قلبه بل رأى فيَّ فرصة لجني المزيد. فكنتُ بالنسبة له بمثابة إستثمار سيقطف ثماره في الوقت المناسب. لِذا قَبِلَ أن يصرف بعض المال على تعليمي على أمل أن يزيد ذلك مِن الطلب عليّ فإن كنتُ مثقّفة فذلك يعني أنّني سأجذب المثقّفين والأثرياء.

وحين بلغتُ سنّ المراهقة بدأ يشتري لي وعلى غير عادة الملابس الجميلة والحلى ويأتي لي في كل أسبوع بمصفّفة شعر لإبراز جمالي. ولأنّني كنتُ لا أزال بريئة لم أرَ أبعاد ما كان يفعله بل إعتقدتُ أنّ أبي يحبّني. ولأنّ أمّي كانت تعارضه دائماً بهذا الشأن بدأتُ أكرهها وأعتبر أنّها تغار منّي. ولكنّ المسكينة كانت منزعجة إلى أقصى درجة مِن تحويلي إلى سلعة جميلة لالتقاط أصحاب الأموال.

وبعد سنوات قليلة تعرّفتُ إلى جهاد الذي كان يعمل في مؤسّسة تجاريّة بسيطة في آخر الحيّ ونشأَت بيننا قصّة حبّ جميلة أبقَيتُها سريّة لأنّني لم أكن أعلم ما قد تكون ردّة فعل أبوَيّ لو علِموا أنّ ابنتهما أصبحَت في سنّ الغرام. ولكنّ ما مِن شيء يُخفى على الأم وفي ذات يوم أخذَتني والدتي جانباً وسألَتني عمّا يدور بيني وبين ذلك الشاب. في البدء نكرتُ كل شيء ولكنّها بقيَت مصرّة حتى أن اعترفتُ لها بالحقيقة. عندها قالت لي:


ـ لقد سألتُ عنه وقيل لي أنّه شاب مهذّب لا يخاف العمل الشاق... وإن كان فعلاً يحبّكِ وأنتِ كذلك فعليكما الزواج والرحيل بسرعة.

 

ـ لماذا تقولين ذلك يا أمّي؟

 

ـ لأنّني أخشى أن يأتي عريساً غنيّاً لا تحبّينه ويرغمكِ أبوكِ عليه.

 

ـ البابا لا يمكنه فعل ذلك بي! أنتِ دائماً ضدّه!

 

ـ لستُ ضدّه بل ضدّ أخلاقه... جزء منّي يحبّه وإلاّ ما بقيتُ معه...

 

ـ كيف تقولين لي تلك الأشياء؟

 

ـ كي تعرفي حقيقة أباكِ... أقول لكِ أنّه لن يقبل بجهاد لأنّه فقير.

 

ـ أبي أيضاً كان فقيراً ويعرف معنى العمل الشاق... أنا واثقة مِن أنّه سيحبّ جهاد ويقدّره.

 


ولأبرهن لوالدتي أنّني على حق طلبتُ مِن حبيبي أن يأتي لزيارتنا في اليوم التالي. وبعدما جلسَ معنا في الصالون سألَه أبي بضعة أسئلة وبعد أن حصَلَ على الأجوبة قال لجهاد:

 

ـ حسناً... هل لديكَ مئة ألف دولاراً؟

 

ـ لماذا يا سيّدي؟

 

ـ لأنّكَ ستأخذ ابنتي وهي جوهرتي ثمينة... لقد دفعتُ عليها أموالاً كثيرة وها هي على وشك التخرّج والدخول إلى الجامعة... ناهيك عن جمالها وأدبها... كل ذلك ليس مجّانيّاً.

 

ـ قد يأتي يوم ويصبح لديّ هكذا مبلغ ولكن بعد سنين مِن الآن.

 

ـ حسناً... عندها ستأتي إليّ وأعطيكَ إبنتي.

 

لم أصدّق أذنيّ ومِن كثرة غضبي صرختُ لأبي:

 

ـ ولكنّني لا أريد كل ذلك المال!

 

ـ لم أطلبه لكِ بل لي.

 

ـ ماذا؟ أنتَ تبيعني؟ وبمئة ألف دولار؟؟؟

 

ـ سميّها كما تريدين... كل ما أطلبه هو تعويض عن تعبي فيكِ والمصروف الذي تكلّفتُه عليكِ.

 

وخرجتُ مِن الصالون باكية واستأذنَ جهاد ورحل. وفهمتُ حينها قصد أمّي ولكن كان قد فات الأوان بعد أن أصبحَ والدي يعلم بوجود حبيبي. وصمّم والدي على تزويجي وبأسرع وقت وكي لا يخطر على بالي أن أهرب منه ديّقَ الخناق عليّ ولم يعد يُسمح لي أن أغادر المنزل إلاّ بصحبته لأنّه لم يكن يثق حتى بزوجته.

ومِن جهّته إستاء جهاد لموقف أبي وقرّرَ أن يقطع علاقته بي خوفاً مِن أن أكون أنا أيضاً أسعى وراء المال. وهكذا رأيتُ آمالي تتبخّر أمام عينيّ وأخذتُ أبكي طوال الوقت لكثرة خيبَتي بالذي خلتُه يحبّني. وأتى أبي بشاب مِن عائلة ثريّة وقدّمَه لي معرّفاً بإسم والدَيه وبنوعيّة عمله المربح. وعَرَضَني عليه كمَن يريد بيع سيّارة فخمة وشعرتُ بالإذلال لِدرجة أنّني صرختُ للعريس بإعلى صوتي:"إرحل مِن هنا! لا أريدك!"

وعندما غادَرَ الشاب صَفعَني والدي بكل قوّته لِدرجة أنّني وقعتُ أرضاً. وركضَت أمّي لتساعدني على النهوض وأخَذَتني إلى غرفتي تجفّف دموعي وتطلب منّي عدم مواجهة أبي بهذه الطريقة مرّة ثانية تحسّباً لردّة فعل قاسية. وكانت تلك الصفعة قد أوعَتني على الوضع المرير الذي كنتُ فيه.

وبعد أسابيع زارنا شاب آخر ولكن في تلك المرّة بقيتُ مهذّبة وتظاهرتُ بأنّني قبِلتُ به وإنتظرتُ حتى أن خرجتُ معه لوحدنا لجعله يهرب منّي مِن تلقاء نفسه. كل ما كان عليّ فعله هو إخباره بأنّني مصابة بمرض السلّ المزمِن وأن أسعلَ أمامة بضعة سعلات قويّة. وكانت تلك آخر مرّة رأيتُه فيها. ولكنّني كنتُ أعلم أنّني لن أستطيع الإفلات طويلاً رغم خطَطي التي أصبحَت متقدّمة جدّاً مع مرور الزمن.

ومِن جهّته لم يفهم أبي سبب قلّة إعجاب العرسان بي وإختفاءهم الواحد تلو الآخر. وفي ذات يوم تفاجأتُ كثيراً بأمّي عندما قالت لي:

 


ـ إذا كنتِ تظنّين أنّني لم ألاحظ ما تفعلينه لِطرد هؤلاء الشبّان فإنتِ مخطئة.

 

ـ أرجوكِ يا ماما ألا تفضحي أمري!

 

ـ كم أنتِ غبيّة! كنتُ أولى مَن حاولَت مساعدتكِ... أنسيتِ ما قلتُه لكِ بشأن جهاد؟ عندها ظننتِ أنّني عدوّتكِ ولكنّني على علم بما يدبّره أبوكِ لكِ.

 

ـ ما العمل الآن؟ لن أفلتَ طويلاً... ولن أقبل أن يبيعني أبي لأوّل عريس ثريّ.

 

ـ لا تقلقي... تابعي أنتِ ما تفعلينه وسأجد حلاً.

 

ومرَّت الأشهر والسنة وبدل أن يطلب أبي مِن العرسان مئة ألف دولاراً بات مستعداً بقبول أيّ مبلغ بعد أن إعتقَدَ أنّ لديّ عيباً وخافَ أن يضيع إستثماره بالكامل. ولكن وبالرغم مِن هذا الحسم النوعيّ لم يقبل بي أحد. وكيف لهم أن ينوون الزواج منّي إن كنتُ اوهمهم بإصابتي بأمراض عديدة وحتى بالجنون.

وفي هذه الأثناء ذهبَت والدتي إلى أم جهاد وتكلّمَت مطوّلاً معها شارحة حقيقة ما حصل وأنّ لا دخلَ لي بطلبات أبي. وأخبرَتها كيف أطرد كل مَن جاء للزواج منّي لأنّني أرفض أن أكون سلعة لأحد ولأنّني لا أزال مُغرمة بإبنها. وأخَذَت أمّ جهاد على عاتقها أن تقنع إبنها بالعدول عن قراره وبأن تسوّي الأمور. وبعد مرور أشهر أخرى إستسلمَ أبي أخيراً وقرّرَ أنّه مستعدّ لتزويجي مجّاناً ليس حرصاً على مستقبلي بل كي لا يضطر إلى صرف مالاً إضافيّاً عليّ طالما ذلك ليس مجدياً. حينها أعطَت أمّي لأم جهاد الضوء الأخضر وجاء هذا الأخير إلى منزلنا لطلب يدي مجدّداً. وكم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيتُه يدخل دارنا فلم أكن على علم بشيء. وإنهالَت الدموع على خدودي ولكنّني لم أتفوّه بكلمة لأنّني كنتُ لا أزال غاضبة مِن حبيبي بعدما قطعَ إتصاله بي. وجلسَ الرجلان سويّاً وأعطى أبي بركته لزواجنا وشعرتُ في تلك اللحظة كالسجينة التي يُطلق سراحها بعد إعتقال طويل.

وركضتُ أعانق جهاد وأقول له: "كيف تصدّق أنّني أسعى وراء المال؟" واعتذَرَ منّي بحرارة مؤكّداً لي انّه لم يكف عن التفكير بي وأنّه كان حزيناً طوال الوقت. ومِن بعدها إستدارَ إلى أبي وقال له بعد أن غمَزَني:

 

ـ عمّي... سمعتُ أنّ عرساناً كثر غيّروا رأيهم بشأن إبنتكَ... هل يجدر بي أن أخاف مِن أمر ما؟

 

ـ أبداً يا إبني... تعرف كيف همّ شبّان اليوم...

 

ـ قد أغيّر رأيي أنا أيضاً...

 

ـ لا! لا تفعل! إبنتي في صحّة جيّدة وحسنة السلوك!

 

ـ إن أضَفتَ مبلغاً صغيراً على الصفقة قد أتشجّع أكثر...

 

ـ كم... كم تريد؟

 

ـ ليس الكثير... لنقل سيّارة جديدة لخطيبتي.

 

ـ سيّارة جديدة؟ تريد قتلي؟؟؟

 

ـ أشعر وكأنّني سأغيّر رأيي وأتركها لكم...

 

ـ لا! سأشتري لها سيّارة جديدة! أرجوكَ أن تتزوّجها!

 

وضحكنا جميعاً ما عدا أبي طبعاً الذي كان على وشك أن يصاب بنوبة قلبيّة لمجرّد فكرة صرف المال. وتزوّجتُ مِن الذي أحببتُه وحصلتُ على سيّارتي الجميلة. صحيح أنّ لقصّتي نهاية جميلة ولكنّ ما حصلَ لي كان بإمكانه أن يسبّب لي المأساة لولا مساعدة أمّي لي وتفهمّ جهاد. ولكن كم مِن الفتيات " تباع" مِن قِبَل أهلها لعرسان أغنياء وأصحاب نفوذ أو حتى بسبب وعد أُعطيَ بين الأصدقاء والأقارب؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button