كنتُ في السّادسة عشرة يوم وقعتُ في حبّ أستاذي. أعلمُ أنّ الأمر يحدثُ لفتيات كثيرات، لكنّ ذلك يكون عادةً مُجرّد افتتان يزولُ بعد فترة. إلا أنّ أستاذي أحبَّني هو الآخر بالرّغم مِن فارق السنّ الشاسع بيننا. فكان عُمَر في الأربعين وكان مُتزوّجًا. لَم أعلَم على فور طبيعة نظراته وابتساماته لي، فكيف لي أن أجرؤ على تخيّل ما كان سيحدثُ لاحقًا؟
في السّنة الدراسيّة التي تلَت، زادَت الإشارات مِن قِبَل أستاذي الذي كان يُدرّسُنا اللغة الإنكليزيّة في كلّ مراحل تعليمنا، وكَم كانت فرحتي حين باتَ عُمَر يُميّزُني أمام رفيقاتي بالإطراء كلّما أجَبتُ جيّدًا على أسئلته، ويُثني على تقدّمي في اللغة. قضَينا السّنة على هذا النحو إلى أن وصلتُ بعد أشهر إلى الصفّ النهائيّ وبلغتُ الثامنة عشرة. وفي تلك الفترة بالذات، وضَعَ عُمَر في يدي خلسةً ورقة صغيرة كتَبَ فيها جُملة رومانسيّة. لدى قراءتي الرّسالة بدأ قلبي يدقّ بسرعة، لأنّ حلمي كان قد تحقَّقَ أخيرًا، فلقد تصوّرتُ نفسي مرارًا وأنا جالسة مع أستاذي في مكان جميل، وهو يُداعبُ شعري ويروي لي كَم أنّه يُحبُّني وينوي تمضية باقي حياته معي. فارق السنّ بيننا لَم يُزعجني قط، فمُجتمعي الشرقيّ والذكوريّ أعطى للرجل الحق بإيجاد الحبّ حينما يشأ ومع مَن يشأ مهما كان سنّها، والمُجتمع نفسه أقنعَني بأنّ ذلك شيء عاديّ ومقبول.
إنتظَرَ عُمَر حتى انتهاء السنة الدراسيّة لاصطحابي في نُزهة حيث انقضَّ عليّ وبدأ يُقبلّني بشغف. لَم أكن أُريدُ أن يحصل ذلك بيننا، على الأقلّ ليس في الموعد الأوّل، لكنّني بادلتُه قبلاته لأنّني وثقتُ به. كان ذلك الرجُل بسنّ أبي، ولَم يخطر ببالي أنّني بسنّ ابنته، بل رأيتُ فيه الإنسان القويّ ذا الخبرة في الحياة والنساء. وفي طريق العودة، سألتُه عمّا ينوي فعله بزوجته، بعدما صرنا قادرَين على عَيش حبّنا في العلَن. وأجابَني:
ـ لن أُطلّقها فهي أمّ أولادي... ستكونين زوجتي الثانية.
ـ لكن...
ـ ثقي بي، فذلك أفضل... ستكونين زوجتي وبأسرع وقت.
حسبتُه على عجلة مِن أمره لكثرة حبّه لي، إلا أنّه كان يُريدُ جسَدي وشبابي. قبِلَ أهلي به صهرًا، لأنّه يعرفُ كيف يُقنِع الناس، وتزوّجنا بسرعة فائقة. لَم يتسنَّ لي حتى أن أكتشفَ إن كنتُ بالفعل أحبُّه أم أنّ الأمر مُجرّد إعجاب، أو أن أعرفَ أكثر عنه وعن حياته وشخصيّته. على كلّ الأحوال، كان الأوان قد فاتَ للتحسّر.
عشتُ وعُمَر سنة أصفُها بالجميلة إذ أنّه كان يهتمّ بي... على طريقته. فهو كان يجلبُ لي الألعاب المحشوّة وكأنّني فتاة صغيرة، ويختارُ لي ملابس توحي بأنّني لَم أتجاوز سنّ البلوغ. لَم أقُل شيئًا بل اعتدتُ على الأمر.
لكنّ كلّ شيء تغيّرَ حين وجدتُ نفسي حاملاً. ظننتُ أنّ الأمر سيُفرّحُه، إلا أنّ الخبَر سبّبَ له نوبة غضَب أفزعَتني. فهو صرَخَ بي:
ـ هل أنتِ مجنونة؟!؟ لقد دمّرتِ كلّ شيء!
ـ لَم أفعل شيئًا لا دخلَ لكَ به! أُذكّرُكَ بأنّني لَم أحمل لوحدي!
ـ فعلتُ كلّ ما بوسعي كي لا تحملي!
ـ مِن الواضح أنّكَ لَم تنجَح بذلك! ما بكَ؟ أنا حامل بجنينكَ وحسب! عليكَ أن تفرَح للأمر.
سكَتَ عُمَر ثمّ غادرَ البيت ليعود بعد ساعات طويلة، أي بعد أن أخَذَ قراره. صبرتُ على زوجي راجية أنّه سيتغيّر حين يولَد ابننا لكنّني تفاجأتُ به يقولُ لي في المشفى بعد أن أروه ولده وحملَه بين ذراعَيه:
ـ كنتُ سعيدًا معكِ... يا للخسارة... اللوم كلّه يقَع عليكِ.
بكيتُ في أسعَد يوم في حياتي، وكنتُ سأبكي لفترة طويلة، أي بعد أن أعرفَ حقيقة الذي تزوّجتُه. حقيقة بشعة ومرضيّة.
بعد ذلك، تمنّعَ زوجي مِن لَمسي. حسبتُه خائفًا عليّ ويُمهلُني حتى يبرأ جسدي، إلا أنّه فقَدَ اهتمامه بي وبولَده. كان الأمر وكأنّنا غير موجودَين بالنسبة له. للحقيقة، لَم أتصوّر أنّ أحدًا بإمكانه العَيش في البيت نفسه مع آخرين مِن دون الاعتراف بوجودهم.
صارَ عُمَر يغيبُ عن البيت، ورأيتُه في إحدى المرّات يخرجُ وفي يده لُعبة محشوّة. علِمتُ على الفور أنّها للّتي في صدَد الحلول مكاني. لَم أسأله عن الأمر، بل اكتفَيتُ بالبكاء على حياتي التي انقلبَت رأسًا على عقب خلال أشهر قليلة. لَم أُحمِّل ابني ذنب ما يحصل، فالخلَل آتٍ مِن زوجي الذي لَم يتصرّف كأيّ أب عاديّ، وأعطَيتُ صغيري مزيدًا مِن الحبّ والعاطفة.
ويوم عيد ميلادي العشرين بالذات، زفَّ لي عُمَر خبَر زواجه مِن أخرى. لَم أُصدّق أذنَّيّ، فأيّ وحش ينتظرُ هكذا مُناسبة لِتبليغ هكذا خبر؟!؟
وأمام دهشتي واستنكاري، أوضحَ لي زوجي:
ـ لَم يكن يجدرُ بكِ أن تحملي وتلِدي... فبذلك فقدتِ بالنسبة لي براءة الطفولة.
ـ أيّة طفولة؟ كنتُ قد تجاوزتُ الثامنة عشرة!
ـ أحبُّ أن تكون نسائي يافعات.
ـ ألا تخجَل مِن نفسكَ؟ أنظُر إلى المرآة وستعرفُ مدى مرضكَ.
ـ ليس مرضًا بل هو حقّ لي! أنا رجُل!
ـ وأنا امرأة! ما معنى كلامكَ هذا! كَم أنّكَ سخيف!
ـ زوجتي المُستقبليّة جميلة وصغيرة في السنّ و...
ـ وغير محظوظة! إن كنتَ تتصوّر أنّني أغارُ منها أو أحسدُها فأنتَ مُخطئ. سرعان ما ستسأم منها وتتزوّج مِن جديد. لكنّ يومًا ما سيأتي وتشيخ يا عزيزي وحينها لن ترى أحدًا بالقرب منكَ، فأنتَ لستَ ثريًّا لتُقنِعَ امرأة بالبقاء معكَ.
ـ إخرسي يا وجه الشؤم! يجدرُ بي تطليقكِ.
ـ وسيكون يوم سَعد إن فعلتَ!
وبالفعل طلّقَني عُمَر، ليس فقط لأنّني وقفتُ في وجهه وتحدَّيتُه، بل ليتسنّى له الحفاظ على عدد الزوجات الشرعيّات. عدتُ إلى بيت أهلي مرفوعة الرأس بعد أن علِمَ الجميع كَم أنّه وضيع.
لَم يُطالِب عُمَر يومًا بحضانة ابننا، الأمر الذي أراحَني وسمَحَ لي بالتفكير في الزواج مُجدّدًا وإعادة بناء عائلة سليمة. وبالفعل وجدتُ حقًّا مَن أحبَّني وابني وعاملَني كما تستحقّ كلّ امرأة.
مِن جانبه، بقيَ زوجي السّابق يُلاحق الفتيات، لكنّه لَم يعُد يتمالك نفسه بل أطلقَ العنان لِما كان بالفعل مَيلاً جنسيًّا للأطفال. ففي أحد الأيّام، ضُبِطَ وهو ينزعُ ملابس فتاة في العاشرة مِن عمرها، بعد أن اصطحابها إلى حمّامات المدرسة. إنقضَّ عليه الحارس وتمكّنَ منه، ليُسلّمه بعد ذلك إلى إدارة المدرسة ومِن ثمّ إلى الشرطة. لكنّ أهل الفتاة المسكينة لَم يُريدوا إحداث بلبلة قد تُسيء إلى سُمعتها لاحقًا، فأسقطوا حقّهم ودفَعَ عُمَر مبلغًا لا يُذكَر للحقّ العام.
طُرِدَ زوجي السابق طبعًا مِن المدرسة، ولَم يعُد قادرًا على إيجاد أيّة وظيفة بمجال التعليم بعد أن أُذيعَ خبَر حادثة التحرّش بين المدارس. شكرتُ ربّي لأنّني لَم أعُد زوجته وأنّني لَم أُنجِبَ منه ابنة، فمَن يدري ما كان قد يفعَل بها إن تفاقمَ مرضه؟
بعد سنة على التمام، وجِدَ عُمَر مقتولاً. أقولُ مقتولاً، إلا أنّ التحقيق توصّلَ إلى فرضيّة الحادث بعد أن وُجِدَ في أسفل المبنى الذي يسكنُه. قيل إنّه سقَطَ عن الشرفة وتردّدَت إشاعة ثانية تحدّثَت عن انتحار. لكنّني كنتُ واثقة مِن أنّ أحد أفراد عائلته العديدة، أو قريب احدى ضحاياه قد أنهى حياته البائسة. فهكذا يجب أن تكون نهاية كلّ مَن يسرق براءة وآمال الأطفال.
ولَم أكن مُخطئة في ظنّي، فبعد أكثر مِن سنتَين على موت عُمَر، أُلقيَ القبض على شاب بتهمة القتل عمدًا، وهو أخ فتاة وقعَت ضحيّة الوحش. لكنّني لَم أعرِف ما حلّ بذلك الأخ، لأنّ القضيّة اختفَت فجأة مِن الإعلام. رجَوت مِن كلّ قلبي أن تكون العدالة قد أخذَت بعَين الاعتبار كون عُمَر مُتحرّش أطفال، وخفّفَت مِن عقوبة قاتله. أنا لا أُشجِّع على القتل أو الانتقام، بل عليكم فهم ردّة فعلي لأنّني كنتُ أيضًا إحدى ضحاياه.
متى سيستفيق مُجتمعنا الشرقيّ ويُسمّي الأمور بأسمائها؟ فليس مِن الطبيعيّ أن يهوى رجل ناضج فتاة يافعة. وأين التكافؤ بين إنسان ناضج وخبير في الحياة وبين إنسانة لَم ترَ بعد شيئًا مِن الدنيا، ولا تعرفُ حتى ماذا ومَن تُريد؟ كيف لها أن تختار في سنّ مُبكّر شريك حياتها، أي الرّجُل الذي ستمضي معه كلّ يوم وليلة على مدى سنوات طويلة؟ ولماذا نرفضُ رفضًا قاطعًا فكرة أن تتزوّج المرأة رجلاً يصغرها بسنوات عديدة؟ هل لأنّنا نلعبُ لعبة هذا المُجتمع غير العادل حتى لو تضرَّرنا منه؟
حاورتها بولا جهشان
