أراد أبي التخلّص من أمي بأبشع الطرق

قضيتُ أيّامًا وليالٍ طويلة جالسة قرب سرير أمّي في المستشفى بعد أن شَرِبَت زجاجة منظّف منزليّ. كنتُ أعلم أنّها تعاني مِن إضطراب قويّ، ولكنّني لم أتصوّر أنّها ستحاول الإنتحار وإلاّ كنتُ عملتُ جهدي لإزالة هذا السّافل مِن طريقها. والذي أتكلّم عنه هو أبي أو بالأحرى الذي أنجَبني، لأنّه لم يتحمّل يومًا مسؤوليّاته كأب أو حتى كَزوج.

كنّا قد تنفسنا الصعداء لِسنين وطوَينا الصّفحة نهائيًّا، ولكنّ الماضي يتربص بنا متربّصًا في الأنحاء المظلمة مِن حياتنا.

قال لي الأطبّاء إنّها لن تعيش وإن فَعَلت فستكون أيّامها مؤلمة ومعدودة، لأنّ ما شربَته حرَقَ كلّ المجرى الممتدّ مِن الفم مرورًا باللسان والقصبة الهوائية نزولًا إلى أسفل المعِدة. عمِلوا جهدهم لإنقاذ ما تبقّى مِن المعِدة وأمِلوا أن تنتهي السنة الحاليّة. أمّا أنا فبدأتُ طبعًا بالصلاة والدّعاء بالموت للذي دفَعَها إلى إنهاء حياتها.

أحبَّت أمّي زوجها بجنون، الأمر الذي منَعَها مِن رؤية وجهه الحقيقيّ الذي كان بادياً للجميع. ولكنّها لم تستمع إلى نصائح كلّ مَن عَرِفه ِبعَدَم الإرتباط به وقَبلَت عرضه بالزواج. النساء تعتقدنَ دائمًا أنّ باستطاعتهنّ تغيير طباع الرجال بقوّة الحبّ، ولكنّ الواقع مخالف لذلك: فبعد أن يصل المرء إلى سنّ الرشد يكون شبه مستحيل تغييره.

ولأنّ أبي عَلِمَ أنّ وجود أمّي قرب عائلتها سيُسبّب له المشاكل، قرّر أخذها بعيدًا، أي إلى بلد آخر حيث كان لدَيه أقرباء وعملٌ ينتظره. وبالطبع، فَرِحَت والدتي بفكرة السّفر والتعرّف إلى أماكن جديدة، فودّعَت بحماس ذويها وطارَت مع زوجها إلى حياتها الجديدة.

وسكنا في شقّة صغيرة. وحاولَت أمّي التأقلم وتعلّم اللغّة آملة أن تجد عملًا سريعًا. وفي هذه الأثناء، بدأ أبي بالعمل في فندق كبير يملكه أحد أنسباءه حيث ينزل السيّاح وذوو الدّخل المرتفع. وهناك تعرّف إلى امرأة كانت تحجز غرفة على مدار السنة، بعدما فقدَت زوجها وسافَرَ أولادها ووجَدَت نفسها وحيدة في منزل كبير عليها. كان إسمها وفاء، وكانت بالرغم مِن سنّها امرأة فائقة الجمال. ورأت وفاء أبي وأُعجَبت بِوسامته وبذكائه وقرّرَت أنّه سيكون لها. مِن ناحيته، لم يرَ والدي أيّ مانع في إقامة علاقة معها، فلم يكن ومنذ البدء يتحلى بذرّة أخلاق وكان بعيدًا كلّ البعد عن مفهوم الإخلاص والصّدق. ووجَدَ بوفاء سبيلًا للحصول على المال والمتعة في آن واحد، وكلّ ذلك في مكان عمله، بدل أن يبحث عن عشيقة ويختلق الأعذار والأكاذيب لِتغطية غياباته كما كان يفعل طوال حياته مع صديقاته.

ولم تلاحظ أمّي شيئًا مّما كان يدور بين زوجها وتلك المرأة، لأنّه كان يعود إليها كلّ ليلة وكان يُعيرها الإهتمام الذي كانت تتوقّعه منه. وكانت تلك القصّة لتدوم طويلًا لو لم تقرّر وفاء أن تتزوّج مِن أبي بعد أن أحبَّته وتعلّقَت به كما تفعل غالبًا النساء مع شبّان أصغر منهنّ سنًّا.

ووقعَ أبي في حيرة مِن أمره، خاصة أنّ أمّي كانت قد أخبرَته بأنّها حامل، فقرّر أن ينتظر حتى أولَدَ ليُطلّق أمّي ليس بدافع الأخلاق ولكن خشية مِن ردّة فعل أقاربه ومحيطه الذي كان قد أحبّ والدتي كثيرًا.

ولكنّ وفاء لم تكن مستعدّة أن تنتظر تسعة أشهر، فبدأت تضغط على والدي ليترك أمّي ويتزوّج منها. أصبح أبي صعب المزاج لا يفوّت فرصة لإهانة زوجته، بعدما رأى فيها العائق الوحيد بينه وبين حياة الرخاء التي كانت بإنتظاره.

وقضَت أمّي أشهر طويلة وهي تبكي على معاملة زوجها السيئة لها وعلى الليالي الطويلة التي قضَتها لوحدها، بعدما قرّرَ أبي أنّه ليس مجبرًا على العودة إلى البيت.

وهمَسَت وفاء في أذن أبي أنّ عليه إنهاء زواجه بطريقة أو بأخرى وأن يتصرّف قبل أن تغيّر رأيها وتجد مَن هو أكثر إقدامًا منه.

بمعنى آخر، كان عليه إمّا تطليق زوجته أو قتلها. والقتل لم يلمس فكر أبي قبل ذلك فرفَضَ رفضًا قاطعًا، على الأقل في البدء. ولكنّه أعادَ حساباته ورأى أنّ خسارة وفاء كانت تعني خسارة فرصة العمر. فكان يُخطّط لأن يتزوّج منها لبضعة سنوات ومِن ثم يتركها بعد أن يستولي على مالها.

ومِن ناحيتها، كانت المسكينة أمّي تشكو أمرها لأقارب زوجها الذين حاولوا إقناعه بالتوقّف عن إهانة زوجته الحامل. ووصل الأمر بهم إلى تهديده بإنهاء عقد عمله في الفندق.

عندها قرّرَ أبي أن يتصرّف قبل أن يخسر كل شيء. فلم يكن واثقًا مِن جديّة نوايا وفاء تجاهه، وحتى يُصبح حقًّا زوجها لم يكن مستعدًّا أن يخسر وظيفته في الفندق. وفي إحدى الليالي بينما كانت أمّي غارقة في النوم، جاء أبي اليها خلسة وحاول خنقها بِوسادة. وبسبب عدم خبرته بالقتل، خال أنّها ماتَت بينما كانت أمّي قد فقدَت وعيَها فقط. وبعد أن خرج ركضًا مِن الشقّة ليخلق لنفسه حجّة غياب، إستفاقَت أمّي واتصلت بالشرطة.

وتمّ القبض عليه وعلى عشيقته التي طبعًا أنكَرَت أن يكون لها يد بالموضوع. وسُجِنَ والدي وعادَت أمّي إلى البلد لتلِدَني.

ومضَت السّنوات ولم تنسَ أمّي الرجل الذي أحبَّته بكلّ جوارحها، رغم أنّه حاول التخلّص منها بأبشع الطرق. وبقيَت المسكينة ترفض الزواج ثانية أو حتى أن تفكّر في أن تحبّ وكأنّها تنتظر عودته.

وخَرَج أخيرًا أبي مِن السّجن وعادَ إلى بلدنا، وأوّل شيء فعله كان أن اتصل بأمّي. ولأنّه لطالما تمتّع بقوّة إقناع خاصة لدى النساء، شرحَ لها أنّه فقد صوابه في تلك الليلة بعدما سحَرَته وفاء وأنّه نادم أشدّ الندم على فعلته. وتوسّل إليها كي تعيده متحجّجًا بي، أي أنّه يُريد أن يعيش حتى آخر أيّامه معها ومع البنت التي لم يرَها بحياته.

وجاءَت أمّي وأخبَرَتني أنّ أبي يودّ العودة، فرفضتُ رفضًا قاطعًا إذ كنتُ أكرَه ذلك المجرم الخائن ولم أكن مستعدّة أبدًا أن يعيش معنا أو حتى أراه.

ولكن أمام إصرارها ودموعها الحارّة، قبلتُ أخيرًا شرط ألاّ يحسب نفسه أبي بل أن يعتبر نفسه زوجها فقط. وعادَت البسمة إلى أمّي. وأعترف أنّني لم أرَها بهذه السعادة مِن قبل. ويوم رأيتُ أبي لأوّل مرّة في حياتي، ألقَيتُ التحيّة عليه كما قد أفعل مع أيّ إنسان آخر. وعاش معنا وفعَلَت أمّي المستحيل لإسعاده، بينما كنتُ أقضي معظم وقتي خارج المنزل كي لا أتواجد معه.

ولكنّ ذلك الرجل لم يكن مِمَّن يتوبون أو يُخلصون لإمرأة واحدة، فسرعان ما وجَدَ لنفسه عشيقة. وبدأ يغيب مِن جديد، وعلِمَت أمّي أنّ المشهد نفسه يتكرّر. ولحقَت به ورأته بصحبة امرأة وواجهته. فقال لها:

ـ أجل... إنّها عشيقتي... هل صدّقتِ فعلًا أنّني أحبّكِ؟ كم أنتِ غبيّة! حاولتُ قتلكِ لأتخلّص منكِ!

ـ ولمِاذا عُدت إليّ؟

ـ لتبييض سمعتي... فعندما يرى الناس أنّكِ قبلتِ بي بعدما حصل، سينسون هم أيضًا ما فعلتُه وسأستطيع متابعة حياتي... كما يحلو لي.

ـ وأبنتكَ؟ ألا تحبّها هي الأخرى؟

ـ مَن؟ هذه المتعالية؟ بالطبع لا! هي لا تعني لي شيئًا! ولا أنتِ... إسمعي... لا أريد إثارة المتاعب... سأذهب إلى المنزل وآخذ أمتعتي ولن تسمعي منّي مجدّدًا... إتفقنا؟".

واختفى الرجل، وغاصَت أمّي باكتئاب دفَعَها إلى محاولة إنهاء حياتها. فبالنسبة إليها لن يعود الرجل الوحيد الذي احبّته ولم تكن قادرة على العيش مِن دونه حتى بعد كل ما فعَلَه بها. لم أفهم يومًا سبب هذا التعلّق ولكنّني لم أكن مكانها لأشعر بما شعرَت به.

عادَت أمّي مِن المستشفى لتعيش أقلّ مِن سنة. لم يأتِ طبعًا أبي إلى مأتمها، مع أنّني أوصلتُ له خبر وفاتها عبر أصدقاء له. كان منشغلًا بعشيقته الجديدة.

لقد مضى على وفاة والدتي أكثر مِن عشر سنوات ولم أرَ أبي أو أسمع عنه منذ ذلك الحين.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button