كُتِبَت قصصٌ كثيرة وأُنتِجَت أفلام عدّة عن الغيرة، فهي واقع معاش عانى منه أغلبيّة الناس ولو مرّة في حياتهم. هناك الغيرة البسيطة التي تقتصر على تلميحات أو حركات بسيطة وسخيفة، وهناك الغيرة العميقة والدّفينة التي تدفع صاحبها إلى ارتكاب أبشع الأفعال مِن دون الإلتفات حتى إلى النتائج والعواقب. والذي عشتُه بسبب سوسن، يستحقّ أيضًا أن يُكتَب ويحوَّل إلى فيلم سينمائيّ.
ذنبي الوحيد كان أنّني جميلة وذكيّة ومِن عائلة عالية الشأن. فبالرّغم مِن أنّنا لم نعد أغنياء كالسابق بسبب تبدّد ثروتنا على يد ورثة متهوّرين، إلا أنّنا حافظنا على مكانتنا الإجتماعيّة وعلاقاتنا الرفيعة المستوى. حتى منزلنا لم يعد كما كان في السابق، ومَن ينظر جيّدًا يستطيع رؤية الأبواب المتخلخلة والتفسّخات في الجدران. ولكنّنا لم نكن نأبه لذلك، فقد كنّا عائلة متماسكة ومتفاهمة تخاف الله وتطبّق تعاليمه.
تلقَّيتُ دراسة جيّدة في مدرسة حكوميّة كمعظم الناس، ولكنّني وبفضل علاماتي الممتازة، إستطعتُ الحصول على منحة تخوّلني دخول جامعة خاصة، وتخرّجتُ بامتياز ووجدتُ عملاً بسرعة فائقة. وافتَخَر بي أهلي مرّة أخرى.
كانت الحياة تضحك لي مِن كلّ جوانبها، وأعترف أنّني خفتُ مِن هذا الكم مِن الحظ.
ومِن ثمّ تتوّجَت حياتي بلقائي بفادي، شاب وسيم وناجح. وبعد أن دَخَلَ بيتنا وطلَبَ يدي أصبحتُ فعلاً أسعد فتاة في العالم أسره.
ولكنّ الشرّ كان يتربّص لي بشخص زميلة قديمة لي مِن زمَن المدرسة الحكوميّة. كانت سوَسن فتاة هادئة إلى درجة أنّني لم أتذكّرها حين التقَينا صدفة في محل للألبسة. جاءَت نحوي ووقفَت أمامي قائلة:
ـ لم تتغيّري القط! ما سرّكِ؟
ـ عفوًا ولكن...
ـ أنا سوسن! كنّا في الصف نفسه أيّام الدراسة... كنتُ أجلس في مؤخّرة الغرفة... سوسن!
نظرتُ إليها بإمعان ولكنّني لم أتذكّرها. إلا أنّني وبدافع اللطف قلتُ لها:
ـ صحيح! كيف حالكِ؟ ما الذي فعلتِه بحياتكِ منذ ذلك الحين؟
ـ لا شيء يُذكر... تعلمين كم كنتُ منزوية وغير فالحة في الدّرس... فضّلتُ الإنتقال إلى عالم العمل.
ـ جميل... جميل... وما نوع عملكِ الآن؟
ـ أسّستُ شركة لتنظيف المنازل، ولكنّني إضطرِرتُ إلى إقفالها بسبب الأوضاع الإقتصاديّة... سأقول لكِ المزيد عندما نجلس سويًّا في المرّة القادمة... أعطِني رقم هاتفكِ.
وأعطيتُها رقمي على مضض، لأنّني لم أكن راغبة برؤيتها مجدّدًا، ليس لأنّني لم أحبّها بل لأنّني وبكل بساطة لم أكن أتذكّرها وأعتبرتُها شخصًا غريبًا كليًّا عنّي.
وبدأَت سوسن تتصل بي بشكل شبه يوميّ، وتقصّ لي ما جرى في نهارها. واستمَعتُ إليها لأنّني شعرتُ بوحدتها وبحاجتها إلى التكلّم مع أحد، خاصّة بعدما أخبَرتني أنّها فقَدت ذويها مبكّرًا وترعرعَت عند جدّتها المريضة.
وحان الوقت لأتزوّج مِن فادي، ولم أنوِ دعوة سوسن إلى الفرح، ولكنّني أثناء إحدى مكالماتنا ذكرتُ سهوًا شيئًا عن عرسي. وتوسّلَت إليّ أن أدعوها فقبلتُ. كان يجدر بي أن أضَعَ حدًّا لها، إلا أنّني لم أجد سببًا لذلك سوى أنّها كانت كثيرة الإلحاح، ومنعَتني تربيتي الصالحة مِن التخلّي عمَّن بحاجة إليّ.
وبعد عودَتي مِن شهر العسل، طلَبَت منّي سوسن أن تعمل عندي في البيت:
ـ ستكونين منشغلة بعملكِ وكذلك زوجكِ... مَن سيُنظّف بيتكما؟ هل تفضّلين أن تأتي غريبة أثناء غيابكِ وتسرقكِ؟
ـ بالطبع لا.
ـ أمّا أنا فتعرفيني جيّدًا... وتعلمين تمام العلم أنّني انسانة أمينة.
ـ صحيح ولكن...
ـ وبذلك تسدين لي خدمة كبيرة... فجدّتي مريضة جدًّا وعلاجها مكلف... إعتبري الموضوع خدمة إنسانيّة... أرجوكِ إقبلي... وإن لم يُرضِكِ أدائي، يُمكنكِ صرفي.
وكيف لي أن أرفض؟ فبالرّغم مِن إنزعاجي وجدتُ العرض مناسبًا جدًا: أحافظ على ترتيب بيتي ونظافته، وأساعد مَن هم بحاجة في آن واحد.
لكنّ أمّي لم تكن مِن رأيي:
ـ لا أدري إن كان إدخال تلك الفتاة إلى بيتكِ خلال غيابكِ قرار صائب، خاصّة أنّكِ قلتِ لي كم هي متطفّلة ولجوجة.
ـ أعلم ذلك يا ماما... ولكنّ المسكينة عاطلة عن العمل وجدّتها مريضة... ألم تعلّميني أن أساعد الناس وأقدّر ظروفهم؟
ـ صحيح... ولكنّني علّمتكِ أيضًا أن تستعملي المنطق وتستمعي إلى حدسكِ أيضًا... على كلّ حال، هذا بيتكِ وأنتِ صاحبة القرار.
وأعطيتُ مفتاح بيتي لسوسَن وبدأَت تأتي لتنظيفه خلال وجودي أنا وزوجي في عملنا وترحل قبل عودتنا. وللحقيقة كانت تؤدّي واجبها على أكمل وجه. وسرعان ما نسيتُ مخاوف أمّي بشأنها.
ولكن في إحدى الليالي عندما كنتُ على وشك الخروج مع زوجي للعشاء، فتّشتُ عن معطف جميل كنتُ أنوي ارتداءه فلم أجده. إستغربتُ جدًّا الأمر، خاصّة أنّني رأيتُه في الخزانة قبل أيّام قليلة. إضافة إلى ذلك، أن يختفي معطف مِن البيت أمر غير منطقيّ. وبالطبع فكّرتُ بسَوسَن إذ كانت الوحيدة التي تدخل البيت. وقرّرتُ أن أتكلّم معها بهدوء في اليوم التالي. وهذا ما قالَته لي عبر الهاتف:
ـ سامحيني... كان الجوّ باردًا جدًا عند خروجي البارحة، فأخذتُ المعطف كي لا أموت مِن البرد! نوَيتُ أخباركِ بالأمر ولكنّ حالة جدّتي ساءَت في المساء وانشغلتُ بها... هل أنتِ مستاءة منّي؟ على كلّ حال جلبتُه معي اليوم وهو في مكانه.
ـ لا... لستُ مستاءة...
ونسيتُ أمر المعطف حتى شاءَت الظروف أن تخطِّط والدتي لإقامة مفاجأة لي بمناسبة عيد مولدي. قرّرَت الذهاب إلى بيتي بعدما تحدَّثَت عن الأمر مع فادي، وأخَذَت منه المفتاح لِتزيين المكان بالبالونات والمائدة بالمأكولات اللذيذة. ولكن عند دخولها البيت، تفاجأت بما وصَفَته لاحقًا بالمنظر المخيف: كانت سوسن مرتدية ثيابي كاملة وجالسة في غرفتي أمام المرآة تتبرّج. ولشدّة اندهاشها، صَرَخَت أمّي بها:
ـ ماذا تفعلين؟؟؟
قامَت سوسن عن الكرسيّ، ودفعَت أمّي بقوّة نحو الحائط وخَرَجَت كما هي مِن المنزل.
واتصَلَت أمّي على الفور بزوجي الذي ركَضَ لإسعافها بعدما اصيبَت المسكينة برضوض. ولكنّها منعَته مِن إخباري بشيء قبل عودَتي كي لا أنفعل وأقود إليها بسرعة. وحين وصلتُ البيت، لم أفهم سبب وجود والدتي عندي ولا حتى زوجي الذي كان يعود عادة مِن بعدي. وأخبراني بما حصل وذُهلتُ لِما فعَلَته سوسن. قد أفهم رغبتها بارتداء ملابسي ولكنّني لم أعذر وحشيتّها تجاه أمّي.
قرّرتُ طبعًا طردها، إلا أنّني رفضتُ تقديم شكوى ضدّها مِن أجل جدّتها المسكينة. ولم أتوقّع أبدًا أن تأتي سوسن كالعادة في الصباح الباكر بعدما فعَلَته. كنتُ قد أخذتُ إجازة مِن عملي، لِشدة تأثّري بالذي جرى ولآخذ وقتي في التكلّم عبر الهاتف معها. وعندما سمعتُ صوت الباب، يُفتح ظننتُ أنّ فادي عاد إلى البيت بعدما نسيَ شيئًا ما. ولكنّها كانت سوسن التي ألقَت التحيّة عليّ وكأنّ شيئًا لم يكن. وعندما وبّختُها بشدّة، قالَت لي بعدما أخَذَ وجهها ملامح قبيحة:
ـ مَن تظنّين نفسكِ يا... سيّدتي؟ لطالما اعتبَرتِ نفسكِ أفضل مِن الجميع... حتى أنّكِ لم تتذكّريني حتى... طبعًا... ولِمَ تفعلين؟ أنا فتاة بسيطة لا وجود لها أمام جمالكِ وذكائكِ ونسبكِ...
ـ وما ذنبي؟ وهل أخطأتُ بحقّكِ يومًا؟
ـ كان مِن الأفضل أن تفعلي! على الأقل كنتِ بذلك اعترَفتِ بوجودي!
ـ لا يحق لكِ أخذ ما أملك وإيذاء والدتي!
ـ بل يحق لي كلّ شيء! يحق لي أن أنعم بما تملكينه!
ـ ما أملكه هو تعب زوجي وتعَبي! أنتِ تعلمين حتمًا أنّنا لسنا أغنياء، ولكن بفضل اجتهادي في المدرسة إستطَعتُ أن أصل إلى مركزي... ما الذي فعلتِه أنتِ إلى جانب كرهي وكره الآخرين؟ لا عذر لكِ إذ كان بإمكانكِ بناء مستقبل لكِ، ولكنّكِ فضّلتِ التحسّر على نفسكِ واشتهاء ما لغيركِ! ولولا جدّتكِ المريضة...
ـ أيّ جدّة؟ جدّتايَ ماتا عندما كنتُ صغيرة... هههه...لستِ بالذكاء الذي عهدتكِ به... لم تسألي حتى عنّي قبل إدخالي بيتكِ.
ـ أخرجي ولا تعودي وإلا سجنتكِ أيتّها الإنتهازيّة!
ـ لن أرجع لا تخافي... فلَم تعودي تهّميني... عشتُ حياتكِ لمدّة أشهر... لبستُ ملابسكِ ونمتُ بسريركِ وذقتُ طعامكِ ولم أجد الأمر على قدر توقّعاتي... لطالما سألتُ نفسي كيف ستكون حياتي لو كنتُ مكانكِ وها قد خابَ ظنّي... كم أنّ حياتكِ سخيفة!
وخَرَجَت سوسن مستاءة منّي وكأنّني أنا المذنبة. وأصابَني اكتئاب ممزوج بخوف دائم حتى بعدما غيّرنا قفل الباب. لم أعد أرغب بالخروج وذهابي إلى العمل بات يقلقني. صرت أتلَفَّت طوال الوقت مِن حوالي لأرى إن كانت سوسن تتبعني. أخذتُ مهدّئات وفقَدتُ سكينتي. وبعد أن عَمِلَ فادي جهده لمساعدتي، قرّرَ أنّ مِن الأفضل أن نغيّر مسكننا ومقرّ عملي. وانتقلنا إلى بيت جديد بعيد عن القديم واستطَعتُ أخيرًا مواصلة حياتي.
ولا أخفي أنّني لا أزال أرتعب لفكرة اللقاء صدفة بسوسن وأن تعلم أين أعيش. فتلك المرأة قادرة على إيذائي بدون تردّد.
حاورتها بولا جهشان