لَم يخطُر ببالي يوم وُلِدَ أخي الصغير أنّه سيُشكّلُ عائقًا بالنسبة لي يومًا. فالمسكين جاء إلى الدنيا مُختلفًا عقليًّا وجسديًّا، وقد أكّدَ لنا الأطبّاء مرارًا أنّ حالته لا دخل لها بالجينات، أي بالوراثة، بل بإصابة أمّي خلال حملها بالحصبة الألمانيّة التي التقطَتها مِن جارتنا في المبنى.
لكن مع الوقت، صارَ الناس يتكلّمون عن الموضوع، ويُطلقون نظريّات شتّى مفادها أنّ وضع أخي موروث مِن جهة أمّي أو أبي... وأنّني أحملُ في دمي العاهة نفسها وقد أُمرّرُها لأولادي. عندها أخذَتني والدتي جانبًا وقالَت لي بجدّيّة تامّة:
ـ لقد صرتِ صبيّة وسيتقرّب منكِ الشبّان... أستحلفُكِ الله بألا تأتي لهم على ذكر أخيكِ.
ـ لماذا وكيف؟!؟
ـ لماذا؟ لأنّكِ بذلك ستكبرين لتصبحي عانسًا يا حبيبتي... فالناس يقولون إنّ أخيكِ هكذا بسبب مرَض وراثيّ. وكيف؟ حين تجدين بالفعل الذي سيُصبحُ زوجكِ، سأُرسلُ أخاكِ إلى أمّي في القرية إلى ما بعد الزفاف.
ـ لكنّ ذلك هو غشّ يا ماما!
ـ لا تُجادليني أرجوكِ، فأنا أعرفُ أين خلاصكِ. الناس لا ترحَم! تذكّري أنّكِ إبنتنا الوحيدة وأنّ ليس لدَيكِ أخًا أو أختًا.
ـ لكنّني أحبّ أخي ولا أُريدُ نكرانه مِن أجل أيّ كان!
ـ لا تزالين يافعة ولا تُدركين أبعاد وجود معوّق في العائلة، إفعلي ما أطلبُه منكِ وحسب!
لَم يُعجبني كلام والدتي، ففضّلتُ نسيان أمر الشبّان برمّته على الكذب بهذا الشكل. فماذا سيقولُ عنّي ولي عريسي حين يكتشفُ أمر أخي بعد العرس؟ لا! لن أكذب على أحد!
كنتُ بالفعل يافعة، ولَم أكن أعلَم بعد أنّ للضرورة أحكامها وأنّ الغاية تُبرّر الوسيلة. فبعد أعوام عديدة، إختارَ قلبي شابًّا وسيمًا وكريمًا ومُثقّفًا إسمه وليد، وأدركتُ أنّه سيكون رفيقي مدى الحياة... أو هكذا ظننتُ.
لَم يشكّ وليد بوجود أخ لي، فعمِلنا جهدنا لإخفائه جيّدًا عنه. وكلّما جاء عريسي لزيارتنا، كنّا نُرسلُ المسكين إلى جيراننا أو إلى جدّتي في القرية. مِن حسن حظّي، لَم يسأل وليد أو أهله عنّي، بل اكتفوا بالذي عرفوه منّا. وفي تلك الفترة، تعوّدتُ، لكثرة الكذب، أن أكون إبنة وحيدة وأعجبَني الأمر. فكلّ إنسان لدَيه فرد مِن عائلته مُصاب بعاهة جسديّة أو عقليّة، يجدُ نفسه تعِبًا مِن ذلك الواقع بالرغم مِن حبّه للمريض. فالعبء ثقيل على الصعيد اليوميّ وصعب التعامل معه. فحين أخبرَتني والدتي أنّ أخي سيعيشُ بصورة دائمة عند أمّها، شعرتُ بإرتياح كبير. هل كان سيتسنّى لي أخيرًا العَيش بشكل طبيعيّ ومُحاطة بأناس طبيعيّين؟
تزوّجتُ مِن حبيبي وأقمنا فرحًا جميلاً، ومِن ثمّ إنتقلنا لنعيشُ في شقّة أنيقة فرشناها بحبّ. آه، كَم كنتُ سعيدة! لكنّ الحياة لا تجري كما نُخطّط لها، بل كما هي تُريد. وبالفعل لا يبقى شيءمستوراً ولا بدّ أن تظهر الحقيقة عاجلاً أم آجلاً.
وبالنسبة لوجود أخي، ظهرَت الحقيقة بعد أشهر قليلة على زواجي، أيّ حين كنتُ أستمتِع بهناء حبّي لِرجُل حياتي. فإحدى جارات أهلي إلتقَت صدفة بحماتي عند صديقة مُشتركة لهما، وجرى حديث بين المرأتَين حولي وحول وليد، وإذ بالجارة تقول لحماتي: "كيف تجرّأتم على الإقتران بتلك الصبيّة بالرغم مِن حالة أخيها؟ يا لشجاعتكم!". وانتابَ حماتي هلَع كبير وأسرعَت بإخبار إبنها عن إعاقة أخي المسكين. وفي الليلة نفسها، واجهَني زوجي بما علِمه. كان غاضبًا لِدرجة لَم أتصوّرها مُمكنة وخفتُ منه للحقيقة. حاولتُ أن أشرَح له دوافع كذبتنا لكنّه بقيَ يصرخُ بي كالمجنون. عرضتُ عليه جَلب تقرير طبّيّ يُفيد أن سبب حالة أخي هي الحصبة الألمانيّة وأنّ الأمر ليس وراثيًّا، إلا أنّه لَم يهدأ وبقيَ ينعتُني بالكاذبة والغشّاشة وبما هو أسوأ بِـ"حاملة المرَض"، فبالنسبة له كنتُ موبوءة. نظرتُ إليه بإندهاش، فكنتُ أتفهّم إمتعاضه منّي لإخفاء أخي عنه، لكنّ أن يرفض ذلك الرجُل المُثقّف حقيقة علميّة بهذا الشكل، فذلك كان يعني أنّه ليس كما تصوّرتُه. رجوتُه بأن يهدأ أو أن نُرجئ هذا الحديث إلى اليوم التالي، إلا أنّه أفرَغَ سمّه طوال الليل عليّ. بكيتُ كثيرًا والتمستُ منه السماح، مِن دون جدوى. فهمتُ منه أنّ كذبي بِما يخصّ وجود أخي ليس ما أغضبّه الأكثر، بل كَوني أحمِلُ في دمي جينات مريضة. هل كنتُ بضاعة مضروبة بالنسبة له؟
بعد ذلك تغيّرَت حياتي بأسرها، فكفَّ وليد عن التكلّم معي، وشعرتُ أنّه يُفكّر بِتركي. وبالطبع هو توقّفَ عن لَمسي، على الأرجَح كي لا يُخاطر بإنجاب ولد مُعوّق.
رحتُ على الفور إلى طبيب أخي الذي أعطاني تقريرًا مُفصّلاً عن أسباب وضع المسكين، وتأكيدًا بأنّ الأمر ليس وراثيًّا. قرأ وليد التقرير بسرعة ورماه جانبًا قائلاً:
- كَم قبَضَ الطبيب على تزويره التقرير؟ لا أفهَم إصراركِ على جرّي لإنجاب مسخ!!! أتعرفين أمرًا؟ لقد اشمأزَّيتُ منكِ حين علِمتُ بما تحملينَه في جسدكِ! لا أُطيقُ حتى النظر إليكِ!
عند ذلك صرختُ به عاليًّا:
- أين ذهَبَ حبّكَ لي وإصراركَ على العَيش معي حتى آخر أيّامكَ؟ وهل إعاقة أخي هي كلّ ما تراه فيّ؟ ألا ترى قلبي وعقلي وعواطفي وتاريخي؟ يا لسخافتكَ... أعترفُ أنّني مُذنبة لإخفاء وجود أخي عنكَ، لكنّني كنتُ على ما يبدو مُحقّة بذلك، فأمثالكَ موجودون ولا يقبلون بالدلائل العلميّة بل فقط بما يُملي عليهم عقلهم المُقفَل. سأتركُ لكَ هذا البيت الذي حسبتُ أنّني سأعيشُ فيه سنوات سعيدة، وسأبحثُ لنفسي عن رجُل حقيقيّ... سأُنجبُ، إن شاء الله، أولادًا أصحّاء وسترى مدى غباءكَ. لكن في تلك المرّة، لن أخجَل مِن أخي بل سأريه للعالَم بأسره، وليذهب إلى الجحيم كلّ مَن لن يتقبّله أو مَن لا يُصدّق بأنّ حالته سببها فايروس. الوداع... يا زوجي المُحِبّ!
وأوّل شيء فعلتُه بعد أن أخذتُ أمتعتي ورحلتُ، هو أنّني قصدتُ بيت جدّتي لأخذ أخي إلى بيته، المكان الذي لَم يكن يجدرُ به تركه. بعد ذلك قلتُ لأمّي:
ـ لن ألومكِ على ما فعلتِه يا ماما، فقد كان قصدكِ حمايتي مِن حماقة الناس. لكن بعد اليوم، سنتّبِع طريقتي، أيّ أنّنا لن نختبئ أو نخجل أو حتى نُفسِّر. فمرحبًا فقط بالذي سيُصدّقُنا ويُحبّنا. أمّا الباقون فلا نُريدُهم، حتى لو عنى ذلك بقائي مِن دون زواج. فأن أعيش وحيدة أفضل مِن أن أكون برفقة جاهل وأبلَه.
عانقَتني والدتي وقبّلَتني بِفخر.
إهتمَّيتُ كثيرًا بأخي بعدما أدركتُ أنّني أخطأتُ بإرساله بعيدًا وإنكار وجوده، فما ذنبه في آخر المطاف؟ كلّ ما أرادَه المسكين هو أن نُحبُّه ونُشعِره بأنّه مُحاط بعائلة تعطفُ عليه.
سمعتُ أنّ وليد تزوّجَ مِن جديد، إلا أنّني لَم أزعَل لأنّني أعرفُ أنّه ليس إنسانًا مُميّزًا، بل العكس.
لزمَتني ثلاث سنوات لمواعدة شاب آخر، فكنتُ قد اشمأزَّيتُ مِن صنف الرجال برمَّته. ماجد هو الذي فرَضَ نفسه عليّ بعدما وقَعَ في حبّي سرًّا في مكان عمَلي. وحين هو عرَضَ عليّ أن نتعرّف إلى بعضنا أكثر، قلتُ له على الفور:
ـ إسمَع... لدَيّ أخ معوّق عقليًّا وجسديًّا بسبب فايروس الحصبة الألمانيّة التي التقطَتها أمّي أثناء حمَلها به. حالته إذًا ليست وراثيّة ولدَيّ تقرير طبيّ يؤكّد ذلك. أنتَ تعرف حتمًا أنّني مُطلّقة والسبب هو جهل زوجي حيال موضوع أخي. كنتُ قد أخفَيتُ عنه أمره ولن أُعيد الخطأ نفسه فلَم أعد أخجَل بإعاقة أخي. أنا أيضًا مُعجبة بكَ، إلا أنّني لستُ مُستعدّة لأن أُطلِّقَ زوجًا مِن جديد، لأنّ ذلك سيحصل حتمًا لو أنّه كان جاهلاً كالأوّل. تقول إنّكَ تُحبُّني؟ هذا مُجرّد كلام يا عزيزي، فأنا أُريدُ أفعالاً وليس أقوالاً. تعالَ إلى بيتنا وتعرّف إلى أخي أوّلاً وإلى عائلتي ثانية. هؤلاء هم قومي ولن أتخلّى عن أيّ منهم مِن أجل أحد. قد تجِد كلامي قاسيًا، لكن إفهَم أنّني عانَيتُ الكثير. وفي حال قبِلتَ بوضعي، إعلَم أنّني لن أقبَل منكَ أيّ تلميح أو عتاب أو إنتقاد بما يخصّ موضوع الإنجاب.
اليوم لدَيّ ولدًا صحيح العقل والبنية، وأعيش سعيدة مع ماجد أبيه. علِمَ وليد بأمر زواجي ومِن ثمّ إنجابي لإبني، ووصلَني أنّه سألَ مَن أخبرَه عنّي إن كان إبني معوّقًا. وتصوّرتُ وجهه حين أجابوه أنّ ولَدي سليم كلّيًّا وجميل أيضًا. يا لَيتني كنتُ موجودة في تلك اللحظة، لرأيتُ على ملامحه الندَم والخذلان، فهو لَم يكن سعيدًا مع زوجته التي اختارَها مِن دون حبّ، بل فقط ليتأكّد مِن أنّها ستُعطيه أولادًا سليمين. أي أولاد؟!؟ فهو حتى اليوم لَم يُنجِب. هل هي صدفة أم درس من الله؟ على كلّ الأحوال الأمر لَم يعُد يهّمني بعد أن وجدتُ فعلاً السعادة. أمّا بالنسبة لأخي، فهو ينعمُ بحبّنا جميعًا وبالإهتمام اللازم، خاصّة مِن قِبَل إبن أخته!
حاورتها بولا جهشان