أجل، كان فؤاد أخي لصًّا وبكلّ ما للكلمة مِن معنى. أيّ أنّه كان يدخلُ منازل الناس ويسرقُهم. كان بالطبع يستهدفُ الأثرياء منهم كي لا يضيّع وقته وجهده سدىً، ناهيك عن الخطر الذي كان يعرّضُ نفسه له.
بالطبع لَم أعرف بمهنة أخي غير المُشرّفة إلا بعد وقت طويل، فهو عمِلَ جهده لإبراز صورة حسَنة عن نفسه، وكلّ مَن كان يعرفُه كان يُثني على أخلاقه العالية. كيف استطاعَ فؤاد تضليلنا مُدَّعيًا لسنوات، وليُبرّر نمط حياته، أنّه يعمل بتداول العملات والأسهم؟ أظنّ أنّه اختارَ هذه القصّة لأنّ لَم يكن بمقدور أحد التحقّق مِن مصدر ثروته.
لَم يتزوّج فؤاد، وأردُّ السّبب إلى أنّه لَم يُرِد إقحام زوجته أو أولاده بما يفعلُه، فكان مِن الجائز أن يُقبض عليه في أيّة لحظة، وكان قراره حكيمًا. إلا أنّه وقَعَ أخيرًا في الغرام، الأمر الذي غيَّرَ مجرى الأحداث بشكل جذريّ. فهو لَم يُحبّ فتاة مُهذّبة وخلوقة، بل راقصة تعرضُ جسدها على خشبة مسرح كاباريه رخيص مثلها. قد يقولُ البعض إنّ هكذا فتاة هي الإختيار الأمثل لسارق ينهبُ منازل الناس، إلا أنّ فؤاد لَم يكن يُحبّ هذا النوع مِن النساء. لكنّ معشره السيّء قادَه إلى أماكن مشبوهة، وكانت رندا تعرفُ كيف تصطادُ الرجال لأنّ تلك كانت مهنتها. وبعد بضع زيارات للكاباريه، علِقَ فؤاد، وبقوّة. وككلّ عاشق، صارَ أخي يُخبرُها عن أسراره، فعلِمَت بنشاطاته الليليّة المُربحة، وهي رأت بذلك فرصة للإثراء وترك عملها. لِذا، بدأَت رندا بتشجيع أخي على مُتابعة السّرقة، لا بل عرّفَته على أناس مشبوهين ليُشكّلوا فريقًا أو بالأحرى عصابة. إلا أنّ فؤاد لَم يكن يُحبّ العمل إلا لوحده، فحاوَلَ الإبتعاد قدر المُستطاع عن هؤلاء الناس، لكنّهم لَم يتركوه بسلام، فقد كان بالنسبة إليهم الإوزّة الذهبيّة التي كانت ستدرُّ عليهم مالاً مُريحًا.
وفي تلك الفترة بالذات، ظهَرت رَهَف، صديقة قديمة لي كانت قد هاجرَت منذ سنوات مع أهلها. وفور عودتها، إتّصلَت بي وركضَت تزورُني. وفي ذلك النهار بالذات، تغيّر مصير أخي تمامًا. فهو وقَعَ بحبّ رَهَف مِن أوّل نظرة وهي الأخرى تأثّرَت به كثيرًا. ومِن دون أن أدري، صارا يتواصلان ويتواعدان.
ولولا قرار فؤاد الزواج مِن صديقتي، لَما أخبرَني بحقيقة عمله. فهو كان مُحتارًا بأمره، إذ كيف له أن يُواجه حبيبة قلبه ويُؤسّس معها عائلة وهو لصّ؟ طلَبَ أخي منّي الإستماع إليه ومِن دون مُقاطعته وروى لي فظاعة واقعه. لَم أصدّق أذنَيّ وحسبتُه طبعًا يُمازحُني. إلا أنّه بدأ بالبكاء، لكثرة ندمه على المجرى التي أخذَته حياته. وطلَبَ مِن بعدها النصيحة، وكلّ ما قلتُه له كان أن يفعل ما يُرضي الله. قبّلَني وسألَني إن كنتُ لا أزال أحبُّه، فأجبتُه: "سأظلُّ أحبُّكَ مهما حصل وكيفما كنتَ، لكنّني أريدُ أن أفتخرُ بكَ أيضًا."
لاحقًا ندمتُ على ما قلتُه له، فكنتُ أفضّل أن يبقى أخي سارقًا... وحيًّا.
لكنّ عودة فؤاد إلى الحياة الفاضلة لَم تكن ذنبي، بل حبّه لرَهَف هو الذي فتَحَ عَينَيه على بشاعة عمله. لِذا، راحَ يتركُ رندا وأصدقاءها كي يقطَع أيّة صلة مع ماضيه، على أمل أن يجد عملاً شريفًا ويتزوّج مِن التي، مِن غير قصد، صنعَت منه رجلاً شريفًا.
لكنّ رندا لَم تكن مُستعدّة لإفلاة فؤاد، أوّلاً لأنّ ما مِن رجل تجرّأ وتركَها مِن قبل، وثانيًا لأنّه كان مصدر رزق لا غنى عنه... في الوقت الحاضر. هي حاولَت بالطبع استعمال كلّ وسائل الإغراء لتغيير رأي عشيقها، الا أنّ الجنس لَم يعُد يعني له شيئًا بعد أن استفاقَ قلبه. وعندما رأت تلك المرأة الرخيصة أنّ أخي كان قد أخَذَ قراره، صمَّمَت على الإستفادة منه لآخِر مرّة. وبمساعدة أصدقائها، أقنعوا فؤاد بأن يقوم بعمليّة سرقة أخيرة، بعد أن بيّنوا له استحالة إيجاده عملاً جديدًا بالمستقبل القريب. وقد كان يلزُمه ما يُمكّنُه مِن إقامة فرَح كبير وشراء شقّة فخمة لعروسه. فالجدير بالذكر أنّ أخي كان يصرفُ كلّ ما يسرقُه بسرعة فائقة، خاصّة بعدما تعرّفَ إلى رندا وصار يُلبّي طلباتها المُكلفة.
وافَقَ أخي على القيام بعمليّة أخيرة وأخبرَني بالأمر. لَم أكن موافقة طبعًا، إلا أنّ فؤاد لَم يكن يطلب برَكتي بل أرادَ أن يُثبت لي أنّه سيتركُ حياته القديمة ليتفرّغ لحياته الجديدة. لكنّ خطّة رندا وأصدقائها كانت مُختلفة: لَم يكن يجدر بفؤاد أن ينعَمَ بالغنيمة.
حضّرَت العصابة كلّ المعلومات اللازمة المُتعلّقة بالمنزل الذي كان على فؤاد سرقته. وبما أنّه لا يُحبّ أن يعمل إلا بمفرده، عرضوا عليه انتظاره بسيّارة جاهزة للفرار. قبِلَ أخي على مضض، وراحَ يسرق. وكما علِمتُ مِن المحقّق لاحقًا، كانت رندا قد قالَت لأصدقائها: "إيّاه أن يخرج حيًّا مِن البيت."
دخَلَ فؤاد المكان المذكور، ووجده بالفعل مليئًا بالغنائم إذ أنّ أصحابه أناس أثرياء. ملأ حقيبة كبيرة بكل ما استطاع أخذه وخرَجَ ليركبَ بالسيّارة التي تنتظرُه. إلا أنّ طلقات ناريّة عديدة أردته ميّتًا على الرصيف... وأخذَت العصابة الحقيبة واختفَت بالليل.
لَم أعلم بما حدَث سوى في الصباح الباكر حين وصلَني اتّصال مِن الشرطة. كانوا قد علِموا باسمي ورقمي مِن ورقة كان فؤاد يحملُها في جيبه تقول: "في حال حدوث أيّ مكروه لي، إتّصلوا بأختي على الرقم التالي."
بدأتُ بالصراخ والبكاء، وأوّل شيء إستطعتُ قوله كان: "هي قتلَته... هم قتلوه...!". عندها أمرَني المحقّق بالتوجّه إلى القسم والإدلاء بما أعرفُه، وهذا ما فعلتُ. أخبرتُ المحقّق كل الذي أعرفُه وكيف علِمتُ به. كانت الشرطة تعرفُ طبعًا رندا، لأنّها كانت تحت رقابتهم هي وأصدقاؤها، إلا أنّ ما مِن تهمة ملموسة ساهَمَت بالقبض عليهم. حتى إفادتي كانت مبنيّة على ما أخبرَني به فؤاد، أي مِن دون دليل حسّي، إذ كان أخي يعمل لوحده وكلّ سرقاته تدلّ على ذلك. ومع أنّ الشرطة لم تشكّ بأخي يومًا، إلا أنّها درسَت عن كثب السرقات التي قامَ بها، واستنتجَت أنّها فعل رجل بمفرده وليس عصابة.
عدتُ إلى البيت أبكي أخي، وحمدتُ ربيّ أنّ والدَينا كانا قد ماتا قبله. علِمَت رَهَف بحقيقة أخي مِن الخبر الذي ورَدَ في الصحف، فأسرَعَت بالعودة إلى المهجر مِن دون أن تودّعني، إذ خالَت أنّني غشَشتُها بالسكوت عن مهنة أخي. كان المسكين قد مات بسببها وهي لَم تحضر جنازته حتى.
مرَّت الأسابيع والأشهر ولَم تتوصّل الشرطة إلى أيّة نتيجة بقضيّة أخي. كنتُ أتّصل بالقسم كلّ أسبوع حتى سئموا منّي بالفعل.
تأثّرَت حياتي كثيرًا بعد موت فؤاد، فالكلّ باتَ على علِم بما كان يفعلُه أخي، وصِرتُ ضحيّة مضايقات كثيرة في مقرّ عملي وفي المبنى الذي أسكنُه. ولأنّني لَم أكن قادرة على ترك العمل أو إيجاد مسكن آخر، إضطرِرتُ للتحمّل، فقد كان موت أخي يستحقُّ بعض التضحيات حتى لو لَم أكن أنا المُذنبة.
شعرتُ بعزلة كبيرة داخل مُحيطي وفي بيتي. فكما ذكرتُ، كان فؤاد كلّ ما لدَيّ، وبعد أن فقدتُه، صرتُ وحيدة، ناهيكَ عن إبتعاد الجميع عن "أخت اللصّ." ولَم يعد لدَيّ مصدر فرَح سوى تذكّر طفولتي السعيدة مع أبويَّ وأخي... عندما كان إنسانًا نزيهًا ومحبوبًا.
ووسط هذا الحزن العميق، حصَلَ أخيرًا ما كنتُ أتمنّاه، وهو إلقاء القبض على رندا وعصابتها. حدَثَ ذلك بعد سنة مِن مقتل فؤاد. وكَم فرحتُ عندما خابَرَني المُحقّق ليزفّ لي الخبر السار. كان هؤلاء القتلة قد وقعوا في شباك العدالة بطريقة غير إعتياديّة، فأحد أعضائها تخلَّفَ عن تسديد مخالفات سَير عديدة بحقّه، لِذا استدعَته الشرطة. وهناك، لأنّ شبهات كثيرة كانت تدورُ حوله، بدأ المحقّق باللعب على أعصابه وإيهامه بأنّ هناك أدلّة حسّيّة على ممارساته والعصابة، وخاصّة قتل فؤاد. وبعد وعود بتخفيف الحكم عليه، بدأ ذلك الرجل بالتكلّم، الأمر الذي سهَّلَ مهمّة الشرطة. فبدأوا يقبضون على أعضاء العصابة الواحد تلو الآخر، واتّباع الطريقة نفسها معهم إلى أن حصلوا على اعترافات كاملة. لَم يتبقَّ سوى القبض على رندا التي انتهى الأمر بها كأصدقائها.
ركضتُ إلى القسم بعد أن طلبتُ مُقابلة الراقصة قبل أن يقودوها إلى السجن، فكنتُ بحاجة إلى معرفة سبب قتلها لأخي. نظَرت إليّ رندا في البدء باندهاش وكأنّني أسأل سؤالاً بديهيًّا، ثمّ قالَت لي:
ـ لماذا؟ لأنّه حشرة... كيف يجرؤ على تركي مِن أجل فتاة تافهة؟ أنا رندا! أتسمعين؟ رندا! أنا الآمرة الناهية بما يخصّ حياة الناس. أنا!
ـ لكنّكِ ستدخلين السجن... يا رندا! أين قوّتكِ الآن؟
ـ لا يهمّ... سأتدبّرُ أمري هناك.
ـ أنتِ مسكينة... ما الذي حدَثَ لكِ في طفولتكِ لتمسي هكذا؟ مَن أذاكِ إلى درجة جعلَ قلبكِ قطعة مِن حجر؟
عندها، امتلأت عَينا الراقصة بالدموع وتمتمَت:
ـ كيف علِمتِ؟
ثمّ استدركَت نفسها وعادَت تصرخُ:
ـ أنا رندا! أفعلُ ما أشاء!
تركتُها تصرخ قدر ما تُريد، وعُدتُ إلى بيتي سعيدة لأنّ مُرتكبي جريمة قتل أخي أصبحوا بين أيدي العدالة، وحزينة مِن أجل كل مَن عانى لدرجة إحاطة نفسه بجدار مِن القساوة لحماية ذاته، مثل رندا. فلو كانت لها طفولة عاديّة وسعيدة، لَما قتلَت أخي، بل كانت صبيّة فرحة ولها عائلة مُحبّة وزوج محبّ. حياة رندا المُدمَّرة دمَّرَت بدورها حياة أخي، وكم مِن الناس يؤذون بعضهم لأنّهم تأذّوا وهم في أصعب وأدقّ مرحلة مِن حياتهم؟ الجواب مُخيف.
حاورتها بولا جهشان