أخي الجديد

كانت والدتي قد شرحَت لي أنّ حياتنا ستتغيّر إلى الأفضل، لأنّها ستتزوّج مِن رجل لطيف ومحبّ وأنّنا سنعيشُ معه وإبنه الذي كان عمره يُناهز عمري. للحقيقة فرِحتُ لفكرة ظهور "أخ" لي بعد أن عانَيتُ مِن الوحدة. فكان والدي قد توفّى وصارَت أمّي تذهب إلى العمل مِن الصباح حتى المساء. في البدء، كانت تضَعُني عند الجارة، ومِن ثمّ صرتُ أبقى في البيت لوحدي بعد عودتي مِن المدرسة إلى حين ترجع هي مِن عملها.

يوم التقَيتُ سمير لأوّل مّرة، وجدتُه فتىً وسيمًا لكنّه لَم يعِرني أيّة أهميّة، فالصبيان في ذلك العمر لا يُحبّون كثيرًا الفتيات. إبتسَمتُ له بِخجل وهو رفَعَ عَينيَه إلى السماء ثمّ دخَلَ غرفته. ضحِكَت أمّي وزوجها المستقبليّ وأنا إرتبكتُ مِن ذلك الموقف المُحرج. كنتُ في السابعة مِن عمري وكانت تلك بداية باقي حياتي كما أصبحَت عليها اليوم.

كان زوج أمّي رجلاً هادئًا وفعلاً جيّدًا، وفرِحتُ لرؤية والدتي تبتسم مُجدّدًا وترتاح بعد سنوات مِن العمل الشاق. أنا الأخرى كنتُ ممنونة مِن التغيير الذي حصَلَ لنا، بالرغم مِن انتقالي إلى مدرسة جديدة حيث كان التعليم أفضَل وأصعَب. إلا أنّ الأجواء كانت سليمة مِن حولي، لِذا تأقلَمتُ بسرعة وبتُّ أجتهدُ لأُبرهنَ للجميع أنّني على قدر المسؤوليّة.

كانت لي غرفة جميلة ومُزيّنة بالألوان الزهريّة والألعاب المُسليّة، وكنتُ أقضي مُعظم وقتي فيها لأنّ سمير كان دائم الإنشغال في غرفته وبالكاد يُكلّمُني. لَم يكن يكرهُني لكنّه شَعَرَ أنذاك أنّني وأمّي انتهَكنا خصوصيّاته فجأة. لكنّه لَم يُحبّ والدتي، ربمّا لأنّه اعتبَرَها أخذَت مكان أمّه التي سافرَت بعيدًا بعد أن وجدَت الرجل الذي سيُسعدُها أكثر مِن زوجها. لكنّ سمير لَم يكفّ عن انتظار عودتها ضمنًا. يا لَيت الأهل يعلمون كَم مِن الضرَر يًحدثونه في أولادهم حين تضربُهم الأنانيّة...

بكلمة، كنّا جميعًا سعداء ما عدا سمير. حاولتُ التقرّب منه لكنّ باب غرفته كان دائمًا موصدًا بوجهي، ولَم أكن أراه إلا خلال تناولنا الطعام أو في المُناسبات العائليّة والإجتماعيّة. لِذا بقيتُ أشعرُ بالوحدة، فكوّنتُ لنفسي مجموعة صديقات لأملأ ذلك الفراغ.

 


مرَّت السنوات كما التي سبقَتها وصرنا مراهقَين. لَم تُنجِب أمّي عن قصد، بعد أن أدركَت وزوجها أنّ مجيء طفل سيزيدُ مِن إرباك سمير وكانا حتمًا على حقّ. فهو كبرَ سجين غرفته وآماله التي لَم تتحقّق، فأمّه لَم تعُد بل كوّنَت لنفسها عائلة جديدة وصارَت حياتها بعيدة عنه. وعندما أدركَ ذلك الشاب أنّه أخطأ بحساباته، نما في قلبه كره عميق للجنس اللطيف، فبنظره أمّه كانت إنسانة بلا مسؤوليّة وأمّي إمرأة إنتهازيّة وأنا فتاة مُزعجة. أيّ أنّ كلّ النساء اللواتي في حياته تنطبق مواصفاتهنّ على النموذج الذي تخيّلَه. مِن ناحيتي، عشتُ حياة طبيعيّة مُحاطة بحبّ أمّي وزوجها وصديقاتي. المدرّسون حتى كانوا يًحبّون وجودي في صفّهم لأنّني كنتُ تلميذة مُجتهدة تتمتّع بفضوليّة المعرفة.

إلا أنّ غموض وعزلة سمير أثّرا فيّ بشكل أنّني صرتُ مفتونة به، وأنتظرُ بفارغ الصبر تناول الطعام معه حتى لو أنّه لَم يكن يقول إلا بضع كلمات مِن دون أن ينظر حتى إليّ. لكنّ ذلك كان كافيًا لِمُراهقة.

دخَلنا الجامعة واخترتُ الطبّ كاختصاص لي وسمير الهندسة. وتكلّمَ زوج أمّي عن إرسالي إلى الخارج لاحقًا لإكمال تخصّصي. شعوري حيال ذلك كان ممزوجًا بالفرَح والحزن للابتعاد عن سمير. أمّا هو، فاعتبرَ ذلك تخليًّا مِن جانبي. لَم أكن أعلمُ أنّه يُفكّر هكذا إلى حين دخَلَ فجأة غرفتي، الأمر الذي لَم يفعله يومًا، وصرَخَ بي:

 

ـ حضرة الآنسة سترحل بعيدًا! برافو! هيّا إرحلي! هكذا أفضل!

 

ـ لستُ ذاهبة إلى أي مكان يا سمير.

 

ـ سمعتُ أبي يقول إنّه سيبعثُ بكِ إلى أوروبا.

 

ـ صحيح أنّه قال ذلك لكنّ الأمر لن يحصل إلا بعد سنوات.

 

ـ سترحلين إذًا!

 

ـ لَم أقُل رأيي بالمسألة بعد، فالأمر سابق لأوانه.

 

ـ كلّكنّ سواء!

 

ـ ماذا تعني؟

 

ـ لستُ بحاجة إليكنّ! فحياتي أفضل مِن دونكنّ!

 

ـ يا سمير... أنا هنا في الوقت الحاضر... ها أنا أمامكَ. ولا أفهَم سبب غضبكَ، فأنتَ بالكاد تُكلّمُني وهذه أوّل مرّة تدخلُ غرفتي.

 

ـ لا، ليست أوّل مرّة.

 

وخرَجَ سمير، وأدركتُ أنّه سبَقَ له أن دخَلَ غرفتي لكن ليس أثناء وجودي فيها أو حتى في البيت.

حزنتُ لضياع سمير الذي كان ملموسًا، لِذا قرّرتُ التقرّب منه حتى لو لَم يُعجِبه الأمر. فما قالَه لي كان بمثابة صرخة نجدة أطلقَها مِن دون قصد. لِذا ادّعيتُ بعد أيّام أن سيّارتي مُعطّلة، وطلبتُ منه أن يوصلَني إلى منزل صديقة لي. هو إستغرَبَ هذا الطلَب وكادَ أن يرفض لولا توسّلاتي، فقبِلَ على مضض. ركبتُ معه في سيّارته لكن قبل أن نصل إلى المكان، إتّصلَت بي تلك الصديقة، كما طلبتُ منها أن تفعل، وقالَت لي إنّها لن تكون موجودة في منزلها قبل ساعة على الأقل. مثّلتُ أمام سمير أنّني بحيرة مِن أمري، الذي استاءَ للخبر فعرضتُ عليه أن نجلس في مقهى حتى مرور ساعة، وهو قبِلَ رغمًا عنه.

 


جلسنا قُبالة بعضنا صامتَين لدقائق طويلة، ومِن ثمّ قرّرتُ البدء بالكلام فأخبرتُه عن جامعتي. سمِعَني سمير ثمّ قال بضع كلمات وسكَت مِن جديد. كان مِن الواضح أنّه لَم يكن مسرورًا بتلك الجلسة ويودّ إنهاءَها بسرعة. في تلك اللحظة، أدركتُ أنّني لست مُغرمة بِسمير بل أنّني أكنّ له عاطفة أشبَه بالشفقة، فطلبتُ منه أن يُرجعني إلى بيتنا. وفي طريق العودة قلتُ له:

 

ـ عليّ أن أعترفَ لكَ بشيء يا سمير... إفتعلتُ هذه الزيارة لأكون معكَ، لكنّني استنتجتُ أنّ وجودي يُزعجكَ إلى أقصى درجة... صحيح أنّكَ لستَ أخي الحقيقيّ لكنّني لطالما تمنَّيتُ أن تتصرفَ معي ولو بشيء مِن المحبّة... لَم أفعَل لكَ شيئًا، فحالي هي كحالكَ وأبوَانا هما اللذان قرّرا أن نعيش سويًّا... أنتَ تجاهلتَني لسنوات عديدة حين كنتُ بحاجة إلى رفقة أخ، وهذا مؤسف للغاية فكنّا لنتقاسم أشياء وتجارب عديدة. بدلاً عن ذلك أنتَ عزلتَ نفسكَ عنّي وعن كلّ الناس وستبقى كذلك إن لَم تفتحَ قلبكَ ولو قليلاً.

 

ـ أنا مجروح.

 

ـ أفهمُ وضعكَ لكنّني لستُ مَن جرَحكَ.

 

ـ سترحلَين أنتِ الأخرى.

 

ـ وماذا سيتغيّر؟ فأنتَ بالكاد تراني في البيت.

 

ـ لكنّني أشعرُ بوجودكِ.

 

وانفجَرَ سمير بالبكاء، وركَنَ سيّارته إلى جانب الطريق ليمسَحَ دموعه. أخذتُه بين ذراعيّ وقلتُ له:

 

- عليكَ الكفّ عن تعذيب نفسكَ، فلقد أهدَرتَ سنوات على شيء لا تستطيع تغييره. أمّكَ رحلَت مِن دون أن تنظرَ وراءها، لكنّ ذلك لا يعني أنّكَ لا تستحقّ أن يُحبّكَ أحد أو أنّ الكلّ سيتخلّى عنّكَ. إسمَع... لستُ مُتحمسّة للتخصّص في اوروبا وأفكّر بالبقاء هنا. لا أعدُكَ بأنّني لن أُسافر يومًا، لكنّ ذلك لن يكون في المُستقبل القريب، أي ليس قبل أن نعوّضَ لبعضنا الوقت الذي أضَعناه وأطمئنّ عليكَ.

 

مِن أين جئتُ بهذا الكلام العميق؟ ربمّا مِن شغَفي للتواصل مع سمير. إلا أنّ المحاولة نجحَت فحدَثَ تغيّر في قلبه بدأ خجولاً ثمّ صارَ أكثر وضوحًا. حتى أبوَانا لاحظا كيف أنّ سمير باتَ أكثر كلامًا وتفاعلاً معنا، الأمر الذي أضفى على البيت جوًّا مِن الفرَح.

الغريب في الأمر أنّني وسمير صِرنا نعلبُ سويًّا كما كنّا لِنفعل في ما مضى لكن بألعاب الفيديو. وكنّا بهذه الطريقة نسترجع الطفولة التي لَم نذِقها سويًّا وأعجبَني الأمر. بعد ذلك، بدأنا نذهب إلى السينما وأماكن أخرى مُسليّة وبتُّ أستمتع حقًّا برفقة "أخي".

تعرفتُ إلى الذي سيُصبحُ زوجي أثناء تمرّني في المشفى، فهو طبيب قلب وعرّفتُه على سمير الذي تقبّلَه بسرور.

لزِمَ سمير سنوات أخرى ليفتح قلبه بِدوره للحبّ، وهو اعترفَ لي بعد خطوبته بأنّه كان يُفكّر جدّيًّا بالإنتحار لكثرة ضياعه وسواد العالَم الذي يُحيط به، وبأنّه يعتبرُني مُنقذته. فلولا ذلك اليوم، أي حين تحدّثنا سويًّا، لكانت حياته بشعة للغاية، ولكان نفّذ تصميمه لإنهاء أيّامه. بكيتُ لدى سماعي ذلك، ففكرة فقدان سمير فظيعة بالنسبة لي، وأشكرُ ربّي لأنّه أعطاني البديهة اللازمة لِخرق الدرع الذي أحاطَ أخي نفسه به. فأحيانًا لا يلزمُنا سوى بضع كلامات نابعة مِن القلب لإنقاذ نفس تتعذّب، فما يُريده الناس هو أن يشعروا بالحبّ والأمان.

لذلك لا تُعزلوا أكثر مَن عزَلَ نفسه، بل روحوا إليه وخذوا بِيَده وقودوه إلى برّ الأمان. فذلك بحدّ ذاته هو فعل خير يُكافئكم عليه الله.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button