أختي الفاجِرة (الجزء الأول)

حين تزوّجَت أختي وردة وتركَت البيت، صرتُ وحيدة. فكان والدانا قد توفّيا الواحد تلو الآخر بسبب المرض. قضَيتُ وقتي بعد ذلك في العمَل، وبرفقة صديقاتي ونسيتُ وحدتي بعض الشيء.

ساءَت أحوال البلد وأقفلَت الشركة التي أعمَل لدَيها، ولأنّ الكلّ أُصيبَ بالنكبة الاقتصاديّة، إستحالَ عليّ ايجاد فرصة أخرى. مكثتُ في البيت كئيبة، وعادَت إليّ ذكريات أيّام جميلة حين كان مسكننا مليئًا بالناس والحياة... وكذلك الأوقات الحزينة المليئة بالألَم والمرض. أخبرتُ وردة عن حالتي النفسيّة المُتأرجِحة، وتمنّيتُ ضمنًا أن تعرضَ عليّ العَيش معها في بيتها الزوجيّ، إلا أنّها لَم تفعل. لكنّني لَم أزعَل منها، فباتَت لها حياة لا مكان لي فيها.

أخذَت حياتي أنا مُنعطفًا غير مُتوقّع حين أخبرَتني صديقة لي عن موقع يعرضُ على مَن يرغَب فُرَص عمل في الخارج، فانتسبتُ إليه مِن كثرة ملَلي، غير مُدركة أنّني سأجدُ ما أبحثُ عنه بسرعة.

أجرَت لي إحدى الشركات في فرنسا مُقابلة عن بعد عبر الفيديو، فأحبّوا سيرتي الذاتيّة ورأوا أنّني قد أكون مُناسبة لهم. فالواقع أنّ لدَيّ خبرة كبيرة في مجال عمَلي وحماس كبير للتقدّم. بعد فترة، تمّ إخباري بأنّني قُبِلتُ ولَم يبقَّ لي سوى تحضير أوراقي الخاصّة والتأشيرة.

زفَّيتُ الخبَر لوردة وهي فرحَت لي قائلة: "أحسدُكِ قليلاً... فالحياة هنا باتَت لا تُطاق. أدعو لكِ بالتوفيق". تعانقنا ومِن ثمّ جهّزتُ حقائبي لمواجهة مُستقبلي الجديد.

وصلتُ المدينة الفرنسيّة حيث كنتُ سأسكنُ وأعملُ، وأعجبَني المكان. كنتُ قد سافرتُ إلى فرنسا في السابق لكن كسائحة، وزرتُ فقط العاصمة باريس. لحسن حظّي، لَم أجِد صعوبة بالتواصل مع الناس، بفضل إجادتي تكلّم الفرنسيّة بطلاقة، وجِلتُ في شوارع مدينتي الجديدة وبسمة عريضة على وجهي. للحقيقة، لَم أخَف مِن تلك المُغامرة، فكنتُ وحيدة في الحالتَين باستثناء بعض الصديقات اللواتي وعدنَني بزيارتي. على كلّ الأحوال، الوقت كان للعمَل وليس للهو، فلَم أكن أريدُ إضاعة هكذا فرصة.

شقّتي الصغيرة كانت مفروشة، الأمر الذي سهّلَ عليّ الكثير. وتعرّفتُ على الفور على جيراني بفضل هرّهم الأسوَد اللون الذي دخَلَ شرفتي في أوّل يوم مِن وصولي.

صاحبَي الهرّ "نوارو" كان لِثنائيّ عجوز لَم أستطِع تكهنّ سنّهما، لكنّهما شكراني بحرارة لإعادة رفيقهما العزيز بعد أن ظنّا أنّه سقَطَ عن الشرفة أو ضاعَ. قدّما لي الليموناضة والغاتو، وسألا مئة سؤال عنّي وعن بلَدي. لَم أطِل المكوث، فأعرفُ كَم أنّ الأوروبيّين يُحبّون خصوصيّتهم. وسرعان ما صارَ "نوارو" ضَيفي الدائم، وأشكرُه لأنّه كان في الأواني الأولى سلوَتي الوحيدة.

 


عمَلي كان كما تصوّرتُه، إذ أنّني كنتُ فردًا مِن مجموعة شبّان وصبايا لدَيهم هدف مُشترك وأفكار مُبتكرة. معهم استطعتُ إطلاق العنان لِمُخيّلتي ومعرفتي في آن واحد. كنّا جميعًا مُتساوين إذ أنّ لا أحد يترأس أحدًا، ليس كما أعتدتُ في البلد. فنجاح مشروعنا يعني نجاح كلّ واحد منّا. كنتُ وزملائي الجدد نخرجُ مساءً لتناول العشاء سويًّا، فصِرنا أصدقاء، أو بالأحرى صِرتُ صديقتهم كَوني جديدة بين أناس يعرفون بعضهم.

مرَّت سنة بكاملها وكنتُ بالفعل سعيدة... إلى حين اتّصلَت بي أختي وردة لِتخبرني بطلاقها. حزنتُ مِن أجلها وفعلتُ جهدي لأواسيها عبر الهاتف. مِن حسن حظّها أنّها لَم تُنجِب، فهكذا يمكنُها بدء حياة جديدة عندما تكون جاهزة. لكنّ اتصال وردة كان له هدف آخر، فهي التي لَم تسأل عنّي كثيرًا خلال تلك السنة، أرادَت السفَر إليّ مِن أجل الترفيه عن نفسها بعد قضاء فترة مؤلمة مِن المشاجرة مع زوجها. فرِحتُ للخبَر واشترَيتُ لها كنبة تتحوّل إلى سرير وضعتُها في صالوني الصغير. وصلَت وردة مع حقائب كثيرة، واستغربتُ الأمر إلا أنّني لَم أقُل لها شيئًا. أخذتُها لأريها المنطقة التي أعيشُ فيها وعرّفتُها على أصدقائي الجدد. هي أيضًا تعرّفَت إلى "نوارو" وصاحبَيه.

مرَّ أسبوع وبدأَت أختي تشعرُ بالملل لوحدها في شقّتي أثناء وجودي في العمَل. نصحتُها بالخروج للتسوّق أو الجلوس في أحد المقاهي الجميلة، وهذا ما فعلَته.

بعد أيّام معدودة، علِمتُ مِن وردة أنّها تعرّفَت إلى رجُل وأنّها بدأَت تواعدُه. لَم أعرِف كيف أستقبِلُ هذا الخبَر فابتسَمتُ لها وقلتُ لنفسي إنّ المسكينة بحاجة إلى إنسان يُنسيها فشَل زواجها. وقَبل أن تنتهي صلاحيّة تأشيرة أختي، إتّفقَت مع حبيبها على الزواج. ماذا؟!؟ لَم يمضِ على تعارفهما عشرة أيّام! حاولتُ تغيير رأيها، لكنّها قالَت لي:

 

ـ أفعلُ ذلك مِن أجل الأوراق. قريبًا أصبحُ مواطنة، لا عليكِ.

 

ـ وهل يعرفُ عريسكِ بما تُخطّطين له؟

 

ـ بالطبع لا، ما أغباكِ! هو مُغرَمٌ بي كَوني فتاة شرقيّة، وكما هو يقولُ: "ساحرة" بجمالي. لا عليكِ، حين أحصلُ على مُبتغايَ سأُطلّقُه.

 

ـ هذا لا يجوز! كيف تتلاعبين بمشاعر الناس هكذا؟

 

ـ إنّه فرنسيّ فلا يهمّني الأمر.

 

ـ لطالما كنتِ معدومة المشاعر.

 

بالفعل كانت وردة إنسانة أنانيّة منذ صغرها، ولقد عانَيتُ مِن الأمر طوال حياتي معها في البيت نفسه. إلا أنّ حبّي لها ساعدَني على تحمّل خصالها البشعة. عندها بدأتُ أسألُ نفسي عن سبب طلاقها، فاتّصلتُ بزوجها السابق وتكلّمنا مطوّلاً. علِمتُ منه أنّ أختي بدأَت تتطلّب فور عقد زواجهما، وتعربُ عن ملَلها وحاجتها لشيء جديد... ووجدَته بشخص آخر، فهي خانَت زوجها بعد حوالي ستّة أشهر. حاوَلَ المسكين إصلاح الأمور بينهما لإنقاذ زواجهما لكنّها لَم تعُد تُريده. تمامًا كما كانت تفعل حين كنّا صغيرتَين: كانت تأخذُ منّي ألعابي، ثمّ ترميها جانبًا بعد أن تسأم منها لتأخذَ غيرها.

قرّرتُ عدَم التدخّل في حياة وردة الشخصيّة، فإن هي أرادَت أن تتزوّج مِن أجل الأوراق، لَم يكن ذلك مِن شأني. يكفيني أنّ لدَيّ عمّلي وحياتي! تفاجأتُ أنّ أختي كانت قد جلبَت معها كلّ أوراقها الثبوتيّة، بما فيها شهادة طلاقها مع أنّها جاءَت بتأشيرة سياحيّة. هل خطّطَت منذ البدء للزواج في فرنسا؟

إختفَت أختي بعد زواجها الثاني، تمامًا كما فعلَت عند زواجها الأوّل. فما حاجتها إليّ؟ تابَعتُ حياتي الهادئة وأوشكنا في العمَل أن نُنهي مشروعنا والبدء بمشروع جديد وكان قلبي مليئًا بالحماس. تواصلتُ مع أختي بضع مرّات وبدَت لي بحالة جيّدة إذ أنّها بدأَت المُعاملات الرسميّة.

 


مرَّت سنة أخرى حين عادَت وردة إليّ بعد أن تركَت زوجها. وبّختُها مجدّدًا كثيرًا، فكان قد طفَحَ كيلي مِن قلّة حسّها بالمسؤوليّة وبحثها الدائم عن مصلحتها الخاصّة.

في تلك المرّة استقرَّت وردة في شقّتي وقرّرَت البحث عن عمَل. للصراحة لَم أكن سعيدة بوجودها معي، إذ أنّني اشمأزَّيتُ مِن أفعالها، إلا أنّها كانت في آخر المطاف أختي الوحيدة ولا يسعُني التخلّي عنها. عاملتُها بلطف لكن ببرودة، على أمَل أن تفهم أنّ طريقة حياتها لا تُناسبُ ما أؤمِنُ به، ورجَوتُ أن تفعل شيئًا مُثمرًا بحياتها وليس العَيش مِن تعَب غيرها.

ثمّ اختفى "نوارو" الذي كان يقفزُ يوميًّا في الوقت نفسه مِن شرفة جيراني إلى شرفتي، ليتدلَّع قليلاً ويأكل ما وضعتُه جانبًا له. وبعد أن سألتُ وردة عنه ودقَّيتُ باب الثنائيّ العجوز، تبّينَ أنّه بالفعل قد ضاع. بحثنا في الحَي بأسره عنه مِن دون جدوى، وأعترفُ أنّني حزنتُ عليه. فلقد تصوّرتُه ميّتًا بعد أن دهسَته سيّارة ما، والفكرة كانت لا تُحتمَل. لا تنسوا أنّه الذي واساني وسلاني حين كنتُ وحيدة وأشعرُ بالغربة. إضافة إلى ذلك، الكلّ يعلَم قدرة الحيوان على إعطاء الحبّ والحنان المجّانيّين، على عكس البشَر.

وطأة اختفاء "نوارو" كانت لا توصَف على جارَيّ، فهما اعتبراه فردًا مِن العائلة وعاملاه كالطفل، فهما لَم يُنجِبا. والحياة في فرنسا قاسية على مَن يكبرُ في السنّ. أنا لا أقولُ إنّ سبَب موت جارتي العجوز هو فقدان هرّها، إلا أنّ الحزن الذي أحسَّت به ساهَمَ حتمًا في تعجيل رحيلها.

وهكذا بقيَ زوجها المسكين لوحده.

لوحده؟؟؟

ربمّا حزِرتم ما سأخبرُكم به، أم أنّكم غير قادرين على تصوّر كَمّ لا يوصَف مِن المكِر والنصب؟

فذات يوم رأيتُ وردة تلمُّ أمتعتها بفرَح، فسألتُها أين هي ذاهبة:

 

ـ هل وجدتِ شقّة أم عمَل؟ يمكنُكِ البقاء هنا قدر ما تشائين.

 

ـ لا يا أختي، لن أبقى، فلقد وجدتُ مكانًا أفضل.

 

ـ سأجلبُ سيّارتي لِنقل أغراضكِ، تمهّلي.

 

ـ لا داعٍ لذلك، فأنا قاصدة الشقّة المُقابلة.

 

ـ ماذا؟!؟ لماذا وكيف؟!؟ ستسكنين مع جارنا العجوز؟

 

ـ أجل، فلقد تقرّبنا كثيرًا في الآونة الأخيرة وهو وجَدَ بي رفيقة ثمينة بعد موت هرّه وزوجته. وأطلعتُه على انزعاجكِ منّي وأنّ ليس لدَيّ مكان أمكثُ فيه، وهو عرَضَ عليّ العَيش معه في شقّته الكبيرة والخالية. إنّه يعتبرُني كابنته.

 

ـ حذارِ يا وردة! لا تتلاعبي بعواطف ذلك المسكين فهو فقَدَ أغلى مَن لدَيه.

 

ـ سأهتمُّ به جيّدًا، لا تخافي!

 

وأطلقَت وردة ضحكة مُستهزِئة، وخفتُ كثيرًا مِن الذي تُحضّره. حاولتُ تغيير رأيها إلا أنّها أقفلَت باب شقّتي بقوّة وراءها صارخة فيّ:

 

ـ إلى اللقاء أيتّها الجارة!

 

يا إلهي... ما الذي تنوي أختي فعله بعد ذلك؟

 

يتبع...

المزيد
back to top button