أختي العقوقة

في البدء لَم يفهَم أحدٌ لماذا خُذِلتُ مِن قِبَل أبي، بما يخصّ ما ترَكه لي بعد مماته. فالكلّ يعلَم مدى تعلّقه بي، خاصّة بعدما تركتُ كلّ شيء للإهتمام به حين مَرُضَ وصارَ لا يُبارحُ فراشه. لَم أُفكّر ولو للحظة بالميراث، إلا أنّ الإستحقاق جاءَ، وعلِمتُ مذهولاً أنّ والدي كان قد كتَبَ مُعظَم أملاكه العديدة لأختي مُنى. أمّا بالنسبة لي، فحصلتُ على مبلَغ زهيد للغاية. وبدأَت الألسن تتكلّم عن مكيدة ما وأنا بدأتُ أُحلِّل.

سبب ذلك الإندهاش هو تصرّفات أختي حيال أبينا، فتلك المرأة كانت معدومة الأحاسيس والشفقة. وهي لَم تتردّد في ترك والدنا لوحده بعد موت أمّنا، لتتزوّج وتسكنُ بعيدًا عن قصد. أجل، فهي قالَت لي بكلّ وضوح حين هي وخطيبها المُحامي بحَثا عن منزل لهما:

 

- سأبعُد عن أبي، فلا أُريدُه أن يصير يأتي إلى بيتي كما يحلو له. أُريدُ استقلاليّتي وزوجي.

 

إستغربتُ الأمر كثيرًا، فوالدنا لَم يُثقِل يومًا على أحَد، ولَم يكن أبدًا بحاجة آنذاك إلى رعاية أو إلى مَن يصرفُ عليه. إضافة إلى ذلك، هو الذي دفَعَ تكاليف تعلّم مُنى في الخارج لِنَيل شهادتها العُليا، في حين أنّها هي لَم تكن تعمَل أو تجني القليل. أمّا في ما يخصّني، فلَم أكلِّف أبي قرشًا في ما يخصّ تعلّمي، إذ قصدتُ جامعة حكوميّة وبدأتُ العمَل في سنّ الثامنة عشرة.

تزوّجَت مُنى وصارَت زياراتها تخفّ يومًا بعد يوم، إلى أن شعَرنا أنّها باتَت كالغريبة تأتي كلّ أسبوعَين مرّة وتبقى ساعة على الأكثر. شعرتُ بِحزن أبي إلا أنّه لَم يقُل شيئًا بهذا الخصوص، ومِن جهتي بقيتُ أجِدُ لها أعذارًا. أنجبَت مُنى ولدًا، وفرِحنا كثيرًا وأغرَقنا المولود بالهدايا والإهتمام اللازم. وتزوّجتُ بِدوري لكنّني سكنتُ بالقرب مِن أبي، وصِرتُ أزورُه وزوجتي يوميًّا كأيّ إبن صالح. لكن سرعان ما انتهى زواجي بالطلاق، إلا أنّني بقيتُ وطليقتي على علاقة جيّدة تحوّلَت إلى صداقة متينة عبر السنوات.

عندها حاولتُ التوفيق بين عمَلي وبيتي وأبي، وتوصّلتُ إلى توازن مقبول إعتدتُ عليه، خاصّة بعدما ساءت حالة المسكين الصحّيّة. إستنجدتُ بأختي مرارًا كي تأخذ عنّي بعض الحِمل، إلا أنّها بقيَت تتحجَّج بالبُعد والإنشغال بعائلتها.

أُصيبَ والدي بِداء خبيث بدأ ينتشِرُ في أنحاء جسده، وكثُرَت الفحوصات والتحاليل والذهاب إلى المشفى. مرّة أخرى طلبتُ مِن مُنى أن تُساعدني إذ كان لدَيّ عمَل عليّ القيام به، إلا أنّها أسدَت لي نصيحة لَم أتوقّعها:

 

ـ لِما لا تبيع بيتكَ يا أخي وتسكنُ بعيدًا؟

 


ـ ماذا؟ وأتركُ أبي؟!؟ ومَن سيهتمّ به؟

 

ـ هذا ليس مِن شأنكَ، فلدَيكَ حياتكَ. إسمَع... أنا أُقدِّر ما تفعلَه مِن أجل والدنا، لكنّني لا أٌريدُ القيام بقِسمي.

 

ـ ألهذه الدرجة تكرهينه؟

 

ـ أبدًا، لكنّني غير مُستعدّة للتضحيّة مِن أجل أحَد. إن كنتَ مِن الذين يُحبّون خدمة الناس، فهنيئًا لكَ.

ـ

الناس؟!؟ نتكلّم عن أبينا! إنّه وحيد ومريض!

 

ـ وأنا لدَيّ عائلتي.

 

ـ نحن عائلتكِ يا مُنى!

 

ومنذ ذلك الحديث، خفّفَت أختي زياراتها لأبي بشكل ملحوظ، وأنا استوعبتُ أنّها لا تُريدُنا في حياتها. وحتى ذلك الحين، كنتُ أظنّ أنّ أمثالها موجودون فقط في القصص والأفلام.

بدأ المَرض يأكلُ جسَد أبي... وكذلك الحزنَ والمرارة على تصرّفات إبنته التي تدلَّعَت ولطالما حصلَت على مرادها منه. وبما أنّه كان يعلَم مدى تضحياتي له، طلَبَ منها في إحدى المرّات أن تأخذه هي إلى المشفى، إلا أنّها أجابَته:

 

ـ لدَيّ ما أفعله غدًا يا أبي، أنا آسفة.

 

ـ خذيني إذًا إلى المشفى بعد غد.

 

ـ لكنّني لا أحبُّ ذلك المشفى، هناك أفضل منه.

 

ـ وأنا أحبُّه وأرتاحُ له... إضافة إلى ذلك، كلّ فحوصاتي وأطبّائي هناك. إن رحتُ إلى مشفى آخر، سيُجرون لي فحوصات وتحاليل جديدة وجسَدي المُتعَب لَم يعُد يتحمَّل.

 

ـ أقولُ لكَ إنّني لا أُحبُّ ذلك المشفى. وانتهى الحديث!

 

أقفلَت مُنى الخط بِوَجه أبي الذي بدأ بالبكاء. حاوَل المسكين الإتّصال بها مُجدّدًا، إلا أنّها لَم تردّ ولا زوجها ولا إبنها عليه وذلك لِمدّة يومَين. أسِفَ أبي ليس فقط لِرفضها أخذه إلى المشفى، بل لِطريقة تربيتها لإبنها، فأيّ مثَل كانت تُعطيه له؟ أن لا يهتمّ بالمرضى ولا يردّ على جدّه؟

وبالطبع مسحتُ دموعه وأخذتُه للمرّة الألف إلى المشفى، مِن دون أن أتذمَّر بل بكلّ طيبة خاطر.

مرَّت سنتان على هذا النحو، وأطلعَني الأطبّاء أنّ نهاية أبي أمسَت قريبة فاتّصلتُ بمُنى أدعوها لِمواكبة والدنا في أسابيعه الأخيرة. وكَم كانت فرحتي كبيرة حين أخبرَني والدي أنّها جاءَت لزيارته مع زوجها وإبنها! كنتُ في عمَلي فلَم يتسنَّ لي التواجد معهم ومُشاركتهم تلك الجلسة العائليّة. لَم تكتفِ أختي بذلك، بل زارَته يوميًّا تقريبًا وكلّ مرّة في الوقت نفسه، إلى أن اختفَت مِن جديد. هي لَم تكن موجودة للأسف حين فارَقَ أبي الحياة، وكان لي الشرَف أن أكون مُمسكًا بِيَده لحظة لفَظَ نفسَه الأخير. بكيتُ كلّ دموعي ودعوتُ له بأن ينال رحمة ربّنا. فأبي كان رجلاً صالحًا ومُسالمًا وأنا مُتأكِّد مِن أنّ نفسه هي مع خالقه في الجنّة.

 


بعد أسبوعَين، بدأتُ أُوَضّبُ بيت والدي ليعود إلى أصحابه، وطلبتُ بالطبع مُساعدة مُنى. لكنّها قالَت لي:

 

- ليس لدَيّ الوقت لأُساعدكَ. إرمِ كلّ شيء ولا تُتعِب نفسكَ.

 

أرمي أغراض أبي؟!؟ يا إلهي، ما هذا الكمّ مِن الحقد المجّاني! جاءَ بعض الأصدقاء وزوجتي السابقة لِنجدتي، وفرَزنا الملابس والأمتعة وكلّ ما هو موجود. أرسلتُ الكثير إلى مؤسّسات خيريّة، وأخذتُ الباقي إلى بيتي، ليس بِداعي الحاجة بل لأُبقي ذكرى والدي حيّة في حياتي.

وحين بدأتُ عمليّة حصر الإرث، تفاجأتُ بالذي حصَل، وفهمتُ سبب زيارات مُنى وزوجها المحامي لأبي في أيّامه الأخيرة. لستُ أدري ما هي الحجَج التي استعملاها لإقناع والدي بِأن يكَتب ما يملكُه لِمُنى، أو حتى إذا هو كان يعلَم ما كان يوقّع عليه، إلا أنّ عمليّة النصب نجحَت. إتّصلتُ بمُنى لأستفهم عن الموضوع وهي قالَت لي مُستهزئة:

 

ـ أيّها المُغفَّل! لقد هدَرتَ عشرين سنة مِن حياتكَ سدىً! ألَم أقُل لكَ أن ترحل بعيدًا؟ ها هو ترَكَ كلّ شيء، لي ولَم أرفَع أصبعًا واحدًا مِن أجله!

 

ـ أنا مُتأكّد مِن أنّكما احتلتُما عليه. وما فعلتُماه هو غير قانونيّ.

 

ـ زوجي مُحامٍ وكلّ شيء قانونيّ. إرفَع علينا قضيّة!

 

ـ لا... لن أفعَل... فإن أعطاكِ أبي أملاكه طوعًا، تكون تلك إرادته وعليّ إحترامها. وإن كنتِ نصَبتِ عليه، فيكون مالكِ حرام وستدفعين الثمَن عاجلاً أم آجلاً. لدَيّ عملٌ يكفيني والحمد لله... ولدَيّ ضمير يسمحُ لي بالنوم ليلاً مُرتاحًا. نفسي كريمة على خلافكِ، ولقد قمتُ بواجباتي حيال مَن أعطاني الحياة ورعاني، على خلافكِ أيضًا. أنا الرابح وأنتِ و"عائلتكِ" الخاسرون. فالله يُمهِلُ لكنّه لا يُهمِلُ، لا تنسي ذلك... والسحر ينقلبُ دائمًا على الساحر. إحترسي.

 

ـ لطالما كنتَ غبيًّا يا أخي.

 

ـ صحيح أنّني أخوكِ، لكنّكِ لستِ أختي. لن تسمعي صوتي بعد الآن ولن ترَيني. الوداع.

 

صحيح أنّني عنَيتُ ما قلتُه لها، إلا أنّني لَم أتصوّر أبدًا أن القدَر سينتقمُ مِن مُنى بهذا الشكل الرهيب. فبعد أن باعَت أختي أملاك أبي، سافرَت وعائلتها إلى الخارج حيث استقرّوا. لكنّ زوجها أُخِذَ بالجمال الغربيّ وترَكها بعد سنة ليتزوّج غيرها. وإبنها الحبيب وجَدَ شلّة مِن أصحاب السوابق وعاشرَهم لينتهي به المطاف ولدًا سيّئًا لا يعودُ إلى بيته سوى لِطلَب المال مِن أمّه، ونَيل مراده بالتهديد والشتائم... والضرب. غاصَت مُنى في الكآبة ومِن بعدها في المَرض واستنجدَت بي. إلا أنّني أجَبتُها يوم اتّصلَت بي هاتفيًّا مِن الخارج:

 

ـ لا أستطيع تركَ عمَلي وبيتي وبلَدي... إن أرَدتِ أن أهتمّ بكِ فعليكِ العودة.

 

ـ لن أعودَ بل عليكِ المجيء!

 

ـ أنا آسف يا مُنى، لكنّني لستُ مسؤولاً عمّا جرى لكِ بل أنتِ. زوجكِ نصّاب ومُحتال ولا أستغربُ ما فعلَه بكِ... وإبنكِ هو كما ربَّيتِه، أي إنسان مِن دون قلب أو رحمه لا يُفكّرُ سوى بنفسه. أيّ مثَل أعطَيتِه له حين رآكِ تهمُلين أباكِ وترفضين أخذه إلى المشفى، أو حين شاهدكِ تسرقين ملكه؟ تعالي إلى البلَد وسأهتمُّ بكِ، فأنا لا أتركُ مريضًا وخاصّة أختي.

 

بقيَت مُنى حيث هي، وعلِمتُ أنّها تزوّجَت مُجدّدًا مِن رجل أخَذَ ما تبقّى لها وتركَها. وإنتهى بها المطاف في مؤسّسة تُعنى بالوحيدين والمرضى.

في تلك الأثناء، تزوّجتُ بِدوري وأنجبتُ ولدَين جميلَين، وأعيشُ حياة هنيئة بفضل دعوات أبي لي، رحمه الله. صحيح أنّني لستُ غنيًّا بالمعنى التقليديّ للكلمة، إلا أنّ ثرائي آتٍ مِن قلبي الكبير الذي يتّسِع للجميع. هكذا هي زوجي... وهكذا سيُصبح ولدايَ.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button