لم يكن يجمعني بِوحيد شيء سوى الحب الذي كنت أكنّه له، فلقد أُغرمتُ به إلى أقصى الحدود وتحدّيتُ الكل لأتزوّجه. وممانعة أهلي، كان سببها حالته الماديّة، فلم يكن يملك قرشاً واحداً، بينما كنتُ موظفة في شركة مهمّة أجني الكثير. وبالرغم مِن ذلك، قبلِتُ به وبالشقّّة الصغيرة التي إستأجرَها لنا. وإعتقدتُ أنّ الحب كافٍ لتسيير الأمور كلهّا ولكنّني إصطدمتُ بالواقع. فوحيد، لم يكن فقيراً فقط، بل طباعه كانت لا تتلاءَم مع طباعي، وحبّي المُفرط للحياة كان يزعج هدوءه. وحاولَ بشتّى الطرق قمع روحي المرحة. وهكذا، وضعَ زوجي القوانين التي مِن شأنها ترتيب حياتنا اليوميّة ساعة بساعة، أي مِن اللحظة التي نستفيق بها حتى موعد النوم في المساء وإن تغيّرَ شيء بذلك النظام، كان ينتابه غضباً شديداً يدوم ساعات طويلة.
في البدء، قررّتُ مسايرته لأنّني إعتقدتُ أنّني قادرة على تغييره مع الوقت وعشتُ كما يريدني أن أعيش. ولكن سرعان ما سبّبَ لي الأمر تعاسة عميقة لاحظهاَ زملائي في العمل ومدرائي وحين سُئِلتُ عن سبب مزاجي هذا، إختلقتُ أعذاراً لكي أخفي خيبَتي بإختياري لزوجي. ومرَّت الأيام بهدوء مميت، لا نخرج إلى أي مكان ولا نستقبل أي أحد. ولكثرة إكتئابي، لم أكن قادرة على الأنجاب حسب ما قالَه الطبيب الذي إستشرتُه بهذا الشأن:
ـ سيدّتي... جميع فحوصاتكِ سليمة ولا أرى أي سبب جسدي لعدم الإنجاب ... لذا أرجّح أنّ المشكلة نفسيّة... هل أنتِ سعيدة مع زوجكِ؟ عذراً على هكذا سؤال ولكنّني طبيب...
ـ زوجي محبّ ولطيف ولكن... نمط حياته ممل... ومصروفنا محدود... وأشياء كثيرة أخرى...
ـ ما هي تلك الأشياء؟
ـ يعتبرني زوجي ملكاً له... يغار عليّ مِن أي إنسان يقترب منّي وكأنّني معدومة الإرادة وسأقع بين أذرع أيّ كان.
وأوصاني الطبيب بأن أحاول تخطّي الوضع إن كنتُ أريد ولداً وغادرتُ عيادته والدمع يملأ عيوني. والغريب في الأمر، أنّ وحيد لم يكن يأبه لأن يصبح له وريثاً، فلم يكلّمني في الأمر يوماً، لذا إعتبرتُ أن لا داعي في أن أثير المشاكل حول هذا الأمر. لذا قررتُ أن أركزّ على عملي وأقضي أكبر وقت ممكن في الشركة، لكي لا أعود إلى سجني الزوجي. وهكذا حصل، فلم أعد آتي إلى البيت إلاّ بعد هطول الليل لأقضي ساعة أو إثنتين مع وحيد ثم أخلد إلى النوم. ولم يكن يقول لي زوجي شيء، لأنّ راتبي كان يغطيّ مصاريفنا على عكس راتبه الضئيل. ولكثرة إجتهادي، حصلتُ على علاوة وترقية وعادَت البسمة إلى وجهي لأنّه كان هناك أناس يقدّرونني ويعطونني ما أستحقّه. ومع مركزي الجديد في الشركة، جاءَت إلتزامات لم تكن موجودة مِن قبل، أي كان عليّ السفر إلى الخارج لِملاقاة شركاء لنا وتوقيع عقود مع عملاء جدد. وعندما حان الوقت لأقول لِوحيد أنّ عليّ السفر ،واجهتُ معارضة عنيفة مِن قِبَله:
ـ إبداً! هذا لن يحصل! إن كنتِ تتخيلّين أنّني سأقبل أن تسافر زوجتي لوحدها، فأنتِ مخطئة تماماً!
ـ ولكن هذا جزء مِن عملي... ولا أستطيع الرفض والا أعادوني إلى مركزي السابق وإلى الراتب أياه... فمع كل سفرة أتقاضى مكافأة ماليّة لتغطية جميع المصاريف.
عندما سمعَني أتكلّم عن المال، هدأ قليلاً ثم قال:
ـ حسناً... ولكن أريد منكِ أن تكلمّيني كل ساعة! أفهمتِ؟ كل ساعة!
وهكذا أخذتُ حقيبتي وغادرتُ البلاد إلى ألمانيا وكانت تلك السفرة الأولى في حياتي. خفتُ قليلاً في الطائرة ولكن عندما وصلتُ إلى فرانكفورت، أذهلتُ بكل ما رأيتُه مِن حولي. الفندق كان فخماً جداً والغرفة رائعة الجمال. أقمتُ بضعة إجتماعات وقبل أن أعود بساعات قليلة، قابلتُ عميلنا الألماني يوهان. وحين رأيتُه، بدأ قلبي يدقّ بسرعة وكأنّني أعرفه منذ زمن بعيد. وإحمرّ وجهي وتمتمتُ ما يشبه كلمة "هيلو" أي مرحباً في الأنكليزيّة. ثم تبادلنا أحديثاً تتعلقّة بالعمل وذهبتُ أتحضرّ للعودة. وقبل أن أودّعه، صرخَ لي يوهان: "آنسة أم سيدّة؟ نظرتُ إليه بحزن وأجبتُ:"سيدّة".
وبعد أن وصلتُ إلى البلد ببضعة أيّام، إكتشفتُ أنّني حامل مِن وحيد. لَم أفرح لأنّني شعرتُ أنّني أصبحتُ الآن فعلاً سجينة حياتي مع زوجي. وعندما زفيّتُ له الخبر، لم يُبدِ هو الآخر حماساً فائقاً، بل قال:
ـ حسناً... حسناً... ستُسر أمّي... علينا الآن أن نرتب حياة الطفل.
ـ منذ الآن؟
ـ أجل... مواعيد الأكل والنوم...تعلمين أنّني لا أحبّ الفوضى... وهناك أيضاً المصاريف التي تأتي معه... اليس لديكِ سفراً أخر؟
ضحكتُ عندما قال ذلك لأنّني بتُ أعرف جيدّاً حبّه للمال ولأنّني كنتُ سأرى يوهان الذي لم يفارق خيالي. وبالرغم أنّني لم أنوِ أبداً أقامة علاقة معه خاصة بعدما علمتُ أنّني حامل، فكانت مجرّد رؤيته أمامي تكفيني. وبعد بضعة أسابيع، طِرتُ إلى المانيا وهناك إجتمعتُ بيوهان حول ملفّات زبائننا. ورأيتُ في عيونه الأعجاب الذي أكنّه له، فعندما قال لي أنّه يفكرّ بي بأستمرار أحببتُه:
ـ لو كنتُ تعرفتُ إليك قبل فترة قصيرة لكنتُ أسعد النساء ولكنّي...
ـ ولكنّ ماذا؟
ـ علمتُ مؤخّراً أنّني أحمل طفلاً في أحشائي ولم أعد قادرة على ترك زوجي، فلا أريد أن يكبر ولدي مِن دون ابيه أو مِن دوني...الذنب ليس ذنبه...
سأتحمّل العيش مع وحيد أكبر قدر ممكن... لم يجبرني أحد على الزواج منه وعليّ دفع ثمن عنادي...
ـ أفهم ما تقولينه... ولكن هل لنا أن نبقى على إتصال ولو عبر الهاتف أو الإنترنت؟
ـ أجل... وبكل سرور.
وهكذا أصبحنا نتبادل الصوَر والمكاتيب ونتحدّث ساعات طويلة وإكتشفتُ فيه الإنسان الذي طالما حلمتُ به. وكلّما زادَت معرفتي به، كلّما أسِفتُ على حياتي التي قبلتُ بها على مضَد. وبعد أشهر، وُلِدَ إبني وقرّرتُ أن أوهب حياتي له وأنسى كل شيء مِن حولي، إلى درجة أنّني قررتُ أنّ عليّ أستعادة مركزي السابق لكي لا أضطر للسفر أو العمل مطوّلاً في الشركة. ولكنّ زوجي لم يكن مِن رأيي وعارضَ قراري وإقترحَ أن نضع إبننا عند والدته أثناء غيابي، فقلتُ له:
ـ غريب أنتَ... عندما أخبرتُكَ أنّني سأسافر أقَمتَ الدنيا وأنزَلتَها وتكلمتَ عن القيمَ والأخلاق... وها أنتَ اليوم وكأنّكَ تجبرني على الإستمرار في ما أغضَبَكَ!
ـ الوضع مختلف الآن... نحن بحاجة إلى المال.
ـ ولما لا تغيرّ عملكَ؟ أو تعمل ساعات إضافيّة مثلاً؟ تتحجّج بالقوانين والنظام وأراكَ تتساهل مع نفسكَ...
ـ كنتِ على علم بحالتي عندما تزوّجتِ منّي.
ـ أجل ولكن لم يكن لدينا مسؤوليّة كبيرة كتربية طفل والإعتناء به...لن أسافر بعد الآن!
وحين قلتُ ذلك، صرخَ بي:
ـ إن كان ذلك قراركِ فإنا لا أريد الولد! لم أكن أريده مِن الأوّل!
ونظرتُ إليه وكأنّني أرى أمامي وحشاً ضارياً وبدأتُ بالبكاء على ما أصبحَت عليه حياتي وعلِمتُ أنّني لن اقدر أن أعيش معه بعد ذلك. وهكذا أخذتُ طفلي وذهبتُ إلى أهلي مكسورة الخاطر. وبعد بضعة أشهر، حصلتُ على طلاقي مِن وحيد وإستطعتُ أن أفكرّ بحياة جديدة. ولم ينقطع الإتصال بيني وبين يوهان طوال ذلك الوقت وحين علِمَ هذا الأخير أنّني أصبحتُ حرّة، قال لي:
ـ تعالي مع أبنكِ إلى ألمانيا... ستعيشين كالملكة... سأحبّ طفلكِ وكأنّه منّي... ستعملين معي في فرعنا... لن يتغيرّ عليكِ سوى أمراً واحداً: ستعرفين كيف يحب الرجل إمرأته أكثر مِن نفسه.
حاورتها بولا جهشان