لقد وقفتُ صامتاً أشاهد زوجتي تنجّر شيئاً فشيئاً إلى عالم الرفاهيّة والخيانة، لا لأنّني كنتُ ضعيفاً، بل لأنّني أحببتُها أكثر مِن أي شيئ آخر. عندما تزوّجتُ مِن هند، كانت فتاة هادئة وقنوعة ورضيَت بحالتي المتواضعة وإنتقلَت بكل سرور إلى بيتي البسيط في قرية لا يعرف بوجودها إلاّ القليل مِن الناس. وأخذَت زوجتي دورها بجدّية، فبدأت تهتّم بالمنزل وبي وشعرتُ حقّاً أنّني أسعد الرجال. وكبُرَ حبيّ لها إلى حدّ لم أتصوّره، ربمّا لأنهّا كانت تعطيني الحنان الذي لم يتسنّى لأمّي أن تعطيني إيّاه بعدما أخذَها الموت وهي تولدني. وأنا متأكدّ أنّنا كنّا سنعيش هكذا حتى آخر أيّامنا لولا مجيء السّيد كامل إلى القرية.
كان ذلك الرجل ثريّاً جداً مِن جرّاء أعماله العديدة في البرازيل، حيث عاش طيلة حياته. وعندما قرّرَ أخيراً أن يتقاعد، بَنى لِنفسه قصراً جميلاً، حيث ولِد ليسترجع جذوره التي إنسلخ عنها عنوة. وأتذكرّ جيّداً عدد العمّال الهائل الذين كانوا متواجدين آنذاك وساهموا على بناء ما عًرِف لاحقاً بِ "القصر الكامل". وبعد إنتهاء البناء، جاءَ صاحب المال مع رفاقه ورفاقهم وكنّا نسمع أصوات الموسيقى والغناء حتى أواخر الليل. وفي ذاك يوم، زارتنا جارتنا أسمى وأخبرَتنا أنّ "السيّد" يبحث عن طاهية جيدّة وأنّها ذكّرَت له هند لأنّ الطعام التي تحضرّه لذيذ وشهيّ. كنتُ سأعترض ولكنّني سكتُّ بعدما رأيتُ وجه زوجتي حين قالَت الجارة:
ـ والراتب خيالي... إنّه رجل ثريّ جداً... لديه مواش لا تُحصى في ساو باولو... ستصبحون أغنياء مثله بعد أقل مِن سنة!
وبالرغم مِن ذلكَ الكلام المبالَغ به، بدأت هند تتخايل ما سينفعل بالمال الذي ستجنيه:
ـ حبيبي... يلزمنا سيّارة... وإذا رُزقنا بولد علينا إرساله إلى المدرسة وسنحتاج إلى شراء الملابس الجميلة له والكتب وأشياء كثيرة!
وبدأت عيونها تلمع ولم أكن مستعدّاً لِنزع تلك الأحلام الجميلة مِن قلبها البريء. وهكذا أخذََتها أسمى إلى القصر وهناك طلبوا منها أن تريهم مهاراتها، فحضّرَت لهم أطباقاً شهيّة أعجبَت الجميع. وقام السيّد كامل بتوظيفها مِن الساعة السابعة صباحاً إلى الثالثة بعد الظهر وكان يحقّ لها أن تعود إلى البيت لمدّة ساعة فقط. كان هذا التوقيت يناسبني، لأنّني كنتُ أذهب باكراً إلى عملي في المصنع ولا أعود إلاّ عند هبوط الليل.
وفي أوّل فترة، جرى كل شيء على ما يرام وحين حصَلت هند على أجرها الأوّل، إشترَت لي ثياباً أنيقة ولم تبتاع لِنفسها شيئاً. ولكن بعد حوالي الشهرَين، أخبرَتني زوجتي أنّ السيّد سيقيم حفلاً كبيراً وأنّها ستتأخّر لكي تنهي العمل وأنّها ستتقاضى مالاً إضافياً على ذلك. ولم أرَ سبباً للممانعة، فهكذا أمور تحصل دائماً عند الأغنياء. وفي تلك الليلة عادَت هند في حوالي الساعة الواحدة صباحاً بعدما أوصلَها السائق إلى البيت. لم أشأ أن أنام قبل عودتها، فرأيتُها تدخل ويداها محمّلتان بالأوعية المليئة بطعام لم أراه في حياتي. وقالَت لي:
ـ حبيبي... كُل....هذا سومون مدخَّن كما يسمّونه... أليس لذيذاً؟ وهذا غنبري... وذلك هو كافيار... لو تعرف سعر الغرام الواحد! كُل... آه... لماذا ولِدنا فقراء؟؟؟؟
ضَحكتُ عندما سمعتُها تقول ذلك وأجبتها:
ـ لأنّ الدنيا هكذا... هناك أغنياء وهناك فقراء... المهمّ هو أنّكِ سعيدة... هل أنتِ سعيدة؟
ـ أجل! لو ترى المدعوّين... أنيقين وجميلين... كلّهم! سأذهب إلى النوم لا لأنّني تعبة ولكن لأحلم أنّني واحدة منهم.
وغرقَت هند بنوم مليء بالرفاهيّة وأنا متأكدّ أنّها ولو إستطاعَت، لَبقيَت نائمة طوال حياتها. ومنذ ذلك المساء، لاحظتُ تغيرّاً في طباعها. فلم تعد ثيابي أو مظهري كلّه يُعجبها وهطلََت عليّ الإنتقادات :"هذه السترة بشعة... لماذا تسرّح شعركَ هكذا؟ حذاؤك متّسخ..." بينما كانت هي بدأت تضع المساحيق على وجهها والعطور على ثيابها الشيء الذي لم تفعله سابقاً. وصارَت تذهب إلى العمل وكأنّها تخرج إلى حفل. وحين حاولتُ لفتَ إنتباهها على الذي تفعله، صرَخت بي: ”وما أدراكَ أنتَ بهذه الأمور؟" وتركتُها على سجيّتها معتقداً أنّها مرحلة عابرة ولكن كان الأمر مختلفاً. ولم أكتشف حقيقة ما كان يحصل إلاّ بعد وقت طويل وكنتُ فعلاً آخر مَن يعلم. فمع الوقت الذي كانت تقضيه في القصر، ولِدَ بينها وبين السيّد مودّة تحوّلت إلى علاقة غراميّة ودوامها لم يعد كافياً، فصارَت تبقى هناك ساعات بعد موعد إنتهاء عملها تحت ذرائع مختلفة وكنتُ أصدقّها كلّها. ولو دققّتُ جيّداً في الموضوع، للاحظتُ المال الوفير الذي كانت تحصل عليه والذي لايُدفع عادة لطاهية، بل لِعشيقة.
وفي تلك الفترة جاءت إليّ الجارة نفسها التي عرّفَت هند على صاحب العمل وقالَت لي:
ـ لو كنتُ أعلم... سامحني...
ـ ما الذي تقصدينه؟
ـ أعني ... السيّد... لم أكن أعرفه جيدّاً وظننتُ أنّني أسدي لكما خدمة...
ـ ونحن شاكرَين لكِ يا أسمى.
ـ لا! أنا لادخل لي بما يحصل! كل قصدي كان أن تتحسّن أحوالكما...
ـ إن كان هناك مِن شيئاً تريدين قوله... أرجوكِ أن تقوليه!
ـ السيّد... يحب النساء... كثيراً... ولديه أساليب إقناع قويّة...
ـ وما دخل هند بالموضوع؟
ـ كل القرية على علم بالذي يجري بينها وبين السيّد وأنت لا؟
وفهمتُ قصدها أخيراً وغضبتُ منها كثيراً وطلبتُ منها المغادرة والكفّ عن إشاعة الأكاذيب عن زوجتي. وحين خرَجت، أخذتُ أفكرّ مليّاً بما قالته وبما كان يجري وفهمتُ أنّها كانت تقول الحقيقة. وقررّتُ أن أسأل زوجتي عن صحّة تلك الأشاعات وإنتظرتُ حتى الثانية عشر ليلاً. وحين واجهتُها، قالت لي بكل برودة:
ـ أحببتُكَ... فيما مضى... ولكن الآن قلبي وعقلي في مكان آخر... ومِن الأفضل لنا أن نطلّق بعضنا، فأظنّ أنّ كمال يوّد الزواج منّي... قريباً...لا أريد أن أؤذيكَ فأنتَ رجل عظيم... ولكن... لا أستطيع العودة إلى ما كنتُ عليه... أعذرني.
وأصابَني حزن عميق وخرجتُ مِن المنزل لأمشي في الحرج المجاور. والأيّام التالية كانت صعبة جداً عليّ، فكانت هند قد بدأت تتجاهل وجودي وتنتظر بفارغ الصبر أن أعيد لها حرّيتها لكي تعيش حياتها مع عشيقها. ولكن حدثَ شيء لم يتوقّعه أحد. فبين ليلة وضحاها، هجرَ السيّد قصره ومعه حاشيته إلى جهّة مجهولة وحين ذهبَت هند إلى هناك في الصباح، بقيَت خارجاً تدقّ على الباب حتى أن جاء الناطور وأخبرَها عن رحيل صاحب القصر. وأصبحَت هند كالضائعة، تركض مِن نافذة إلى آخرى تنادي إسم كامل، آملة أن يكون الناطور قد كذبَ عليها ولكنّها أخيراً واجهت الأمر الواقع وعادَت إلى المنزل باكية. وحين وصلتُ في المساء، وجدتُها جالسة على الأريكة لا تتحرّك وكأنّها تمثالاً مِن الرخام. وبعد أن سألتُها بإصرار عن الذي حصل لها قالت:
ـ رحَل... تركَني ورحلَ... إنتهى الحلم...
عندها عانقتُها بقوّة وقبّلتُ عيونها الدامعة وأقسمتُ لها أنّني سأعوّض عليها. ولكنّها ضحكَت عند سماعي أقول ذلك وأجابَت بإستهزاء:" أنتَ؟".
ومنذ ذلك اليوم، لم تعد هند كما كانت، فأصبحَت تعيش كمَن ينتظر نهاية لن تأتي. وعملتُ جهدي لِترفيهها وجعلها تنسى ذلك العالم الذي ذاقَت طعمه لِفترة قصيرة. ومع مرور الوقت، تحسّنَت حالتها بعض الشيء وإستطعنا أن نستعيد حياتنا الزوجيّة، فأنجبنا طفلة جميلة إستقطبَت إهتمامنا كلهّ وباتَ السيّد وقصره ذكرى بعيدة لا يريد أي منّا إسترجاعها.
حاورتها بولا جهشان