أحبني لكن أستعرّ مني...

صحيح أنّ تحصيل العِلم مهمّ جدّاً خاصة في أيّامنا هذه ولكن ماذا لو لم يتسنّى للمرء أن يتابع دراسته لسبب ما؟ هل يعاقب لمدى حياته؟ هل يجدر بالآخرين أن ينظروا إليه بتعالٍ؟ ففي حالتي مات أبي وأنا صغيرة ورغم أنّ أخي الكبير عمل ما بوسعه ليؤمّن لجميعنا العيش الكريم فهذا لم يكن كاف لعائلة كبيرة كعائلتنا. فاُجبرتُ على ترك المدرسة باكراً والعمل في صالون حلاقة للسيّدات أنظّف الأرض وأحضّر القهوة.
ومرّت الأيّام وظننتُ أنّ هذه ستكون حياتي ولكن شاءت الصُدف أن إلتقي بسليم الرجل الذي كان سيصبح زوجي.
كنتُ في المجمّع التجاري أشتري ألعاباً لإبنة أخي بمناسبة عيد ميلادها حين أدركتُ بعدما وصلتُ إلى الصندوق أنّني قد نسيتُ محفظتي في الصالون الذي كان قد أقفلَ. أحرجتُ كثيراً ولكن جاء مالك المحل وطمأنني أن الأمر يحصل دائماً وأن لا مشكلة لديه إن أخذتُ الألعاب وعدتُ في اليوم التالي لأدفع ثمنها. سررتُ جداً لهذه الثقة ووعدته بأن أرجع. ووجدته في اليوم التالي بإنتظاريي. ضحكنا سويّاً على ما حدثَ ثم طلب رقم هاتفي وبدأنا نتكلّم ومن بعدها نتواعد. وعندما دعاني إلى منزله لأوّل مرّة ذُهلتُ لرؤية كل هذه الرفاهيّة. كنتُ أعلم أنّ سليم تخصّص في جامعة مشهورة ولكن لم أتخيّل أنّه من عائلة راقية كونه يملك محلاً للألعاب.

وعندما طلب يدي للزواج خشيتُ أنّ الفرق الإجتماعي سيكون عائقاً بيننا وعندما أطلعتُه على مخاوفي طمأنني قائلاً:

- ما أحببته فيكِ هي هذه البساطة. فكل الفتيات التي عرفتُها والتي كانت من عائلات عريقة كانت متعالية وصعبة المزاج. أمّا أنتِ فالحديث معكِ سهل وطلباتكِ معقولة.

وهكذا تزوّجنا وأصبحتُ سيّدة مجتمع أنعم بالرخاء الذي حُرمتُ منه طوال حياتي.

ولكن لهذا المجتمع قوانين ومنها أن يكون المرء ذات حسب ونسب وأنا لم أكن أحد. كنتُ أعتقدُ أنّ زوجي لم يأخذ هذا بعين الإعتبار عندما طلبَ يدي لأنّه أحبّني ولكنّه واجه الواقع عندما سألوني أصدقاؤه من أيّة جامعة تخرّجتُ فهرع بالإجابة عنّي:

- لقد تلقّت ريما دراستها في باريس في السوربون وبعد حصولها على الماستر عادت إلى البلاد.

نظرتُ إليه بتعجّب ولكنّه تابع:

- وكانت ستشغر منصب مهمّ في شركة عالميّة حين إلتقَت بي وقرّرَت ترك كل شيء.

ضحكوا جميعاً لهذه القصّة الرومنسيّة وتغيّر الموضوع.

وفي المساء سألتُ سليم لماذا إخترع هذه القصّة:

- حبيبتي... هكذا أفضل.

- هل تخجل بي؟

- أبداً ولكن لا تعرفينهم... إنّهم لا يرحمون أحد.

- ولكنّكَ علمتَ منذ أوّل يوم من أنا... و...

- وأحبّكِ كثيراً كما أنتِ ولكن ليس هناك من ضرر إن غيّرنا التاريخ ولو بعض الشيء. عندما تركتُ شركتي وقررتُ فتح محلات الألعاب خسرتُ عدداً كبيراً من أصدقائيي. كنتُ أعلمُ أنّ هذا سيحصل ولكنّ حبّي للألعاب والأطفال طغى على كل شيء.

وقبّلني بحرارة حتى نسيتُ الموضوع.

ولكن قصّة دراستي في الخارج لم تُقنع الجميع فكان من الواضح من طريقة حديثي وحركاتي أنّني لم أكن جدّ مثقّفة وبدلاً من أنّ يتركونني بسلام قرّرَ البعض إعلان الحرب عليّ وعلى زوجي. فبدأ أحدهم بسؤالي عن أسماء أساتذتي في جامعة السوربون وبالطبع لم أستطع الإجابة وآخر عن مواد إختصاصي حتى أنّ كُشِفَ أمري وإنتشر الخبر في محيط سليم. ومنذ ذلك الحين تغيّر كل شيء. لم أعد مرغوبة في أيّ مكان حتى باتَ زوجي يذهب إلى السهرات من دوني مختلقاً أعذارأً غير مقنعة. حتى أن قال لي:

- ريما... من الأفضل أن تبقي في البيت فمنذ أن كُشِفَ سرّكِ أصبحتُ محرجاً بالخروج معكِ علناً... لا تغضبي منّي ولكن هؤلاء أصدقائي وأقاربي وحياتي كلّها.

- إعتقدتُ أنّني حياتك... أليس هذا ما تسمّيني؟ الذنب ذنبكَ فلو لم تخترع قصّة الجامعة لما وصلنا إلى هنا. هل هذا كلّ ما يهمّ عندكم؟ الأخلاق والقيم والتربية الحسنة لا تُحسب بمجتمعكم؟ أنا ما أنا عليه وليست غلطتي إن كنتُ من عائلة متواضعة ولم أجبركَ على الإرتباط بي. قلتَ لي أنّك لا تخجل بي... حسبتُكَ تحبّني لكنك تحبُّ نفسك أكثر. إسمع يا سليم... لن أقبل أن أعامل هكذا وأن تبقيني في المنزل خوفاً من العالم... أنا لستُ مسخاً تسجُنه في قفص... إمّا أن تقبل بي علناً أو يذهب كلٌ منّا في طريقه. ليس لدينا أولاد بعد والإنفصال لن يكون صعباً على أحد.

- دعيني أفكّر في الأمر.

- جوابكَ هذا دليل على عدم حبّكَ لي... رغم ذلك سأعطيكَ فرصة التفكير حتى الغد لأنّني أشعرُ أنه مع الوقت لن أحبّكَ مثل قبل... كيف لي أن أفعل وأنتَ تعاملني هكذا؟

وفي اليوم التالي جاء زوجي وأخبرني أنّه لن يأبه بكلام الناس مجدّداً لأنّه يحبّني فوق كلِ شيء. فرحتُ كثيراً لسماع هذا ولكنّه كان قد قرّر أن يبقى معي في البيت بدلاً من أن يفرض وجودي على ذويه. وبعد فترة قضيناها معزولين عن العالم لاحظتُ كم أنّه حزين وهو بعيد عن محيطه فقلتُ له:

- حبيبي سليم... أقدّرُ لك ما تفعله من أجلي وهذا يدلّ على حبّك لي ولكنّك لستَ سعيداً هكذا. ولأنني أحبّكَ أكثر من كل شيء قررتُ أن أعيد لك حريّتكَ. لا تجادلني! فالحياة هكذا لن تعود تطاق وبعد فترة ستبدأ المشاكل بيننا ولا أريد أن يحصل هذا. لكَ عالمكَ ولي عالمي وخطأنا أنّنا أحببنا بعضنا. دعني أعود إلى صالون الحلاقة حيث يحبّني الجميع وانتَ عُد إلى أصدقائك. كلانا سيجدُ الشخص المناسب يوماً ما. أشكركَ على كل شيء.

وهكذا إنتهَت قصّتي مع سليم وبعد فترة وجيزة بدَأت قصّة أخرى مع شريف شاب من محيطي. لم أندم على ما حصل لي بل أدركتُ قيمة نفسي كإنسانة وأنّني أستحقّ رجلاً يفهمني ويتباهى بي.

حاورتها بولا جهشان                            

المزيد
back to top button