وقعتُ ضحيّة مكيدة لا يتصوّرها عقل الإنسان، ولم أرَ أبعاد ما حصل لي إلاّ بعدما وجدتُ نفسي وسط مصيبة كبيرة.
تعرّفتُ إلى جاد عَبر الإنترنِت حيث كنتُ قد تسجّلتُ لإيجاد زوج بعدما سمعتُ أنّ المنتسبين إلى هذا الموقع هم أناسٌ جادّون. والغريب في الأمر أنّني كنتُ شابّة جميلة وجذّابة، ولم أكن بحاجة إلى البحث عن رجل على الشبكة، ولكنّني كنتُ خجولة جدًّا ولا أعلم كيف أتعرّف إلى الشبّان أو حتى كيف أتحدّث معهم. ووجدتُ في الإنترنِت مكانًا آمنًا أحتمي وراءه للتعبير عن مشاعري كما حصلَ مع جاد. والتقَينا وشعرنا وكأنّنا نعرف بعضنا منذ زمَن بعيد.
وفي اللقاء الثاني، أخَذَني جاد إلى أمّه. في البدء، إندهشتُ كثيرًا للأمر ولكنّني وجدتُ ذلك دليلاً واضحًا على جدّية حبيبي.
عندما دخلتُ صالون منزله كانت والدته بانتظاري. نظَرَت إليّ بِتمعّن وبدأت تسألني عن أمور كثيرة. وشعرتُ وكأنّني أجري مقابلة عمل. وعند انتهاء الزيارة، قالت الأمّ لإبنها:"ستفي بالغَرَض". وأجابها هو:"ألم أقل لكِ؟". وعندما استفسرتُ جاد عمّا قصَدَته أمّه، قال لي:"قصَدَت أنّكِ العروس التي لطالما حلِمَت بها لي". وسُرِرتُ طبعًا، خاصّة أنّ جاد كان متعلّقًا جدًّا بأمّه وبرأيها بكل ما يتعلّق به.
وبعد أسبوع، طلبَ جاد يدي مِن أهلي. وبالرّغم مِن تسارع الأحداث، قبِلنا جميعًا بهذه الزيجة. واشترى جاد شقّة جميلة أسرعنا بتأثيثها. وبعد الزفاف، طِرنا إلى البندقيّة لِقضاء شهر العسل. ولكن بعد يوم واحد مِن وصولنا إيطاليا، وقبل أن يتسنّى لنا رؤية أو زيارة أيّ مكان، وصلَنا خبر نقل أمّه إلى المستشفى وأنّ علينا العودة على الفور. وعَدَني زوجي أنّه سيعوّض لي، وأنّني سأحظى قريبًا بشهر عسل ثانٍ. أقفلنا حقائبنا واستقلينا أوّل طائرة.
فور وصولنا إلى المطار، علِمنا أنّ حماتي تَرَكَت المستشفى بعدما اتضَح أنّ الأمر لم يكن خطيرًا ولا يستدعي بقاءها. وعندما قصدناها في منزلها وجدناها متعافاة وعلى وجهها إبتسامة عريضة.
واعتذَرَت حماتي على قطع شهر عسلنا، لكنّ جاد أجابها أنّ لاشيء يُساوي صحّة الأمّ. أمّا أنا فكانت عينَي مليئة بالدّموع.
سكنّا في شقّتنا ونسيتُ حزني بين ذراعَي حبيبي. ولكن بعد اسبوعَين، عادَ جاد مِن عمله وقال لي بارتباك:
ـ سأطلب منكِ تضحية صغيرة... ولمدّة محدودة جداً.
ـ أطلب، حبيبي.
ـ أمّي... ليست على ما يرام...
ـ ولكنّها كانت بخير عندما زرناها بعد عودتنا مِن ايطاليا!
ـ أجل ولكن الأمر على ما يبدو ليس جسديًّا بل نفسيًّا... كانت جدّ متعلّقة بأبي الذي توفّي فجأة منذ 3 سنوات... ولم يعد لدَيها سواي... هل يُمكننا العيش في منزلها لأسبوعَين أو ثلاثة فقط ريثما تتعوّد على فكرة ابتعادي عنها؟ أرجوكِ... أعدكِ بألاّ أطلب منكِ شيئًا آخر.
كان يجدر بي أن أرفض، ولكنّ الأمر كان يتعلّق بأمّه، وكنتُ أعلم إلى أيّ حدٍّ كانا مقرّبَين مِن بعضهما... فإنتقلنا إلى منزل حماتي.
في البدء كانت جافّة معي بعض الشيء، ولكنّ سلوكها تغيّرَ جذريًّا عندما علِمَت أنّني حامل. وكنتُ قد تفاجأتُ بحملي لأنّني لم أكن أريد أولادًا بهذه السرعة، وكنتُ قد طلبتُ مِن زوجي أن يستعمل واقيًا ذكريًّا كلّ مرّة كنّا نمارس الجنس فيها. ولكن، على ما يبدو، كانت تلك الوسيلة غير مضمونة.
وعومِلتُ كالملكة: مُنِعتُ مِن عمل أيّ شيء يُتعبني، وكلّما كنتُ أشعر بانزعاج ما كانا يأخذاني فورًا إلى الطبيب النسائيّ.
وطالَ بقاؤنا هناك تحت ذريعة أنّني احتاج إلى عناية ولا يجدر بي أن أبقى وحيدة. ومرَّت الشهور وجاء موعد الولادة. وأبصرَ إبني النور، وأعطاه زوجي إسم أكرَم تيمّنًا بأبيه. كنتُ أودّ أن أختار له إسمًا آخر ولكنّني احترمتُ تقاليد العائلة. وعندما سألتُ زوجي عن موعد عودتنا إلى شقّتنا قال لي:
ـ يا حبيبتي... ليس لَديكِ أيّ خبرة في الاهتمام بالأطفال... تستطيع أمّي مساعدتكِ كثيراً.
ـ لدَيّ أمّي... لقد عادَت مِن كندا وبإمكانها هي الأخرى مساندتي.
ـ عظيم! قولي لها أن تأتي إلى هنا وسيكون لدَيكِ كلّ المساعدة اللازمة!
ولكنّ استقبال حماتي لأمّي كان جافًا وأحيانًا فظًا، ففضّلَت والدتي عدم البقاء. وعمِلَت والدة جاد أيضًا على إبعاد أقاربي وأصدقائي، وسرعان ما وجدتُ نفسي لوحدي.
ولكنّ حماتي بقيَت تعاملني بلطف خاصة عندما كان يحين موعد إرضاع أكرَم. كانت تأتي به إليّ وتعطيني التعليمات اللّازمة، ومِن ثمّ تعيده إلى سريره. وعندما فطمتُ ولدي ولم يعد بحاجة إلى الغذاء الذي كان يستمدّه منّي، بدأَت حماتي بإبعاده عنّي. لم تعد تدَعني أحمله قائلة: "عليكِ أن ترتاحي... أنظري إلى وجهكِ... سأهتمّ أنا بأكرَم." ولكنّني كنتُ بألف خير ولم تكن تلك إلاّ أعذارًا.
حاولتُ أن أشتكي إلى زوجي عن تصرّف أمّه ولكنّه قال:
ـ أعصابكِ متوتّرة... قد يقع أكرَم مِن يدَيكِ... دعي أمّي تهتمّ به ريثما تتحسّنين.
ـ لماذا تقول ذلك؟ لستُ متوترّة!
ـ أهتمّ لأمركِ... بالي مشغول عليكِ... يجب أن ترتاحي يا حبيبتي... لما لا نكمل شهر عسلنا كما وعدتُكِ؟
وأخذَني جاد إلى البندقيّة وقضينا أوقاتًا ممتعة. ولكنّني كنتُ أفكّر طوال الوقت بإبني وكنتُ أعدّ الأيّام لأراه من جديد.
ولكن عند عودتنا مِن إيطاليا، أخَذَت سيّارة الأجرة طريق شقّتنا بدل منزل حماتي. تفاجأتُ بالأمر وسألتُ زوجي عن السبب، فقال لي:
ـ كنتِ تطلبين منّي دائمًا أن تعودي إلى شقّتنا... وها أنتِ في طريقكِ إليها!
وعانقتُ جاد وقبّلتُه بقوّة لِشدة فرحتي.
ولكن عندما وصلنا إلى الشقّة لم أجد إبننا أو حماتي هناك.
ـ أين أكرَم؟
ـ إبننا مع أمّي... سنمضي بضعة أيّام سويًّا... أنا وأنتِ فقط.
ـ لا! أريد إبني حالاً!
وركضتُ إلى الباب لآتي بابني ولكنّ جاد أمسكَني بذراعي:
ـ لن تذهبي إلى أيّ مكان! تتصرّفين كالمجنونة... ربما السبب هو الحمل والولادة... العديد مِن النساء تصِبنَ بذلك... وقد يشكّل ذلك خطرًا على الطفل... فعلَت أمّي حسنًا عندما أبعَدته عنكِ.
ـ ماذا تقول؟ أنا في أحسن حالاتي! لماذا تختلق هذه القصص عنّي؟
ـ هذا جزء بسيط مِن الذي سيحصل لكِ إن بقيتِ مصرّة على استرجاع أكرَم... سيبقى الولد عند أمّي... يُمكنكِ زيارته مِن وقت إلى آخر.
وشعرتُ بأنّ الغرفة تدور مِن حولي، وبدأتُ بالبكاء:
ـ دعني أراه لبضعة دقائق فقط! أنا أمّ... أرجوك!
وقبِلَ معي ربمّا لأنّه استخفّ بقوّة الأمّ التي على وشك فقدان ولدها، ولم يُدرك أنّني قرّرتُ تسجيل كلّ ما سيحدث على هاتفي. ففي أوّج ألمي وحزني، كنتُ قد عثرتُ على وسيلة لإنقاظ ولدي. وصلنا إلى منزل حماتي وأخذتُ أكرَم بين ذراعيّ وقبّلتُه مئة مرّة، وطلبتُ أن أدخل الحمّام لأغسل وجهي مِن الدموع قبل رحيلي. وهناك أدَرتُ مسجّلة هاتفي وخرجتُ إلى الصالون.
وعندما سألتُ حماتي لماذا تفعل ذلك بي أجابَت:
ـ كان على جاد إيجاد فتاة حسنة المظهر وتتمتّع بصحّة جيدّة ولكن بسيطة وساذجة....لتنجب لنا طفلاً... وكنتِ أفضل مرشّحة لدَينا... لا تخالي للحظة أنّه أحبّكِ لأنّه لايُحبّ سوى امرأة واحدة، وهي أنا...أنا التي طلبت منه أن يأتي لي بأكرَم ثانٍ... وأنا التي ثقَبَت الواقي الذكري كي تحملي... ولِحسن حظّي أنّك أنجبتِ ذكرًا مِن أوّل بطن وإلا كان عليّ تحمّلكِ وقتًا أطول... والآن لم يعد لكِ أي فائدة وعليكِ الرحيل وتركنا نعيش بِسلام... فليس لديكِ مكان بيننا... وإن أثرتِ المتاعب سنقول إنّكِ مجنونة وغير قادرة على الإهتمام بالولد وستفقدينه إلى لأبد... وإن كنتِ إمرأة مطيعة، سندعكِ ترَين أكرَم مِن وقت إلى آخر... وستأتيكِ أوراق الطلاق قريبًا.
إستمعتُ إليها بِصمت، ومِن ثمّ قبّلتُ ولدي وذهبتُ فورًا إلى قسم الشرطة حيث أسمعتهم التسجيل. إتصلوا على الفور بِقاضٍ وأخذوا إذنًا بِجلب أكرَم مِن منزل حماتي. وبعد فترة قصيرة، حصلتُ على الطلاق وعلى حضانة إبني الحصريّة بعد أن تبّين للمحكمة مدى عدم إتزان حماتي وزوجي. وأخذتُ أكرَم وطِرتُ به إلى الولايات المتحّدة عند أقارب لي.
اليوم، بلغَ أكرَم مِن العمر خمس سنوات. قلتُ له إنّ والده وجدّته قضيا في حادث سير. أكيد أنّه عندما يكبر سأقول له الحقيقة، ولكنّه لا يزال صغيرًا ليستوعب جنون عائلة أبيه وشذوذهم.
حاورتها بولا جهشان