سبب غربتي الوحيد هي أمّي وما فعلَته للتفريق بيني وبين الوحيدة التي أحبَبتُها في حياتي. أجل، فلقد فضَّلتُ الرحيل بعيدًا على رؤية إنسانة أتعسَتني عمدًا لإبقائي مُتفرّغًا لها. وإليكم قصّتي:
أنا إبن وحيد وسط بنتَين، ولقد فرِحَ والدايَ كثيرًا عند ولادتي وعاملَني الجميع وكأنّني أمير حقيقيّ. فلَم يُرفَض لي طلب يومًا أو بالأحرى لَم أحتَج لطلَب أيّ شيء لأنّه كان يحضرُ مِن تلقاء نفسه. لَم أعلَم آنذاك أنّ لتلك المُعاملة ثمن عليَّ دفعه لاحقًا، وهو البقاء إلى الأبد رهينًة لدى والدَيّ.
كبرتُ وتابَعتُ دراستي في أفضل جامعة وبدأتُ العمَل في مؤسّسة أبي، كما كان مِن المتوقَّع أن أفعَل، مع أنّني كنتُ أريدُ أن أستقلّ حتى لو لزِمَ الأمر أن أكون موظّفًا عاديًّا. وبالرّغم مِن ذلك، فعلتُ جهدي لأكون عند حسن ظنّ أبوَيَّ وأختَيَّ وزوجَيهما. فالكلّ راهنَ عليّ وكان الضغط ثقيلاً للغاية. توفّيَ والدي فجأةً وصرتُ رأس العائلة، أي أخذتُ مكانه منذ لحظة وفاته وصمّمتُ على القيام بما يجب. إلا أنّ والدتي إستحوذَت كلّيًّا على حياتي بأدقّ تفاصيلها، فصرتُ ليس فقط إبنها بل أيضًا بمثابة زوجها، على الأقل صوَريًّا. خِلتُ أنّ المسألة عابرة وناتجة عن فقدانها رفيق حياتها، لكنّني كنتُ مُخطئًا لأنّ الأمور تفاقمَت بصورة جدّيّة لاحقًا.
فيوم عرّفتُ أمّي على حلى حبيبتي والتي كنتُ أوّد الزواج منها، رأيتُ بوضوح أنّها لَم تُحبّها. وكنتُ مُحقًّا إذ أنّها قالَت لي بعد رحيل ضيفتنا الجميلة:
ـ هذه الصبيّة ليست لكَ. عليكَ الكفّ عن رؤيتها.
ـ لماذا يا أمّي؟ كلّ الصفات مُجتمعة في حلى. إضافة إلى ذلك، لَم أعُد طفلاً لتأمريني بأيّ شيء، فهذه حياتي وأنا وحدي أٌقرّرُ ما سأفعَل بها وأتحمّل مسؤوليّة خياراتي.
ـ بل أنا أُقرّرُ ما ستفعله بحياتكَ! أسمِعتَني؟!؟
لَم أجِب إحترامًا لها، إلا أنّني بقيتُ مُصمّمًا على قراري، فحلى كانت حقًّا كلّ ما أتمنّاه. إلا أنّ والدتي كانت جدّيّة في قولها وتنوي إبعادي عن حبيبتي مهما كان الثمَن، وإن لَم تنجَح بذلك، فستبعُد الفتاة عنّي.
حاولَت أمّي تشويه صورة حلى لدَيّ بشتّى الحِيَل، مِن دون نجاح. لِذا، هي ذهبَت سرّيًّا لزيارة أهل حلى بعد أن تحرَّت عن مكان سكنهم وكلّ ما يلزمها مِن تفاصيل. علِمتُ بالذي جرى لاحقًا، أي بعد فوات الأوان. فقد علِمتُ أنّ والدتي قرعَت باب هؤلاء الناس الطيّبين ودخلَت صالونهم مِن دون إذن وجلسَت وسطهم قائلة:
ـ أنا أمّ "العريس" وأتَيتُ بغرض واحد وهو رفض تلك الزيجة.
ـ لماذا يا سيّدة؟ فإبنتنا صبيّة عاقلة ومُتعلّمة ومُتديّنة!
ـ إن تزوّجَها ولَدي فأعدُكم بأنّني سأقلبُ حياتها إلى جحيم وهي ستتمنّى لو لَم تلتقِ به قط!
ـ لماذا هذا الأذى المجّانيّ؟!؟
ـ لستُ بحاجة إلى سبب، فحياة إبني هي مُلكي وحدي!
ـ إذًا لا حاجة لمكوثكِ بيننا... تفضّلي بالخروج وعلى الفور!
ـ تطردوني؟!؟
ـ لن نسمَح لأحد بأن يُهيننا في دارنا. ومِن الجيّد أنّكِ أتَيتِ اليوم لنعرف أنّ إبنكِ ليس مُناسبًا لنا لأنّه حتمًا كالتي ربَّته. هيّا! أخرجي!
لقيَت أمّي مُعاملة تستحقّها، إلا أنّ طرد أهل حلى لها لَم يُؤثّر فيها إطلاقًا، فهمُّها كان أن تتخلّص مِن حبيبتي وذويها. مِن ناحيتي، تفاجأتُ كثيرًا بِحلى وهي تفسخُ علاقتنا فجأة، وتطلبُ منّي عدَم الإتصال بها أو الإقتراب منها. وبعد أن أصرَّيتُ كثيرًا لِمعرفة السبب، قصَّت لي ما جرى مع أهلها. وشعرتُ بغضبٍ لا يوصَف، فركضتُ أواجه والدتي بأعنَف العبارات التي لَم يكن لها أي وَقع عليها بل اكتفَت بالقول: "لقد حذّرتُكَ وأنتَ استخفَّيتَ بي". ومنذ تلك اللحظة، كلّ ما صِرتُ أُفكّرُ فيه كان الرحيل، وبعيدًا جدًّا!
قضيتُ الأشهر التي تلَت بالتفتيش عن سبيل للإنتقال إلى بلَد آخر، وكتمتُ طبعًا عن أمّي ما أنوي فعله، فهي الشرّ بحدّ ذاته ولن يردعها شيء لإبقائي إلى جانبها. أسفتُ لأنّ أختَيَّ تجاهلتا خبَر انفصال حلى عنّي ولَم توبّخا أمّهما حتى، وفهمتُ أنّني صرتُ وحيدًا أمام مصيري. كم باتَ بعيدًا زمَن مُعاملتي كالأمير!
وجدتُ أخيرًا وظيفة تليق بمستوى علمي وخبرتي، وقطعتُ تذكرة إلى فرنسا حيث كانوا بانتظاري. لَم أحضِّر حقيبتي كي لا تشكّ والدتي بشيء، بل صرتُ أنقلُ أمتعتي قطعة قطعة وأُخبَتُها في صندوق سيّارتي كاللصّ. وما عساني أفعل سوى ذلك؟ فبقائي كان يعني نهايتي كإنسان حرّ.
إتّصلتُ بأمّي حين وصلتُ المطار وأوشكتُ على ركوب الطائرة:
ـ أمّي، أنا راحل... أنا في المطار وذاهب بصورة نهائيّة إلى أوروبا.
ـ ماذا؟!؟ ومَن سمَحَ لكَ بالرحيل؟!؟
ـ أنا سمحتُ لنفسي بذلك، فأنا رجل ناضج ولست ولدًا... لدَيكِ ابنتان بإمكانهما الإهتمام بكِ. لن ترَيني مُجدّدًا إلا في حال أدركتِ أنّ تلاعبكِ بحياتي قد انتهى. الوداع.
ولَم أشعر بأنّني مُتجّه حقًّا إلى الحرّيّة إلا حين أصبحَت الطائرة في الجوّ. ذرفتُ الدموع لكثرة ارتياحي وأيضًا لإمتعاضي مِن كَون والدتي هكذا. كنتُ أتمنّى لو أنّها إنسانة مُحبّة وطيّبة كباقي الأمّهات، لكن ما عسايَ أفعل؟
بسبب انشغالهما بعائلتهما، تناوبَت أختايَ للإهتمام بأمّهما وقالتا لي كلّ واحدة بدورها: "كيف تحمَّلتَها لوحدكَ؟!؟ إنّها لإنسانة شرّيرة حقًّا!".
بدأتُ العمَل والإنخراط في الحياة الفرنسيّة وأحبَبتُ كلّ شيء هناك، إلا أنّ ذكرى حلى بقيَت في بالي طوال الوقت. لِذا اتّصلتُ بها داعيًا إيّاها لِموافاتي حيث أنا لنتزوّج. إلا أنّها رفضَت عرضي لسبب وجيه: كانت قد خُطِبَت للتوّ ومُقتنِعة بعريسها إذ أنّ الكلّ أحبَّه على خلافي. بكيتُ لوحدي لأيّام وليالٍ وعاتبتُ والدتي ضمنيًّا لخراب حياتي العاطفيّة هكذا. لماذا هي لَم تشأ رؤيتي سعيدًا؟ لَم أجِد طبعًا جوابًا لسؤالي هذا.
بعد حوالي السنة، علِمتُ مِن إحدى أختيَّ أنّها والأخرى تريدان إرسال والدتنا إلى دار للعجزة لكثرة صعوبة التعامل معها. لَم يُعجِبني الأمر بتاتًا، فأمّي لَم تكن عاجزة جسديًّا أو عقليًّا ولَم أتصوّرها أبدًا في هكذا مكان. قطعتُ تذكرة سفَر إلى البلد وركضتُ أرى ما الذي يجري.
وجدتُ والدتي مُكتئبة لا تتفوّه بكلمة سوى "حسبي الله ونعمَ الوكيل"، الأمر الذي أزعجَني إلى أقصى حدّ، فدعوى الوالدَين تُستجاب عادة. إنفردتُ مع أختيَّ واستمعتُ إليهما مطوّلاً عالمًا تمام العلم ماذا ستقولانه لي، بعد أن حفظتُ طباع والدتي عن ظهر قلب. كانتا مُصمّمتَين على التخلّص مِن والدتهما والعودة إلى حياتهما العائليّة المُعتادة. عندها أخذتُ قرارًا خطيرًا وهو تَرك عمَلي في الخارج للبقاء مع التي أعطَتني الحياة. تحسَّنَت حالة والدتي بلحظة وكأنّه فعل ساحر، وفخِرتُ بنفسي لأنّني أبن صالح. وحين سمعتُ أنّ حلى فسخَت خطوبتها، ظننتُ أنّ الله يُكافئني على تضحيتي الكبيرة. فتأمّلتُ طبعًا بأنّ تعود حبيبتي إليّ، واثقًا تمام الثقة أنّ أمّي لن تقِف في طريقي هذه المرّة بعد الذي فعلتُه مِن أجلها.
لِذا قصدتُ منزل ذوي حلى طالبًا رسميًّا يَد ابنتهم، وواعدًا إيّاهم بأنّ ما بدَرَ عن أمّي كان نتيجة إرهاقها وكبر سنّها. تصافَحنا جميعًا وحدَّدنا موعد عقد القران والزفاف وعدتُ إلى البيت فرِحًا وكأنّني مراهق.
إلا أنّ ردّة فعل أمّي تجاه زواجي مِن حلى لَم تتغيّر أبدًا، ورأيتُ في عَينَيها وسمعتُ في نبرة صوتها الشرّ ذاته والأنانيّة نفسها. فقد وقفَت أمامي مُنتصِبة وصارِخة بوجهي:
ـ لن تتزوّج مِن تلك الفتاة قطّ حتى لو يعني ذلك موتي!
ـ لماذا يا أمّي؟!؟ ها أنا قد عدتُ مِن أجلكِ! إفعلي شيئًا مِن أجلي!
بدأَت والدتي بالصراخ كالمجنونة، وبَضرب نفسها لدرجة أنّ الجيران قرعوا بابنا مُستفسرين عن الذي يجري. طمأنتُهم وأغلقتُ الباب وراءهم.
ومنذ ذلك اليوم لَم أوجِّه الكلام لتلك المرأة الشرّيرة... إلى حين هي قالَت لي ما قلَب حياتي كليًّا.
كنتُ في غرفتي أسترجِع عمَلي القديم في فرنسا بإرسال إيميلات للشركة حين دخلَت عليّ مُستهزئة:
ـ هل اعتقدتَ فعلاً أنّ بإمكانكَ الإفلات منّي؟ ها أنتَ سافرتَ بعيدًا كاللصّ وأنا أرجعتُكَ!
ـ بل خبَر دخولكِ دار العجزة أرجعَني.
ـ هاهاها... لطالما كنتَ ساذجًا يا بنيَّ... إنّها كانت خطّة وضعتُها مع أختَيكَ لتعود.
ـ ماذا؟!؟ هل أنتِ جادّة؟
ـ وهل صدّقتَ فعلاً أنّ هاتَين الغبيّتان بإمكانهما إرسالي إلى أيّ مكان رغمًا عنّي؟ أنا لا أُقهَر!
ـ لماذا تفعلُ أختَايَ هذا بي؟!؟
ـ أوّلاً كي لا تضطرّان للإهتمام بي وثانيًا لأنّني أمرتُهما بذلك. أنا الحاكمة الناهية في عائلتي! حتى أبوكَ كان كالخاتم في أصبعي! أنا أقودُ حياة مَن حولي كما أشاء!
لَم أجِب لكثرة خَيبتي، ولأنّني أدركتُ بلحظة أنّ فكرة الرحيل مِن جديد بصورة دائمة كانت صائبة. ركضتُ إلى حلى وقلتُ لها:
ـ سآخذكِ صباح الغد لنعقد قراننا ومِن ثمّ تنتظريني عند أهلكِ حتى أُحضّر لكِ الأوراق اللازمة لموافاتي. إيّاكِ أن ترفضي لأنّني سئمتُ مِن لعبة الفأر والقط هذه! أنا رجُلكِ وهذا ما ستفعلينَه!
لَم تجرؤ حلى على الرفض بعد أن رأَت مدى جدّيّتي وغضَبي.
رحلتُ بعد أن صارَت حلى زوجتي شرعًا وانتظرتُها في فرنسا حتى لحِقَت بي وسجّلتُ زواجنا هناك.
لَم تستوعِب والدتي طبعًا رحيلي مرّة ثانية "كاللصّ" إلا أنّها بقيَت تعتقد أنّ بمقدورها استرجاعي. وحظرتُ رقم أختيَّ مِن هاتفي كي لا أسمَع أكاذيبهما مُجدّدًا.
أنجبَت لي حلى ولدًا جميلاً ثمّ إبنة رائعة وعشنا سنوات مليئة بالحبّ والتفاهم. مرَّت على الأقلّ خمس سنوات حتى تلقَّيتُ اتّصالاً مِن أحد أقاربي يقول لي إنّ والدتي توفّيَت وعليَّ العودة بسرعة لحضور مراسم الدفن. لكن شيئًا في نبرة صوته لَم يُعجبني، فأوقعتُه في الكلام واعترَفَ لي أخيرًا أنّ أمّي هي التي طلبَت منه أن يكذب عليّ. ألن تكفّ والدتي عن التخطيط للسيطرة على حياتي؟ فالحقيقة أنّني صرتُ أكره تلك المرأة لدرجة لا توصَف، وخبَر موتها الحقيقيّ لن يُحزِنني حتمًا.
لكن في الوقت الحاضر كلّ ما أُريدُه هو الإستمتاع بعائلتي الجميلة وبحبّ التي تعذَّبتُ مِن أجلها.
حاورته بولا جهشان