أبلَه متيَّم

لقد قضَيتُ نصف عمري وقلبي مُتيّم بِفاديا... عن بُعد. وأنا اليوم أكثر مِن آسف على ذلك الوقت الذي أضَعتُه سدىً والذي لن أستطيع تعويضه بأيّة طريقة. فالزمَن الضائع لا يعودُ أبدًا.

شاءَت الظروف أن ننتقل للعَيش في ذلك الحَي بسبب عمَل أبي، عندما كنتُ في العاشرة مِن عمري. ومنذ اليوم الأوّل، وقَعَ نظَري على جارتنا فاديا التي كانت في العمر نفسه. كَم كانت جميلة! ومع أنّني لَم أكن أُلاحِظُ بَعد الفتيات، إلا أنّها سكنَت قلبي على الفور. وبما أنّ والدَيّ صارا يتبادلان الزيارات مع أهل فاديا، حظَيتُ بلحظات جميلة مكّنَتني مِن رؤيتها عن قريب ومُحادثتها مِن وقت لآخر. وهي مِن جانبها، لَم تُعِرني أهميّة خاصّة، بل بقيَت جدّيّة لكن لطيفة لأنّها تربَّت على ذلك. وقد فسَّرتُ بطريقة خاطئة بعض الإشارات الصادرة منها، فبِتُّ شبه مُتأكّد مِن أنّها تُحبُّني هي الأخرى.

وشاءَت الظروف أيضًا أن تكون فاديا في الصفّ نفسه في المدرسة الجديدة التي سجَّلَني أهلي فيها، إلا أنّها كانت تجلسُ دائمًا في المُقدّمة، أي أنّني قضَيتُ سنينًا أنظرُ إلى مؤخّرة رأسها فقط، وأفرَح حين تدعوها المُدرِّسة إلى اللوح لِحلّ مسألة ما، لأنّني كنتُ بذلك أرى وجهها الجميل. أثناء الإستراحة، كانت فاديا تجلسُ مع رفيقاتها في زاوية الملعب، وأنا أحومُ مِن حولها بشكل سرّيّ لأشبَع منها قليلاً. مرَّت السنوات مِن دون أن يتغيّر شيء بيننا، لكن في داخلي نما حبّي لِفاديا بشكل كبير، إذ أنّني اعتَبرتُها الأنثى الوحيدة الموجودة على وجه الأرض وأكملهنّ. أجل، لقد كنتُ مفتونًا بتلك الصبيّة الجميلة لِدرجة لا توصَف. وعندما أكمَلنا المدرسة وحان الوقت للذهاب إلى الجامعة، قصدتُ دخول كلّيّة الحقوق فقط لأنّني سمعتُ أهلها يتكلّمون مع أهلي بهذا الشأن. فتخيَّلتُ أنّ المناخ الجامعيّ سيُقرِّب بيننا، فنستطيع أخيرًا أن نعيش الحبّ الذي لطالما تمنيَّتُه.

لَم تُسَرّ فاديا بإيجادي أيضًا في الكلّيّة، ولاحظتُ بوضوح كيف أنّها صارَت تتفاداني. ليس ذلك وحسب، بل بدأَت صديقاتها بالضحك عليّ كلّما مرَرتُ بالقرب منهنّ. حزِنَ قلبي للغاية، وحين كنتُ على وشك الإقتناع باستحالة تحقيق أحلامي، جاءَت فاديا إليّ طالبة مُساعدتي. فهي لَم تكن طالبة مُتفوّقة، على خلافي، وكانت هناك أمور كثيرة لَن تستوعبها لوحدها. لَم أعرِف كيف أٌفسِّر اختيارها لي بالذات، فتكلَّمَ قلبي مُجدّدًا راسمًا لي نظريّات مُختلفة تصبُّ كلّها حول مشاعر فاديا القويّة تجاهي. لكنّها كانت في الوقع تستغلُّ ولَعي بها، الأمر الذي كان واضحًا للجميع بإستثنائي.

قضَيتُ ثلاث سنوات أُدرّسُ فاديا... وصديقاتها، وأقومُ بواجباتهنّ الجامعيّة مِن دون مُقابل. أي أنّني لَم أحظَ بموعد خاصّ أو قُبلة أو حتى نظرة حبّ. أعلَمُ أنّني المُذنب الوحيد لكنّ الأمر صعب للغاية في جميع الأحوال. تخرّجنا واحتفلنا ومِن ثمّ افترقنا. بتُّ أرى فاديا مِن وقت لآخر في ردهة المبنى أو على السلالم أو حين يزورُ أهلنا بعضهم.

 


وجدتُ بسرعة عملاً جيّدًا في مكتب مُحام مشهور مقابل أجر كبير، وذلك بفضل علاماتي المُمتازة. كلّ شيء كان يجري بطريقة جيّدة، إلا أنّني بقيتُ تعيسًا بسبب بُعدي عن فاديا. مهلاً! لِما لا أجلِبُ حبيبتي إلى المكتب نفسه؟ هكذا سأستطيع التمتّع بوجودها معي طوال النهار! ركضتُ إلى صاحب المكتب مُتغنيًّا بشطارة فاديا وأقنعتُه بِضمّها إلى فريق عملنا. كنتُ أعلَم أنّ فاديا لن ترفض ذلك العرض، فهي لَم تجِد عملاً بعد تخرّجها بل بقيَت في البيت بإنتظار فرصتها.

أجرَت فاديا مُقابلة مع رئيسي المُحامي ومِن ثمّ بدأَت العمَل معنا. لن تتصوّروا فرحة أهلها وامتنانهم لي، إلا أنّ حبيبتي شكرَتني بِبرودة وكأنّ الأمر كان طبيعيًّا بالنسبة لها. لَم أكترِث لذلك، بل رجوتُ الله أن تستوعبَ فاديا يومًا مدى حبّي لها. كنتُ واثقًا مِن أنّها ستكتشِف أنّ فقط حبًّا كحبّي هو ما سيُسعدُها. كنتُ أعلَم أنّها تخرجُ مع أصدقاء لها وأنّها مُحاطة بالمُعجبين بسبب جمالها، إلا أنّني وثِقتُ بقوّة الحبّ التي لا مثيل لها. وكأيّ مُتيَّم لا يستِمع لِلغة العقل، كنتُ مُخطئًا طبعًا. إنخرَطَت فاديا بشكل جيّد وسريع في أجواء وأعمال المكتب، الأمر الذي أراحَني، فكنتُ الذي أوصى بها. للحقيقة، هي بدأَت تستلِمُ قضايا وملفّات مُهمّة بشكل أدهشَني، فأنا لَم أصِل إلى ذلك بالرغم مِن أقدميّتي عليها. لَم يُزعِجني الأمر بل افتخرتُ بحبيبتي، ورحتُ إلى المحامي أسأله عن أداء فاديا لأجني منه الشكر والامتنان. إلا أنّه قال لي:

 

ـ كنتُ سأبعثُ بكَ إلى مكتبي... لدَيّ أخبار غير سارّة لكَ.

 

ـ يا إلهي... أتريدُ الإستغناء عن فاديا؟!؟

 

ـ بالعكس! فهي مُحامية مُمتازة! بل عليّ الإستغناء عنكَ، فالأوضاع صعبة ولا يسعُني الاحتفاظ بكلّ الطاقم.

 

ـ ولِما أنا؟!؟ ألستُ مُحاميًا جيّدًا؟

 

ـ أنت جيّد ولكن لستَ مُمتازًا مثل فاديا.

 

خرجتُ مِن المكتب مذهولاً، فكنتُ أعلَم تمام العلم أنّ فاديا لَم تكن ولن تكون مُحامية مُمتازة. يا إلهي، لقد طُردتُ!

قصدت غرفة الإستراحة لأختلي بنفسي وأحبس الدموع التي ملأَت عينَيّ حين دخلَت سكرتيرة المدير .هي كانت قد لحِقَت بي بِغرَض مواساتي، فكانت على اطّلاع بالذي يتحضّر لي.

 

ـ لا تأسف، ستجد مكتبًا آخر قريبًا.

 

ـ قد تكونين على حقّ، ولكن لِما أنا؟

 

ـ لأنّكَ رجُل ولا تدخل مكتب مُديركَ وتبقى معه ساعات خلف باب مُقفل.

 

ـ ماذا تعنين؟

 


ـ أعني أنّ فاديا إنسانة وصوليّة، وليس لبقائها دخلٌ بمهاراتها المهنيّة بل بمهارات أخرى... مِن طبيعة حميميّة.

 

ـ أنا لا أُصدّقُكِ! فاديا إنسانة شريفة!

 

ـ وأنتَ أبلَه! الكلّ هنا يعلَم بإفتتانكَ بها، فأنتَ لا تتكبّد حتى عناء إخفاء حبّكَ عن الجميع. الفتاة لا تُريدُكَ، إفهَم ذلك! هي تلعبُ بكَ وها أنتَ خارج المكتب، أمّا هي فستتربَّع مكانكَ طالما تقومُ بإرضاء نزوات مديرها.

 

ـ لماذا تُسيئين لِسُمعة فاديا؟ هل تريدين المدير لِنفسكِ؟

 

ـ أنتَ لست فقط أبلهًا بل مجنون أيضًا! كان يجدرُ بي ترككَ جاهلاً لِما يجري.

 

أدارَت المرأة ظهرها وأنا قصدتُ مكتب فاديا. قلتُ لها:

 

ـ لقد استغنى المدير عن خدماتي.

 

ـ وماذا تُريدُني أن أفعَل حيال ذلك؟

 

ـ لا شيء، جئتُ أُطلعُكِ على ما حصل.

 

ـ أتمنّى لكَ التوفيق.

 

ـ وحسب؟ ألا تريدين إخباري بشيء آخر؟

 

ـ لا. مِن فضلكَ، لدَيّ ملفٌّ مهمٌّ عليّ إكماله.

 

ـ ملفٌّ مُهمٌّ... أهمّ مِن طردي مِن المكتب؟ ملفٌّ مُهمٌّ... وكأنّكِ مُحاميّة بارعة!

 

ـ ماذا تُريد؟!؟ أتركني وشأني! لقد سئمتُ منكَ! أراكَ تحومُ حولي منذ قدومكَ إلى الحَي! ألن تفهَم أنّكَ مُزعج للغاية؟

 

ـ لقد ساندتُكِ وساعدتُكِ ودبّرتُ لكِ عملاً.

 

ـ لَم أطلب منكَ شيئًا. إرحَل الآن!

 

ـ ربّما لو كنتُ إنسانًا مهمًّا وثريًّا، لكنتِ نظرتِ إليّ ولو نظرة واحدة.

 

ـ ربمّا، لكنّكَ لا أحد.

 

ـ أنتِ مُخطئة، فلستُ لا أحد بل أنا رجُل عصاميّ وفالِح، وأبلغُ مُبتغايَ بِجهدي وليس بالإستلقاء على أريكة المُدير!

 

ـ لا أسمحُ لكَ!

 

ـ بل أسمحُ لِنفسي. أنتِ لستِ حتى آسفة على طردي بل ربمّا لكِ ضلع في رحيلي. كَم كنتُ غبيًّا لأنّني أحبَبتُكِ يا فاديا، لكنّني لَم أزعجكِ يومًا بل بقيتُ ساكتًا ومُستعدًّا لِمساعدتكِ في حال احتجتِ لي. سأفتحُ مكتبي الخاص وسيأتي يوم وأصيرُ أفضل مِن النذل الذي فضَّلَ نزواته على العمَل الجدّيّ. سترَين!

 

ـ ها ها ها! أنتَ فاشل وحسب!

 

صحيحٌ أنّني نادمٌ على السنوات التي أضَعتُها في حبّ فاديا، إلا أنّني ممنونٌ لها مِن جهّة أخرى لأنّها حثَّتني، بصورة غير مُباشرة، على العمَل ليلاً نهارًا وإقامة أفضل العلاقات مع أهمّ الناس، لأٌنشىء مكتبي وأبدأ العمَل بمفردي. أنا فاشل يا فاديا؟ سنرى ذلك!

يوم أقفَلَ مكتب المُحامي الذي كنتُ أعمل لدَيه بسبب انجراف صاحبه وراء تشغيل الجميلات وليس الماهرات، ركضتُ أستعين بتلك السكرتيرة التي كلّمَتني يوم طردتُ. كنتُ بحاجة إلى مُساعِدة كفؤة إلى جانبي. جنَّدتُ أيضًا بعض المحامين الذين كانوا يعملون في ذلك المكتب، ما عدا طبعًا فاديا التي عادَت خائبة إلى بيتها. هي حاولَت عَبر أهلها التقرّب منّي، فهم عرضوا على أهلي ضمّ عائلتَينا بَعقد زواج بيني وبين ابنتهما، لكنّني رفضتُ بقوّة. أنا أتزوّج فاديا؟ وهل أنا أبلَه؟!؟

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button