وُلِدَت رانيا أختي قبلي بعشر دقائق، الأمر الذي جعَلَ منها الكبرى، واستقبلَها الجميع بفرحة عارمة مع أنّها كانت بنتًا وأنا ولدًا. لِذا هي كبرَت لتقودَ الثنائيّ الذي ألّفناه كوننا توأمَين. تعوّدتُ مع مرور السنوات الانصياع لأوامر ورغبات رانيا التي عمِلَت على تحطيم شخصيّتي، وإقناعي بأنّ وجودي مربوط بوجودها وأنّها الأفضَل والأذكى بيننا. لكن، مِن جهة أخرى، أبقَت أمر سيطرتها عليّ سرًّا وأوحَت للجميع أنّها الخاضعة لي. لماذا فعلَت ذلك؟ لأنّها، وبكلّ بساطة، شرّيرة وتُخطّطُ دائمًا للأذيّة والمِكر. وذلك يُثبتُ بالفعل أنّنا نولَد بطبع خاصّ بنا، فأختي كانت هكذا منذ البدء.
عانَيتُ مِن أختي التي تنمّرَت عليّ على مدار الساعة، مُلقية اللوم عليّ أمام والدَينا اللذَين وبّخاني وعاقباني لأشياء لَم أفعَلها. سكتُّ عن ذلك لأنّني أحبَبتُ رانيا وخفتُ منها، لكن خوفي الكبير كان خسارتها وخسارة حبّها وحمايتها لي. فلَم أكن أؤمِن أنّني قادر على شيء مِن دونها... كنتُ ضحيّة طوعيّة وتعوّدتُ على ذلك لسنوات طويلة.
كبرنا ولَم يتغيّر شيء ما عدا قُدرة رانيا على إخفاء حقيقة شخصيّتها، فهي صارَت مُمثّلة بارعة تدّعي الهدوء والمحبّة والحكمة. لكن داخل قلبها، كان يغلي بركان عظيم بانتظار الدمار الشامل. فشغل أختي الشاغل كان إيجاد ضحايا لأذيّتها وكنتُ شريكًا لها بذلك، ليس بدافع الشرّ بل لأزيح عنّي العذاب الذي كنتُ فيه ولأحصَل على رضى رانيا. وهكذا قضَت أختي كلّ سنوات دراستها وهي تتنمَّر على الفتيات والصبايا الضعيفات الشخصيّة، وتتلذّذ عند بُكائهنّ وخوفهنّ منها. وفي سنتها المدرسيّة الأخيرة، صارَت رانيا بمثابة طاغية مُحنّكة يهابُها الجميع، ويلتفّ حولها كلّ مَن في قلبه شرّ أو يخافُ مِن إغضابها.
وعندما حان وقت دخولنا الجامعة، وجدتُ مهربًا مِن واقعي، فاخترتُ اختصاصًا ليس موجودًا سوى في كلّيّة بعيدة عن مسكننا. كنتُ مُتحمّسًا جداً وسعيدًا لكنّ أمري فُضِحَ لدى رانيا التي خافَت أن أفلتَ منها. لِذا هي "أمرَتني" أن أنسى خطّتي وأنضمّ إلى الكلّيّة التي اختارَتها لنفسها. وعند رفضي الحازم، قالَت لي بكلّ وقاحة:
ـ لن تفلِتَ منّي... إن بقيتَ مُصرًّا على ذلك الاختصاص، فسأُعقبُكَ بشدّة.
ـ دعيني وشأني، أرجوكِ! أُريدُ أن أكون حُرًّا منكِ... لقد أخذتِ إلى حدّ الآن كلّ حياتي... يجب أن يتوقّف هذا التنمّر.
ـ إن غادرتَ، فسأقولُ لأبوَينا إنّكَ تحرَّشتَ بي جنسيًّا.
ـ ماذا؟!؟ أنتِ مجنونة! لا، بل أنتِ أفعى سامّة وخطيرة! كيف خطَرَت ببالكِ هذه الفكرة البغيضة؟!؟ أنتِ مريضة!
ـ أنتَ تعرف أنّني قادرة على أذيّتكَ... فالكلّ سيُصدّقني عندما أُقنعُهم بأنّكَ تُحبّ لَمسي في أماكن خاصّة جدًّا. ستنضمّ إلى كُلّيّتي أم لا؟
ـ سأفعلُ ما تشائين.
مرّة أخرى حطّمَت رانيا عزيمتي ومحَت أحلامي ببضع كلمات. صرتُ شابًّا مكسورًا لا أمَل له.
دخلنا الكلّيّة التي اختارَتها رانيا وعلِمتُ لاحقًّا سبَب هذا الاختيار: وجود فتاة كانت معنا في المدرسة ولَم تقدِر أختي على كسرها. تصوّروا هذا الكمّ مِن الإصرار على إحداث ضرَر بنفوس الغَير! وتلك الصبيّة التي أتكلّم عنها إسمها وداد وتتحلّى بشخصيّة مُميّزة وقوام الجميل. والحقيقة أنّني كنتُ مُعجبًا بها سرًّا لكنّني لَم أجرؤ على التكلّم معها يومًا، لأنّني اقتنعتُ أنّ إنسانة مثلها لنتنظُر إليّ. فلا تنسوا أنّ رانيا حطّمَت ثقتي بنفسي وقدرتي على إتّخاذ قرار لوحدي، وذلك لتجعَل منّي دُميَتها وشريكها في كلّ شيء تنوي فعله. لِذا غضبتُ كثيرًا مِن أختي حين علِمتُ أنّ هدفها الوحيد صارَ تحطيم وداد وتلقينها درسًا قاسيًا. إلا أنّني لَم أواجِه رانيا، كعادتي، خاصّة أنّني لَم أشأ فضح مشاعري تجاه وداد كَي لا تستعملها للوصول إلى هدفها. بدلاً مِن ذلك، إدّعَيتُ أنّني بالفعل أكرَه وداد ولن أتردّد على تنفيذ ما سيُطلَب منّي.
قد يظنّ القارئ أنّني أُبالغُ في ما يخصّ شرّ رانيا، لكن صدّقوني فهؤلاء الناس موجودون حولنا وشغلهم الشاغل الأذيّة والتحطيم كي يعطوا لوجودهم معنى، وليشعروا بالقدرة على السيطرة على كلّ مَن حولهم. هل يأتي ذلك مِن إحساس بالضعف وقلّة الثقة الفعليّة بالنفس؟ لا أدري فأنا لستُ طبيبًا نفسيًّا.
أوّل شيء فعلتُه، كان أن قصدتُ وداد ذات يوم أثناء فسحة ما بين الدروس لأقولَ لها مِن دون مُقدّمة:
ـ أختي رانيا تُخطّط لأذيتكِ، فاحترسي.
ـ هاهاها... وكأنّني أُبالي! هل هي التي بعثَت بكَ إليّ لإخافتي؟
ـ أبدًا، بل أٌخاطرُ بالكثير لكنّني لا أُريدُكِ أن تتأذّي.
ـ ولماذا؟ أنا بالكاد أعرفُكَ، وبالرغم مِن أنّنا كُنا في المدرسة نفسها لَم نتبادَل الكلام قط. أمّا بالنسبة لأختكَ، فأنا أعرفُها جيّدًا، للأسف. هي لَم تنفكّ عن الثرثرة عنّي وتجييش باقي الطلّاب ضدّي. إختلقَت الأقاويل والأكاذيب واتّهمَتني لسنوات بأمور بشعة، فقط لأنّني طالبة مُجتهدة وحسنة المظهَر.
ـ إحترسي وحسب. أفعلُ ذلك لأنّني اكتفَيتُ مِن التخطيط والأذى. يا لَيتني أستطيع الابتعاد عنها!
ـ وما يمنعُكَ مِن ذلك؟ فلقد أصبحتَ شابًّا جامعيًّا ووسيمًا.
ـ لن تفهمي لماذا لا أستطيع الابتعاد... رانيا مؤذيّة للغاية وخيالها واسع كثيرًا، وبإمكانها تشوية سُمعتي بكلمة واحدة. هل... قلتِ عنّي إنّني وسيم؟!؟
ـ أجل، لِما التعجّب؟ ألا تعرفُ أنّكَ شاب جميل الملامح والبُنية؟
ـ للحقيقة لا، وللصراحة لا أرى شيئًا إيجابيًّا بي.
ـ يا للمسكين... على كلّ الأحوال، أشكرُكَ على تنبيهكَ لي. هل بإمكاننا أن نصبحَ صديقَين؟
تصوّروا فرحتي بعد أن انتهَيتُ مِن الحديث مع وداد! أنا وسيم؟!؟ أنا سأصبح صديق الفتاة التي أُعجبتُ بها؟!؟ هل أنّني سأعيشُ أخيرًا حرًّا مِن عبوديّة رانيا؟ لكنّ أختي اللعينة كانت على علم بإعجابي بوداد وتنوي استعمالي للانتقام منها. فهي قالَت لي:
ـ رأيتُكَ تتكلّم مع وداد وأظنّ أنّكَ نبّهتَها منّي. مُمتاز... الآن هي تثقُ بكَ فبإمكاننا تلقينها الدرس.
ـ ألن تدَعيني يومًا وشأني؟!؟ كفاكِ شرًّا! عيشي بسلام! إلا تُحبّين أحدًا على الإطلاق؟
ـ لا، لا أُحبُّ أحدًا... سوايَ. وستفعل كما أقولُ لكَ وإلا... وإلا ستعرفُ "حبيبة قلبكَ" أنّكَ تتحرّش بي.
ـ أيّتها الماكرة... إيّاكِ أن تبُثّي تلك الشائعة! هل تُقدّرين مدى الضرَر الذي قد يحدث لي؟!؟ أنتِ حقًّا مجنونة.
ـ إذًا لا تُعاندني.
صرتُ أقضي الكثير مِن الوقت مع وداد ونتبادَل الأحاديث والآراء، وتأكّدتُ مِن أنّها إنسانة عميقة ومُحبّة ورائعة. يا للفرق بينها وبين رانيا! خاصّة أنّها عمِلَت على بناء شخصيّتي بإظهار حسناتي ومُقوّماتي وبدَفعي على الإيمان بنفسي. لَم أفصَح لها عن مشاعري تجاهها خوفًا مِن إفزاعها وإبعادها عنّي، لكنّها صارَت في عقلي وقلبي على مدار الساعة. فحين طلبَت أختي منّي اصطحاب وداد إلى مكان هادئ وتقبيلها وأخذ صورة عن القُبلة، رفضتُ الانصياع لها رفضًا قاطعًا. تفاجأَت رانيا بتلك الوقفة ضدّها، خاصّة أنّها لمَسَت تغييرًا واضحًا في شخصيّتي، وأدركَت أنّها ستخسرني إن لَم تتصرّف بسرعة. لِذا قالَت لمَن أرادَ سماعها إنّها تُعاني مِن تحرّشي بها منذ سنوات، وإنّني أُجبرُها على السكوت عن الأمر بالتهديد والإرهاب.
لاحظتُ أنّ طلّاب الكلّيّة صاروا يتفادون التواجد معي وأنّهم يتهامسون حولي، لكنّني لَم أتخايَل أبدًا أنّ أختي أطلقَت اشاعة بغاية البشاعة عنّي. وحدها وداد قالَت لي يومًا:
ـ أصحيح ما يُقال؟ هل بالفعل أنتَ تتحرّش جنسيًّا بأختكَ؟
ـ يا إلهي، هي فعلَتها؟!؟ يا إلهي... لَم أتصوّرها قادرة على ذلك! بالطبع ليس صحيحًا! هل صدقتِها؟
ـ إسمَع... كلّ شيء يخرجُ مِن فَم رانيا هو كذب... ألَم تُحاول أختكَ أيضًا تشويه سمعتي حين كنّا في المدرسة؟ لكن موضوع التحرّش هو بالفعل خطير. ماذا لو وصلَ الخبَر لأهلكَ أو إدارة الجامعة؟ فقد تُطرَد مِن الكلّيّة! ولن أعودَ قادرة على رؤيتكَ.
تلك الكلمات الأخيرة، التي دلَّت على شعور وداد تجاهي، أعطَتني قوّة فائقة لمواجهة رانيا. لِذا إنتظرتُ أن نكون لوحدنا في المساء لأقول لرانيا:
ـ لقد تخطَّيتِ حدودكِ معي وهذه هي غلطتكِ العظيمة. فكان لكِ حليف واحد وهو أنا. الآن صرتِ لوحدكِ بمواجهة كلّ الذين أذَيتِهم وستؤذيهم. عليكِ على الفور سحب تلك الإشاعة البغيضة بأيّة وسيلة تعرفينها، فأنتِ خصبة الخيال.
ـ وإلا؟
سحبتُ مِن تحت الوسادة دفترًا صغيرًا، ولوّحتُ به أمام عَينَيها التي كبُرَت ذعرًا. وقلتُ لها:
ـ لقد بحثتُ عن هذا الدفتر طيلة بعد الظهر، فأنا عدتُ باكرًا مِن الكلّيّة.
ـ أعِده لي على الفور!
ـ لقد قرأتُ منه قليلاً، وفي داخله كلّ الإثباتات اللازمة لفضح مكائدكِ. فلقد رأيتُكِ مرارًا تكتبين سرًّا على هذا الدفتر، واستنتجتُ أنّه بمثابة سجلّ لكلّ ما فعلتِه بالناس وتنوين فعله. سأبثّه كما بثَّيتِ الإشاعة حولي وسيعرفُ العالَم بأسره مَن أنتِ حقًّا.
ـ حسنًا... ماذا تُريد؟
ـ تعرفين ما أُريدُه. إضافة إلى ذلك، ستتركين الكلّيّة فور انتهاء السنة الدراسيّة للالتحاق بأخرى. سأُبقي الدفتر معي، في مكان آمِن، تحسّبًا لمكركِ، فأنا أعرفُكِ جيّدًا.
ـ أرى أنّ وداد انتصرَت مرّة أخرى عليّ. حسنًا، سأفعلُ ما تشاء.
نفَت رانيا بسرعة الإشاعة حول تحرّشي بها وتركَت الكلّيّة بعد شهرَين، ولَم أعُد أراها إلا في البيت أثناء تناول العشاء. بعد فترة، سافرَت إلى فرنسا عند أقارب لنا بحجّة التعلّم.
في تلك الأثناء، نما بيني وبين وداد حبّ كبير توّجناه بالزواج بعد تخرّجنا وعثورنا على عمَل جيّد. أمّا في ما يخصّ رانيا، فلقد طردَها أقاربنا مِن بيتهم بعد أن تمكّنَت مِن خلق مشاكل بينهم ولهم، فراحَت تسكنُ لوحدها. ولأنّها لَم تعُد قادرة على مُمارسة شرّها على أحَد، أصابَتها حالة نفسيّة شبيهة بالجنون. عادَت أختي إلى البلد وإلى البيت مكسورة. ومِن حسن حظّي أنّني كنتُ قد تزوّجتُ وأسكنُ بعيدًا مع زوجتي الحبيبة. رأيتُها مرّة واحدة وكلّ ما قالَته لي كان: "أعِد لي الدفتر"، لكنّني كنتُ قد رمَيتُه لكثرة اشمئزازي مِن مُحتواه ولأنّني لَم أعُد بحاجة له للدفاع عن نفسي. صارَت رانيا مُتعلّقة جدًّا بأهلنا وبالبيت الذي لَم تعُد تُغادره، وهي حاولَت خلق خلاف بين أبوَينا لَكنها لَم تفلَح في ذلك فانطوَت على نفسها أكثر. اليوم رانيا إنسانة تائهة في عالمها وبالكاد تُخالطُ أحدًا. هي تعمل عن بعُد لدى مؤسّسة، أيّ أنّها لا تُخالطُ سوى حاسوبها. لكنّ أمّي أخبرَتني أنّ رانيا تدخُل على مواقع التواصل الاجتماعيّ بعد أن خلقَت لنفسها صفحات وهميّة حيث تُنكِّلُ بالناس وخاصّة المشاهير، وتُطلق حولهم الإشاعات البشعة. هل أنّ رانيا ستستعيد نشاطها الشريّر وتعود كما كانت، أي إنسانة تعيشُ مِن خوف الناس منها وسيطرتها على حياتهم؟ ألطُف يا رب!
حاورته بولا جهشان