مع انتشار السيلفي، صارت الأنا في الطليعة وبات الظهور من أفضل الأفعال... إنها نرجسية متجددة في هذا في العالم الخيالي والبصري الجديد!
بالنسبة للبعض، ومن بينهم الفيلسوف بيركلي، "أن يوجد المرء يعني أن يكون مرئيّاً". نحن نعيش في خضمّ حضارة الصورة ولا يمكننا التغاضي عن المظهر لأنّه تجسيد لصورة الذات – أمّا عكس ذلك فيعني الاختفاء! في الماضي، كان غياب الصورة مرادفاً لفناء الوجود. واليوم جاءت السيلفي كطريقة للتعبير سهلة وعفويّة مرتبطة مباشرةً بالذات البصريّة، وهي تطرح الأسئلة حول أهمّية الجسد وديكتاتوريّة المظهر.
أنا تصورت، إذا أنا موجود
تبقى صورة السيلفي بحدّ ذاتها نشاطاً عاديّاً للفرد الذي، بواسطة التصوير، يأمل تحديد نفسه في الزمن، في لحظة محدّدة يعيشها. تسمح له الإمكانيّات التي تقدّمها التكنولوجيا الرقمية بالتقاط صور عديدة وفي كلّ الأوقات بغية الاعتراف بوجوده من خلال نظرة الآخر وإقراره بشخصه. تبقى هذه الممارسة، إن طُبّقت باعتدال، بمثابة اكتشاف شخصي وهذا يدفعنا إلى التساؤل عمّا إن كنّا نرى الأمور بشكل صحيح في عالم الشاشات والمضامين الإلكترونية، حيث تحظى كلّ صورة على ما يبدو بطبيعة قويّة وجذّابة. "ما إن أرى نفسي في عدسة الكاميرا حتّى يتبدّل كلّ شيء: أستعرض على الفور وأفبرك جسماً آخر وأتحوّل مسبقاً إلى صورة"، هذا ما نقرأه في La Chambre claire. Note sur la photographie للأديب رولان بارت.
إخراجٌ ذاتي
يكمن الهدف الأول للسيلفي في تنفيذ كليشيه يعطي صورة عن الذات نحبّ أن ننقلها للآخرين. لذا، صرنا نجد على قنوات YouTube أو Dailymotion دروساً تعلّم كيفيّة التقاط سيلفي "جيّدة". "بما أنّ الصورة لا تستطيع أن تُظهرنا كما نظنّ أنفسنا، لا يسعنا سوى استعمال تلك القدرات لكي نحاول أن نرى أنفسنا كما نرغب"، حسب ما يؤكّده الطبيب النفسي سيرج تيسرون. إنّ السيلفي مرادف لامتداد ثقافة الصورة والآنية المسموح بها في التواصل. لا بدّ من إثارة إعجاب أكبر عدد ممكن من الناس وذلك في أسرع وقت. وهذا مسلك يذكّرنا بمعايير المنتج الإعلاني. إنّ السيلفي، تماماً مثل رسوم الذات (تصوير، رسم أو نحت)، لا تجسّد صورتنا كما هي في الحقيقة. وإنّ استحالة تقديم تجسيد موضوعي تسمح بالتالي بإمكانية تقديم إخراج كلّي عن الأنا. وفي هذه الممارسة تبدو السيلفي مؤثّرة جداً وتؤدّي أحياناً إلى تحكّم حقيقي بالذات على غرار صورة الغرض الإعلاني.
استراتيجية الرؤية
في حقبة Cloud وانتشار المعلومات على الانترنت، صار الإنسان متنبّهاً لصورته على الشبكة، وفي هذا الإطار تندرج صور السيلفي في خانة النزعة الأوسع، نزعة "البحث عن الذات عبر الانترنت"، حسب تحقيق نشرته Microsoft وIpsos أواخر 2014. هكذا، بحث 71% من الفرنسيّين عن أسمائهم على موقع للبحث الإلكتروني. وإن كان نصف عددهم قد فعل ذلك بدافع الفضول فقط، قام شخص من خمسة بذلك للتأكّد من أنّه ما من شيء مسيء عنه على الانترنت. هكذا فإنّ البحث عن الذات على مواقع البحث الإلكترونية هو في معظم الأحيان ممارسة مرتبطة بهدف مهني. في الواقع، أزال ثلث المشاركين في التحقيق معلومات تخصّهم عن الانترنت. وفقاً لآن-صوفي دوبوس، مديرة تسويق Europe de Bing، ليست ظاهرة السيلفي على مواقع البحث الإلكترونية على الموضة، بل هي تترجم على العكس ميلاً لاحترافية مستخدمي الانترنت، مثل الشركات والماركات. حتّى الساعة، يبقى التسويق الشخصي مخصّصاً للمشاهير ويضع استراتيجيات للرؤية عبر الانترنت لا بل يعمل على مضاعفة وجود النجوم على وسائل التواصل الاجتماعي الأقوى إذ يعتنون بالمعلومات الخاصة بهم كما بصورهم وفيديوهاتهم وذلك بغية التغلّب على منافسيهم في سباق نتائج البحث والوصول إلى المرتبة الأولى.
الفضول بوجه مكشوف
من خلال نشر السيلفي، يعمل كلّ شخص على شبكته الخاصّة ويجدّد رصيده الرقمي، فحتّى صور أشخاص غير معروفين تبقى مطلوبة. وفقاً لدراسة قامت بها Georgia Tech، تحظى الصور التي تظهر فيها وجوه بنجاح أكبر على إنستغرام وتحصد 38% من "علامات الإعجاب" أكثر من الصور التي لا تظهر فيها وجوه. ويشرح الباحث Saeideh Bakhshi من Georgia Tech: "نحن ننجذب بشكل طبيعي إلى الوجوه (...). نحن نحب الاحتكاك الاجتماعي ورؤية غيرنا من الناس – فهذا يريحنا ونحن فضوليّون كثيراً!".
نار تنطفئ أم شعلة تتوهّج؟
صحيح أنّ السيلفي قد انتشرت كما تنتشر النيران في كومة من القشّ لكن يصعب علينا أن نتوقّع متى تنطفئ، وبأيّ سرعة! "هل سيكون هناك مزيد من السيلفي في المستقبل؟"، تتساءل صحيفة Libération. "يؤكّد البعض، في ما يخص موجة السيلفي، أنّنا ما زلنا في العصر الحجري الأخير ليس إلاّ، وأنّ ملايين الصور ستجتاح الشبكات. وفي ظلّ مئة عام تقريباً ستشكّل أعداد السيلفي أرشيفاً هائلاً للتفاصيل الأدقّ في الحياة اليوميّة، كما يضيف الناقد الفنّي جيري سالتز. تخيّلوا ما كنّا سنراه لو كان عندنا ملايين صور السيلفي في شوارع الإمبراطوريّة الرومانيّة؟! وماذا سيحدث مع انتشار موجة 3D المقبلة؟ سيصبح كلّ شخص قادراً على مسح صورته في المنزل وطبعها على شكل صورة منحوتة. بالتالي يعجّ العالم بالمجسّمات مع نوع نحتي جديد وعنصر فنّي حديث"!
مع أم ضدّ؟
ركّز العديد من الدراسات على الشغف حيال صور السيلفي. بالنسبة للبعض إنّها ظاهرة مسيئة ومرادفة للنرجسيّة المزعجة كما توحي أعمال عالمة النفس الهولنديّة كريستينتجي فان غالاغير التي تقول "إنّ الأشخاص المدمنين على السيلفي يقيّمون مستوى رفاهيّتهم الاجتماعيّة استناداً إلى عدد "علامات الإعجاب" التي تحظى بها صورهم. من خلال استعمال تطبيقات تنقية الصورة وغيرها من التقنيات الأخرى، يسعون إلى فبركة صورة مثاليّة عن أنفسهم، بينما الحياة الواقعيّة تخلو من الفوتوشوب!". في المقابل، بنظر البعض الآخر، لصور السيلفي القدرة على أن تكون وسائل تُرجع الثقة بالنفس وتساعد على استرجاع حبّ المرء لذاته. "على فايسبوك، يراقب المرء غيره من خلال رصيده الخاص، كما تذكر فاني جورج، أستاذة محاضرة في مجال علوم التواصل في جامعة باريس 3. بالتالي يكون الإنسان في ذات شاملة، تتجزّأ من خلالها تجسيدات الآخر كما لو أنّها كانت تسهم هي أيضاً في تكوين صورة الذات". يجد آخرون في هذا الولع حيال السيلفي ردّة فعل على العالم المصطنع المحيط بنا. وفي إطار السيلفي، تؤكّد نتائج تحقيق أخير لـNikon/Opinion Way، على رأي الناس: 75% يفضّلون السيلفي الطبيعية أي أن يظهر الناس في الصورة على طبيعتهم كما هم في الحياة اليوميّة. وتصوّت النساء للبساطة إذ إنّ 81% منهنّ يفضّلنَ الصور الطبيعية مقابل 69% من الرجال.
"إنّ صورة الذات هي على الدوام انعكاس في مرآة، لكن في هذه الصورة يمكن القول إنّ المرآة قد اختفت، والرسّام موجود بالفعل"، كما قال جوليان غرين. وإن أردنا التوسّع من هذه النقطة نقول إنّ السيلفي هي مرآة العصر الحديث، في هاتف ذكيّ. فتأخذ الزاوية والتعبير عن اللحظة الآنيّة وعدد الأصدقاء على الشبكة دور الرسّام الغائب عن اللوحة!
أنطوان ضاهر