كنتُ قد صرتُ مِن أشهر صانعي الحلوى الغربيّة، بعد أن تخصَّصتُ في الخارج ونِلتُ شهادات عديدة علّقتُها بفخر على حائط محلّي. زبائني كانوا مِن شتّى الطبقات الإجتماعيّة إذ صمَّمتُ على إعطاء فرصة تذوّق إبتكاراتي لكلّ الناس وحسب إمكاناتهم. لكنّ مُعظمهم كانوا مِن الطبقة المُخمليّة، واتّكلوا عليّ لمُناسباتهم المُهمّة، كالأعياد والأفراح. كنتُ آنذاك عازبًا لكثرة إنشغالي بتكوين نفسي والإستمرار بنجاحي. وبالرّغم مِن أنّ أكثريّة زبائني كنّ مِن الجنس اللطيف، لَم تستقطِب اهتمامي أيًّا منهنّ... سوى واحدة. ولأنّني لَم أكن أعرفُ إسمها أسمَيتُها دلال لكثرة جمالها ورقّتها.
كانت تلك الصبيّة تأتي في كلّ مرّة مع والدتها لإختيار قطعتَين مِن الحلوى لا أكثر، ربّما لأنّ الإمكانات لَم تسمح بذلك. وعدتُ نفسي بأن أُخاطِر يومًا بالتحدّث مع "دلال" بأمور بعيدة عن الكريما والشوكولا، إلا أنّ زياراتها وأمّها كانت قليلة وبعيدة عن بعضها.
وفي أحد الأيّام، أطلَّت "دلال" إلى محلّي لكن ليس مع أمّها بل برفقة رجُل. رجوتُ أن يكون ذلك الشخص والدها أو خالها أو عمّها بسبب سنّه، لكنّ تصرّفاته معها كانت تدلّ على أنّه مُهتّم بها عاطفيًّا. حزِنتُ للغاية ولِمتُ نفسي كثيرًا، إذ أنّني كنتُ أكثر وسامة ورشاقة مِن ذلك الإنسان. هل كانت "دلال" أيضًا مُهتمّة به؟ ركّزتُ على ملامح الصبيّة وحركاتها، وتبيّنَ لي أنّها مسرورة برفيقها لا بَل تبعثُ له إشارات إيجابيّة. ماذا وجدَت فيه؟ ما كان ينقصُني عنه؟ هل لأنّني لَم أُفصِح لها عن نوايايَ؟
إشترى الرجُل ستّ قطع مِن الحلوى الفاخرة، وأخرجَ مِن جَيبه رزمة كبيرة مِن المال. إنزعجتُ مِن إبرازه هذا المبلغ، فكأنّه يُريدُ إثبات امكاناته المادّيّة لي أو لـِ "دلال". وخرَجَ الثنائيّ مشبوكَي اليدَين، وقرّرتُ أنا نسيان أمر حبٍّ لن يرى النور.
بعد حوالي الشهرَين، عادَت "دلال" مع الرّجُل نفسه، وأعلنا لي عن نيّتهما الزواج، وكان ذلك بالتحديد سبب مجيئهما إلى محلّي. فقد أرادَ العريس إختيار قوالب الحلوى للزفاف، فأرَيتُه الكتالوج الذي يحتوي على صوَر وأسعار كلّ إبتكاراتي. عندها قالَ العريس لرفيقته:
ـ حبيبتي، إختاري بنفسكِ ما تُريدين. لا تسألي طبعًا عن الكلفة.
ـ شكرًا حبيبي... كان بِودّي أن نضَع على كلّ طاولات المدعوّين قالبًا خاصًّا يُشبه القالب الكبير الذي سنقطعُه سويًّا.
ـ إفعلي يا حبيبتي... ولِما لا يكون قالبنا مؤلّفًا مِن سبعة طوابق؟
ثمّ استدارَ نحوي سائلاً إن كان ذلك مِن ضمن إمكاناتي فأجبتُه بالموافقة. بعد ذلك طلَبَ منّي أن أُعطيه تخمينًا للكلفة، فبدأتُ بالحسابات التي كانت باهظة. لكنّه قال لخطيبته: "حبيبتي... لا أُريدُ إحراجكِ أو إشغال بالكِ بأمور ماليّة... هل لكِ أن تنتظريني خارجًا ريثما أنتهي؟ لا، ليس بعيدًا بل خارجًا".
راحَت "دلال" تقفُ أمام واجهة المحلّ، مع أنّ المطر كان ينهَال بغزارة ولَم تكن تحملُ مظلّة. وفجأة، إقترَبَ منّي الرجُل وهمَسَ لي:
ـ إنسَ كلّ ما قُلناه... أقصدُ عن القوالب على طاولات المدعوّين أو قالبنا ذي الطوابق العديدة.
ـ لماذا يا سيّدي؟
ـ أريدُ قالبًا واحدًا فقط مؤلّفًا مِن طابق واحد... قالبًا عاديًّا للغاية مِن دون زينة أو مواد مُعقدّة.
ـ لكنّكَ وعَدتَ الآنسة...
ـ قالب واحد كثير عليها! ماذا تخالُني هي؟ مصرفًا مُتحرّكًا؟!؟ هيّا، أعطِني الفاتورة قبل أن تشكّ خطيبتي بشيء!
بدأتُ أغلي مِن الغضب لكنّني لَم أقل شيئًا، أوّلاً لأنّ ذلك لَم يكن مِن شأني، وثانيًّا لأنّني كنتُ صاحب محلّ وعليّ البَيع وعدَم إزعال الزبائن. على كلّ الأحوال، إختارَت "دلال" عريسها بنفسها وعليها تحمّل تداعيات هذا الإختيار.
لكن في اليوم التالي، بدأ ضميري يؤنّبُني كثيرًا. فارتأيتُ أنّ عليّ إخبار تلك العروس بأنّ عريسها رجُل بخيل وماكر ولا يحترمُها على الإطلاق، ليس لأنّني أُريدُها أن تعدل عن زواجها لِتُحبّني أنا، بل لأنّ بسكوتي سأصبحُ شريك ذلك الإنسان البغيض. لكن كيف لي أن أُنبّهها مِن دون أن أعرف إسمها أو رقم هاتفها؟ فكّرتُ بأن أتّصل بالعريس بحجّة الاستفسار عن القالب الذي أوصى عليه، لكن كيف أحملُه على إعطائي رقم خطيبته مِن دون أن يشكّ بشيء؟ إحترتُ في أمري كثيرًا، خاصّة أنّ موعد الزفاف باتَ قريبًا للغاية.
وإذ بي أرى بعد يومَين أمّ "دلال" مارّة في الشارع قرب واجهة محلّي، فركضتُ خارجًا ولحِقتُ بها لاهثًا وقلتُ لها:
ـ سيّدتي... سيّدتي! هل لكِ أن تُعطيني رقم هاتف إبنتكِ العروس؟
ـ أنتَ قلتَها: إبنتي العروس! لِذا لن أُعطيكَ رقمها! يا لوقاحتكَ!
ـ لا، لا... أعني أُريدُ أن أسألها عن زينة قالب الفرَح.
ـ إتّصل بالذي سيُصبحُ زوجها ودَع إبنتي وشأنها!
وهكذا إستسلمتُ، فليَحصل ما سيحصَل! وهل أنا وليّ أمر "دلال"؟
أوصلتُ قالب الحلوى المذكور إلى الصالة حيث سيُقام فرَح التي شغلَت فكري، ونسيتُ أمرها داعيًا لها ضمنًا بالتوفيق والسعادة. كنتُ أعلَم في قرارة نفسي أنّها ستكون تعيسة في زواجها، لأنّ عريسها رجُل ماكر وأنانيّ وهي إنسانة لطيفة ومُهذّبة.
مرَّت السنوات وكنتُ بالفعل نسيتُ "دلال" وزوجها مع أنّني لَم أتزوّج. كنتُ أعلَم أنّ تلك الصبيّة لَم تكن السبب بعزوبيّتي بل فعلاً إنشغالي بعملي. وذات يوم، دخلَت محلّي سيّدة تمسكُ ولدًا بِيَده، وطلبَت قطعة حلوى واحدة لِتتقاسمها مع الصغير. في البدء لَم أتعرّف إليها بسبب ملابسها القديمة والبشعة، وشعرها غير المُصفّف والهالات السوداء حول عَينَيها. لكن حين أعطَيتُها الحلوى وهي إبتسمَت لي، تعرّفتُ إلى بسمتها. فصرختُ عن غير قصد: "دلال!".
نظرَت إليّ المرأة بتعجّب فقلتُ لها:
ـ عفوًا سيّدتي... لا أعرفُ إسمكِ لِذا اخترتُ لكِ إسمًا بنفسي... كنتِ تأتين إلى محلّي مع السيّدة الوالدة.
ـ أجل، كان ذلك قبل...
ـ قبل زواجكِ. أتذكّر جيّدًا يوم جئتِ وعريسكِ مِن أجل قوالب الحلوى.
ـ قالب الحلوى!
ـ صحيح... أرجو أن تكوني سعيدة بزواجكِ.
إمتلأت عَينا "دلال" بالدموع، وأسفتُ على سؤالي فأهدَيتُ الصغير كيسًا مِن السكاكر. شكرَتني أمّه وتوجّهَت معه نحو الباب. صرختُ لها:
ـ عودي بولدكِ في الأسبوع المُقبل، لدَيّ حلوى جديدة أريدُه أن يتذوّقها.
ـ سأفعل... شكرًا.
ـ سؤال أخير... واعذري وقاحتي... ما إسمكِ سيّدتي؟
ـ دلال.
خرجَت السيّدة مع ولدها، وسألتُ نفسي إن كان بالفعل إسمها دلال أم أنّها أحبَّت الإسم الذي اخترتُه لها. ووعدتُ نفسي بأن أعرف الجواب حين تعود بعد أيّام.
تفاجأتُ بنفسي لكثرة التفكير بدلال وانتظارها على أحرّ مِن الجمر. ماذا كنتُ أنتظرُ منها؟ فهي كانت زوجة وأمًّا.
مرَّت الأيّام ببطء، ودخلَت دلال أخيرًا محلّي لكن مِن دون إبنها، فقدّمتُ لها الحلوى الجديدة فأحبَّتها كثيرًا. ثمّ نظرَت إليّ وقالَت:
ـ يا لَيتني... يا إلهي كيف أقولُ لكَ ذلك... حسنًا سأتكلّم، فليس لدَيّ ما أخسره الآن.
ـ كلّني آذان صاغية.
ـ قبل أن أتعرّف إلى الذي تزوّجتُه كنتُ... كنتُ مُعجبة بكَ.
ـ ماذا؟!؟ ولماذا لَم تقولي لي شيئًا؟
ـ أوّلاً لأنّني لَم أعرِف موقفكَ مِن الموضوع، وثانيًا بسبب وجود أمّي معي. وثالثًا...
ـ
نعم؟
ـ قالوا لي إنّ العريس شهم وكريم... وثريّ.
ـ كانت المُغريات كثيرة، أليس كذلك؟
ـ للحقيقة أمّي إنسانة صارمة لا تقبل النقاش ولقد تعوّدتُ أن أُطيعَها.
ـ أغرَتكِ أمواله، إعترفي بذلك.
ـ إنّه مزيح مِن مُعطيات عديدة... نصيبي أن أتزوّج مِن ذلك البغيض والأنانيّ والبخيل... فهو يعتبرُني مُلكه ولا يهتمّ سوى بنفسه... لا يُحدّثني سوى لِطلب يخصُّه، ولا يُعطيني مصروفًا بل يأتي بالمشتريات بنفسه. إضافة إلى ذلك، زوجي يغارُ عليّ لِدرجة أنّني صرتُ أكذبُ عليه لأقصد أهلي. حين جئتُ إلى هنا الأسبوع الفائت، أردتُ إطعام إبني قطعة حلوى، الأمر الذي لَم يحصل مِن قبل، وتذكّرتُ محلّكَ وأيّام ما قبل الزواج. فقلتُ لزوجي إنّني سأصطحبُ الصغير إلى الطبيب بعد أن أخذتُ المال اللازم مِن جارتي. هكذا هي حياتي!
ـ أنا آسف مِن أجلكِ يا سيّدة... دلال. هل هذا حقًّا اسمكِ؟
ـ لا... بل أحبَبتُه حين خرَجَ مِن فمكَ في المرّة السابقة... وأعجبَني أن تُعطيني إسمًا كهذا... البارحة حاولتُ تصوّر كيف كانت لتصبحَ حياتي لو صارحتُكَ بمشاعري آنذاك. هل كنتُ سأكون سعيدة؟ وحده الله يعرفُ الجواب.
ـ عودي في الأسبوع القادم.
ـ ولِما أفعل؟ ليس هناك مِن جدوى. إضافة إلى ذلك أنا سيّدة شريفة و...
ـ لا! لن أطلبَ منكِ شيئًا، بل فقط أن تزوريني بين الحين والآخر... واجلبي معكِ إبنكِ لو استطعتِ. أحبُّ رؤية الفرَح في عَينَي الأولاد حين يغرسون أسنانهم في حلوَتي.
ـ حسنًا
يتبَع...