لم أكن يوماً تلميذاً فالحاً لِذا تركتُ المدرسة باكراً وذهبتُ أعمل مع قريب لنا في محل لِلعب الميسر. كانت مهمّتي سهلة أي أنّني كنتُ أنظّف المكان وأحضّر القهوى والمشروب بينما كان اللاعبين يصرفون مالهم ومال عائلاتهم في غضون دقائق. وكان قريبي رجلاً مسنّاً ووحيداً بعدما ماتت زوجته دون أن تنجب. لِذا بعد حوالي العشر سنوات على قدومي إليه قرّرَ الرجل أن يتقاعد ويترك لي زمام الأمور. وأستطعتُ إدارة الأعمال لأنّني كنتُ وبالفطرة أعلم كيف أساير الزبائن وأحسب المصاريف والأرباح.
وهكذا أصبح المحل يعجّ بالرجال خاصة بعدما جذبتُ إليه فئة جديدة: الشبّان. ولم أفكرّ يوماً كم أنّ عملي كان يسبّب التعاسة والفقر والمشاكل العائليّة لأنّني إعتبرتُ دائماً أنّ لا أحد يجبر الناس للقدوم والمقامرة بِما يملكونه.
أمّا حياتي العاطفيّة فكانت معدومة لأنّني كنتُ أنام خلال النهار وأسهر الليل في المحل فلم يكن يتسنّى لي التعارف إلى أحد خاصة إن كنتُ أريد فتيات محترمات. ولكنّ القدر شاء أن تمّر ماجدة بِقرب المحل في تلك الليلة الممطرة وأن تدخل طالبة العون بعدما توقّفَت سيّارتها فجأة. وركضتُ أساعدها ولكنّني لم أكنّ متمرّساً في الميكانيك لِذا طلبتُ لها سيّارة إجرة ووعدتُها أن أكون موجوداً في صباح اليوم التالي عندما تعود لِجلب المركبة.
وبالطبع جمال تلك الفتاة وحده هو الذي ساعَدَني على الاستفاقة بعد ساعات قليلة مِن النوم. وحين وصَلَت مع الميكانيكيّ كنتُ واقفاً أمام المحل وعلى وجهي ابتسامة عريضة فخور بأنّني نفّذتُ وعدي لها. وشكَرَتني ماجدة وسألَتني عمّا أفعله في المحل فأجبتُها أنّني أديره.
عندها قالت:
ـ ألاّ تعلم أنّه مِن الحرام أن يلعب المرء بِماله؟
ـ أنا لا ألعب بِمالي بل أجنيه.
ـ صحيح ذلك ولكنّكَ تجنيه بالحرام... أنتَ شاب لطيف ولولا مهنتكَ...
ـ مهلاً! آنسة ماجدة... كيف أقول هذا... ليس لدَيّ خبرة في النساء أو في الحبّ... قضيتُ عمري هنا محاطاً بالرجال ودخان السجائر والمشروب ولكنّني مِن عائلة محترمة... أبي موظّف في شركة وأمّي عمِلَت جهدها لتربينا بأفضل طريقة... ولكنّني لم أكن فالحاً بالمدرسة لا لأنّني أفتقد إلى الذكاء ولكنّ المناهج التقليديّة لم تناسبني... وأنا متأكّد أنّني قادر على التغيير لو وجدتُ مَن يقف إلى جانبي ويساعدني. لدَيّ شقّة جميلة في منطقة راقية وقطعة أرض مليئة بالأشجار المثمرة ولدَيّ سيّارة فخمة تثير أعجاب الجميع... كل ذلك سيصبح يوماً أيضاً ملك حبيبتي.
ـ حتى لو كان كلامكَ صحيحاً وحتى لو قبلتُ أن أتعرّف إليكَ أكثر فهذا لن يعجب أهلي... هم أناس أتقياء يخافون الله ويعيشون حسب تعاليمه.
ـ سأثبتُ لكِ ولأهلكٍ أنّني أنسان شريف... ماذا قلتٍ؟
سكَتَت ثم قَبِلَت أن تعطيني فرصة لأريها إن كنتُ جادّاً.
لماذا قرّرتُ أن أغيّر حياتي مِن أجل ماجدة بالذات؟ لأنّني وكما ذكرتُ سابقاً لم أتعرّف يوماً على فتاة ولأنّها كانت جميلة وذات شخصيّة قويّة ولأنّني في قرارة نفسي لم أعد أحب أدارة ذلك المكان الفاسد. صحيح أنّني كنتُ أجني الكثير واستطعتُ خلال سنوات قليلة إنجاز ما يتطلّب سنين عديدة مع غيري لأنّني إضافة إلى الراتب الذي كنتُ أتقاضاه كنتُ أخذ نسبة مِن الأرباح. ولكنّني كنتُ أعلم ضررَ الميسر وتداعيّاته على الحياة الشخصيّة والعائلية. فالمقامر يخاطر بكل قرش لدَيّه حين يخسر ظانّاً أنّ الحظ سيعود إليه إن واصَل المحاولة وسيستعمل راتبه ومجوهرات زوجته والمال المخصّص لِمدارس أولاده أو حتى للمأكل والمشرب. ولو نظرَ حوله لرأى الأذى الذي يسبّبه لأحباّئه.
وبدأتُ أخرج مع ماجدة وأحببتُها كما يحب مَن لم يحبّ مِن قبل وبالطبع عرضتُ عليها أن نرتبط لِمدى الحياة. وبعد فترة تفكير طويلة سألَتني:
ـ سأتزوّجكَ ولكن... كيف سنعيش؟ هل لديكَ عملاً آخراً أم سنموت جوعاً؟
ـ بالطبع لا... صحيح أنّني لا أملك أي شهادة علميّة وأنّني لم أعمل في حياتي إلاّ في ذلك المحل ولكنّني سأجد مورد رزق شريف... أريدكِ أن تفتخري بي.
وبدأتُ بالتفتيش عن أي شيء حتى ولو كان وضيعاً ولكنّني لم أجد أيّ عمل يؤمّن لنا حياة محترمة. وبما أنّ كان لدَيّ بعض المال في حسابي المصرفيّ رأيتُ أنّ المبلغ سيكفينا ولو لأوّل فترة. وطمأنتُ ماجدة بأنّها لن تحتاج إلى شيء وتزوّجنا وقدِمَت لِتعيش في شقّتي.
وبعد فترة ليست بِطويلة صرفنا كل المال الذي في حسابي وهذا بِسبب مصروف زوجتي القويّ. فكانت ماجدة تحب الأشياء الجميلة ولا تتردّد في شراء كل ما تتمنّاه نفسها. ولم أقدر على منعها مِن ذلك لأنّني كنتُ أعلم أنّها ستقول لي:"جِد عملاً إذاً." ولم أجد حلاً سوى بَيع قطعة الأرض التي تساوي الكثير. وقبضتُ ثمنها وأشترَت زوجتي لِنفسها سيّارة جميلة ومجموعة حلى وثياب أنيقة. ولكن كما في المرّة الأولى نَفَذَ المال.
عندها وقعتُ في حيرة كبيرة فلم يعد لدَيّ شيء أبيعه سوى سيّارتي والشقّة التي نسكن بها. ولم يكن وارداً أبداً أن يحصل ذلك فعاودتُ البحث عن عمل. ووجدتُ وظيفة كحارس ليليّ في مبنى ضخم. وتفاجأتُ أنّ ماجدة لم تجد الأمر مزعجاً بالرغم أنّها كانت ستبقى لِوحدها خلال الليل بل قالت لي:"هذا جيّد... عليكَ أن تأتي لنا بالمال... لن أسمحَ لأحد بأن يجوِّعَني."
وكان عملي الجديد ممّلاً جدّاً ومتعباً لأنّني كنتُ أبقى جالساً على كرسيّ طوال الوقت ولكنّني صبرتُ إرضاءً لِزوجتي ووفاءً لِوعدي لها. وبالرغم مِن راتبي لم أستطع إعطاء ماجدة مستوى الحياة التي تعوّدَت عليه في بدء زواجنا فاقتَرَحَت أن أبيع سيّارتي:
ـ لستَ بحاجة إليها حبيبي... فأنتَ تنام في النهار وتذهب إلى العمل في الليل ويمكنكَ أخذ الباص أو حتى المشي على الأقدام.
ـ أو نبيع سيّارتكِ أنتِ!
ـ ماذا؟ تبيع سيّارة زوجتكَ؟ أيّ رجل محترم يفعل ذلك؟
بعتُ مركبتي لأنّني كنتُ أشعر بالذنب بِسبب فشَلي وندمتُ كثيراً أنّني تركتُ المدرسة باكراً لأنّني كنتُ وجدتُ عملاً مربحاً لو لم أفعل. ولكثرة حبّي لِزوجتي لم أرى طمعها وعدم شفقتها بل حسبتُها على حق بكل الذي كانت تقوله أو تفعله. ولم يخطر على بالي أنّه كان بإمكانها العمل لِتساعدني خاصة أنّها كانت هي التي تصرف مالنا كلّه.
وبدأنا نتشاجر حول كل شيء وباتَ جوّ البيت متشنّج بإستمرار فقرّرتُ أنّ عليّ التوقّف عن العمل ليلاً وبدأتُ أتوسّل الناس ليوظّفوني. ووجدتُ شركة تهتمّ بِنقل أثاث البيوت وأصبحتُ أحمل أوزاناً ثقيلة على أكتافي طوال النهار وأعود منهكاً إلى المنزل. وفي تلك الفترة كنتُ على وشك الإستسلام إلاّ أنّني فكرّتُ في بيع الشقّة التي نسكن بها وشراء أخرى أصغر حجماً ولكنّ ماجدة عارضَتني وبقوّة:
ـ ماذا؟ هل فقدتَ عقلكَ؟ هذا كل ما تبقّى لنا! سأترككَ إن بعتَ المنزل!
ـ ولكنّني تعِبت... لا يرضيكِ شيء... لا أريد أن أخسركِ ولكنّني أعمل كل ما بِوسعي... ربما مِن الأفضل أن ترحلي...
وأظنّ أنّ هذه الجملة هي التي أثَّرت على باقي الأحداث.
ففي ذاك يوم عندما عدتُ مِن العمل مليء بالغبار والتعرّق تفاجأتُ بإيجاد رجال عندنا في البيت. نظرتُ إلى زوجتي بِتعجّب فأخذَتني بِسرعة إلى المطبخ. عندها همسَت لي:
ـ هؤلاء جاؤوا للِعب الورق.
ـ ماذا؟ لعب المَيسر هنا في البيت؟ ومِن أين أتيتِ بهم؟
ـ إسمع... لم يعد لدينا مالاً ولا أطيق العيش هكذا! أدخل الصالون وضَع الطاولة في الوسط وقُم بما قمتَ به طوال حياتكَ!
ـ لطالما قلتِ أنّكِ تكرهين لعب الميسر وأنّه شيء سيّء! ما الذي غيّرَ مبادئكِ هكذا؟
ـ أريد مالاً! ما بكَ لا تفهم! هيّا!
ونظرَت إليّ بِغضب ورأيتُ في عينَيها الشرّ. كنتُ قد عاشرتُ طوال حياتي كل أنواع الناس القليلين الشرف ولكنّني لم أرَ في حياتي هذا الكمّ مِن الجشعَ والقبح. وأدركتُ أنّني لم أحاول ولو مرّة معرفة مَن هي بالفعل زوجتي بل أسرعتُ بالزواج منها فقط لأنّني أُعجبتُ بها. وبالرغم مِن تعَبي في الأعمال التي قمتُ بها مؤخّراً كنتُ سعيداً أنّني أبتعدتُ عن عالم الميسر والربح المريح وفخوراً بِنفسي لهذا التغيير الكبير.
وأنتظرتُ مِن ماجدة أن تدعَمَني وتشجعّني ولكنّها بقيَت تحطّمني وتأخذ كل ما أجنيه لِنفسها دون أن تفكّر بالذي أمرّ به. عندها أخذتُ نفساً عميقاً ودخلتُ الصالون وطردتُ الموجودين. وعندما رحلوا قلتُ لِزوجتي:"حان دوركِ بالرحيل."
لم تجِب بل أخَذَت أمتعتها ومجوهراتها وتركَت البيت. وفي اليوم التالي وضعتُ المنزل بِرسم البيع وحين تمّ البيع ذهبتُ أشتري شقّة أصغر. وبِباقي المال فتحتُ محلاً صغيراً في شارع مكتظ بالسكّان أبيع فيه مستلزمات للمنازل.
وفي كل مساء عندما أقفل محليّ أبتسم لأنّني ربحتُ رزقي بِشرف.
لم أفكّر يوماً بِماجدة أو حتى بالندَم عليها. أنا اليوم مشغول بِتلك الفتاة الجميلة التي تأتي إلى محليّ كل يوم لِتشتري أشياء ليست بِحاجة إليها. أعلم أنّها تأتي لِتراني ولكنّني أتروّى لأتأكّد منها ومِن مشاعري تجاهها. لِما العجلة؟ فالحياة أمامنا.
حاورته بولا جهشان