أتذكرّ جيّداً جدَّتي وهي تقول لِمَن أودَّ سماعها أنّه إذا إجتمعَت الأراء حول أحد فلا بدّ أن يكون ذلك صحيحاً. ولأنّني كنتُ صغيرة وهي كبيرة في السنّ وقلتُ لنفسي أنّها مِن جيل قديم إعتادَ على لإكتراث لكلام الناس وأنّ للنفس البشريّة أوجه عديدة تجعل مِن كلّ منّا إنساناً فريداً لا يشبه الآخر ولا يمكن فعليّاً لأحد أن يحكم بِموضوعيّة على الآخر دون أن يظلمه ولو بعض الشيء. ولكنّ العجوز كانت على حقّ كما كنتُ سأكتشف لاحقاً خاصة بعدما تعرّفتُ إلى عماد وأُعجبتُ به مِن أوّل نظرة.
كنتُ في ذلك الوقت في الرابعة والعشرين مِن عمري وكنتُ أقضي فرصة نهاية الأسبوع عند خالتي في الجبل. ودَخَلَ عماد ليرى يوسف إبن خالتي الذي كان صديقه منذ الطفولة. وتلاقَت عيوننا وإحمرّ وجهي وقالَ لي الضيف: "ومَن تكونين أنتِ ولماذا لم أرَكِ مِن قبل؟" عرّفتُه على نفسي وشرحتُ له أنّني لا أزور خالتي إلا نادراً بسبب بُعد المسافة فأجابَ: "أظنّ أنّكِ مِن الآن فصاعداً ستأتين إلى هنا دائماً." وضَحِكَ الجميع وجلسنا نستمع إلى أخبار أسفاره العديدة وكلّ ما حدثَ له مِن أشياء غريبة خلال زيارته الأخيرة لأوروبا. فكان عماد تاجر أقمشة يوزّع الحرائر للمصمّمين العالميّين ويقبض ثمن بضاعته غالياً لجودتها وجمالها. وكان بالطبع غنيّاً وكما تجري الحال عادة مع الإغنياء كان أيضاً واثقاً مِن نفسه ومعتاد للحصول على ما يريده وبسهولة. لِذا أعربَ علناً عن رغبته برؤيتي مجدّداً وبالرغم مِن سعادتي لِسماع ذلك شعرتُ بإنزعاج لدى خالتي وإبنها الذي جاوبَه: "سنرى ذلك..." وعندما رحلَ سألتُ خالتي عن سبب جواب إبنها فقالت لي:
ـ صحيح أنّهما أصدقاء ولكن عماد ليس مثل يوسف... شخصيّته مختلفة ووقاحته مزعجة أحياناً... لديه الكثير مِن المال وهو دائماً برفقة فتيات... لا أظنّ أنّه الرجل المناسب لكِ.
ـ ولكن... هل مِن مأخذ حقيقيّ عليه سوى أنّه غنيّ ويحبّ أن يتباهى بما وصَلَ إليه؟
ـ كلاّ... ولكن ألا يكفي هذا؟
ـ لا... على كلّ حال أرى أنّ عليّ إختباره بنفسي... الناس ليسوا دائماً كما نراهم.
ـ صحيح ذلك... ولكنّ الكلّ يقول أنّ عماد متشاوف ولا يقدّر شيء... حذاري منه.
ـ لا يهمنّي ما يقوله الناس... قد يخبّئ طبعه هذا قلباً مِن ذهب.
ـ وقد يعتبركِ نزوة مِن نزواته وتتأذّين بسببه.
ـ سأتحمّل المسؤوليّة.
وما شدَني إلى عماد إضافة إلى مظهره كانت ثقته بنفسه وثراءه الذي أعطاه جاذبيّة لا تقاوَم وكنتُ فخورة أن يكون قد أبدى إعجاباً بي ورغبة برؤيتي مجدّداً. وبما أنّه ترَكَ لي رقم هاتفه ليلة لقاءنا إستطعتُ الإتصال به لأقول له أنّني مستعدّة لرؤيته ساعة يشاء. وهكذا إلتقَينا مرّة ثم أخرى ثم العديد مِن المرّات وأمضَينا وقتاً لا تُنتَسى نضحك ونتسلّى ونأكل في أفخم المطاعم. وطوال ذلك الوقت بقيَ عماد إنساناً لطيفاً وودوداً ولم يحاول أبداً أن يستفيد مِن وجودي معه لوحدي فلم يمسك حتى يدي. وحين رأتنا جارتنا وأخبرَت أبي بالأمر قالت له أنّ إبنته برفقة رجل لا يتمتّع بسمعة جيّدة. عندها إنشغلَ بال والدي عليّ وبالرغم أنّه كان على علم بمواعدتي لِعماد حذّرَني منه ما أثارَ غضبي لأنّه سمعَ وصدّقَ كلام الجارة بالرغم أنّني طالما قلتُ لِمَن سَمِعَني أنّ عماد رجل محترَم ومهذّب.
عندها قرّرتُ أن أرى حبيبي سرّاً تفادياً للأقاويل. ولكنّ يوسف كان قد قرّرَ أن يراقب صديقه غير مطمئن على سلامتي معه وحين رأيتُه في إحدى المرّات يمشي وراءنا مختبأً قرّرتُ منعَه مِن ذلك. فإتصلتُ به وأنّبتُه بشدّة وطلبتُ منه أن يدعنا وشأننا وإلاّ أخبَرتُ عماد بالذي يجري. فكان جوابه:
ـ أخاف عليكِ منه... إنّه صديقي وأعرفه جيّداً... كنّا نخرج دائماً سويّاً حتى أنّني قرّرتُ أنّ حياته لا تناسبني... أنتِ لا تعرفينَه فهو لا يكترث لشعور أحد خاصة النساء... بالنسبة له أنتِ لعبة فقط...
ـ قد يكون هذا صحيح مع أنّني لا أصدّقكَ ولكنّ الناس تتغيّر....
ـ لا أحد يتغيّر إلاّ إذا أرادوا ذلك فعلاً... إسمعي كلامي فأنا أكبر منكِ سنّاً.
ـ سيتغَيّر لأنّه يحبّني.
ـ هل قالَ لكِ ذلك؟
ـ كلا... ولكنّني أشعر بعاطفته تجاهي... تصرّفاته معي تدلّ على إحترام شديد وأنا متأكدّة أنّه سوفَ يطلب يدي قريباً وحينها سيعلم الجميع أنّ نواياه تجاهي صافية... أرجو منكَ أن تكفّ عن ملاحقتنا فأنتَ تضايقني وستحملني هكذا على كرهكَ.
ـ لا! أرجوكِ لا تكرهيني!
وعندما قال ذلك فهمتُ أنّ يوسف يحبّني سرّاً. وفسّرتُ تصرّفاته الأخيرة بأنّه يغار مِن صديقه لأنّه أخذَ مكانه في قلبي. ولكنّني كنتُ سأكتشف حقيقة عماد بعد أقلّ مِن أسبوع على حديثي مع إبن خالتي. فكان حبيبي قد لاحظَ هو الآخر أنّ يوسف يراقبنا لذلك كان يتصرّف معي بتهذيب وعندما وجدَ أنّ الطريق أصبحَ سالكاً أطلقَ العنان لبشاعة نفسه التي نبّهَني عنها الجميع. وبالطبع لم أكن أحترِس مِن الذي أراني جانباً منه لا وجود له على الأطلاق فعندما دعاَني للعشاء في فندق جميل أسرَعتُ بالقبول. وحين وشكنا على الإنتهاء عَرَض عليّ أن أرافقه إلى غرفة كان قد أخذَها هناك. إستغربتُ لهذا الطلب الغير لائق ففسرَّ لي انّه يودّ الجلوس معي على إنفراد ليكلّمني بموضوع مهمّ جدّاً. وأوّل شيء خطَرَ على بالي طبعاً هو أنّه يوّد طلَبي للزواج ولم أفكّر انّه ليس بحاجة ليأخذني إلى غرفة فندق ليفعل ذلك. ولكنّني كنتُ مفتونة به ما حجَبَ عن عيوني ما كان بائناً للكلّ.
وصعدتُ معه وجلسنا سويّاً على السرير. ورغم نظراته المليئة بالحب والحنان إنتابَني شعور بالإنزعاج خاصة بعدما بدأ يقبّلَني. حاولتُ منعه ولكنّه أصرّ على ذلك قائلاً أنّ كل العشاق يفعلون ذلك وأنّه لا يجب عليّ التصرّف كالأطفال. عندها قبِلتُ معه ولكنّه بدأ يفكّ أزرار قميصي فصرَختُ له أن يتوقّف عن ذلك وذكرّتُه أنّني جئتُ معه لكيّ نتكلّم. عندها نظَرَ إليّ وضحكَ مطوّلاً وقال:
ـ أنتِ فعلاً ساذجة...
وقفَزَ عليّ كالوحش وبدأ يمزّق ثيابي ويردّد: "لقد إستنفذتِ صبري!" وكنتُ أودّ الصراخ إلاّ أنّه وضَعَ يده على فمي وخلتُ فعلاً أنّه سيغتصبني إلاّ أنّني سمعتُ خبطاً قويّاً على الباب وصوت يوسف يصرخ: "إفتح الباب! إفتح الباب وإلاّ حطّمته!"
عندها قامَ عماد عنّي وركضَ يفتح. وحين دخلَ إبن خالتي ورأى حالتي لَكَمَ المجرم بكل قوّته وأرداه أرضاً. ثم ركَضَ إليّ وأخذَني بيدي وسحبَني خارجاً قائلاً: "ألَم أقل لكِ؟" وبدأتُ بالبكاء لشدّة خوفي وندَمي وصعدتُ مع يوسف في السيّارة وقادَ بي بعيداً عن عماد. ثمّ أوقفَ المركبة وطلبَ منّي أن أرتّب ثيابي وأمسح دموعي قبلَ ان يوصلَني إلى البيت ووعدَني أنّ لا أحد سيعلم بالذي حصَلَ. ودخَلتُ المنزل ركضاً كي لا ينتبه إحد إلى حالة هدومي وأقفَلتُ باب الغرفة على نفسي وبكيتُ كثيراً لأنّ بِسبب عنادي كدتُ أن أُغتصَب مِن قِبَل الذي نبَّهَني الجميع منه.
وبالطبع إنقطعَ الإتصال بيني وبين عماد مِن كلتا الجهّتَين وحمَدتُ ربَي حين علَمتُ أنّه سافرَ بعيداً بعد فترة. ونَمَت في قلبي عاطفة قويّة تجاه يوسف الذي كان فعلاً الرجل المثالي والمناسب لي وإرتبَطنا للأبد وسط فرحة كل مَن عرفَنا.
حاورتها بولا جهشان