يوم جاءَت العاملة الأجنبيّة للإهتمام بأمّي المسنّة، وجلَسنا نحن الثلاثة لتناول أوّل وجبة لنا سويًّا، سألتُها طبعًا عن إسمها وعن معناه. إبتسَمت الصبيّة وقالَت: "مِن أجلنا". إستغرَبتُ الأمر وشعرتُ ككاتبة أنّ وراء ذلك الإسم قصّة، وحثّيتُها على التكلّم. قالت:
"في بلدنا يتزوّج الناس باكرًا وحسب تقاليد خاصّة بنا، يعني ذلك أنّ في غالب الأحيان لا يتعارفان العريسان إلى بعضهما إلا قبل يوم أو إثنَين مِن الفرح، ويعيشان في البيت العائليّ مع مَن سبقَهم وأنجَبَ أو طلّقَ. وهكذا وصلَت أمّي إلى منزل زوجها لتجد "قبيلة" بكاملها بانتظارها، وكان عليها إثبات جدارتها كزوجة مِن أجل الحفاظ على وجودها. كان الأمر صعبًا عليها، فهي لو كانت تعرفُ أبي لكانا تحالفا وتساعدا.
لكنّ حماتها وسلفاتها كنّ أقوى منها بسبب الأقدميّة والسنّ، وصارَت والدتي كبش محرقة وخادمة الجميع. لم يرَ أبي أيّ خطأ بذلك لأنّه كان يثق برأي أهل بيته، وخال أنّ ما يجري هو أمر طبيعيّ.
لم يسأل ذوو أمّي عن أحوالها، فكان لدَيهم بنات أخرى عليهم تزويجهنّ قبل أن تكبرنَ وتبقَينَ عبئًا عليهم، لِذا وجَدَت المسكينة نفسها فريسة سهلة لكّل مَن كان في قلبه غضب يُريد إفراغه.
لَم تحبَل والدتي مِن الشهر الأوّل، الأمر الذي اعتبرَته حماتي مُريبًا مع أنّه شائع جدًّا، لأنّ جميع كنّاتها كنّ قد ولّدنَ بعد تسعة أشهر. لِذا أخذَتها إلى السّاحرة، ففي بلدنا معتقدات شعبيّة إلى جانب ديننا الرسميّ. وفي ذلك المكان المُخيف، أُعطِيَت أمّي شرابًا مُقرفًا، ومشَت فوق مادّة مُشتعلة ذهابًا وإيّابًا وسط أصوات كانت تخرج مِن فم الساحرة لم تفَهم معناها. وفي طريق العودة، قالت لها حماتها:
ـ إسمعي أيّتُها البشعة، إن لَم تحبلي خلال شهر واحد، لن أكتفي بدَفع إبني إلى رميكِ خارجًا، بل سأفعلُ جهدي ألّا تتزوّجي مجدّدًا، فلقد دفَعنا مبالغ كبيرة عليكِ. أريد حفيدًا وبأسرع وقت!
إنهالَت الدّموع على خدَّي أمّي، وتمنَّت لو ماتَت قبل أن تدخل تلك العائلة الشرّيرة. كيف تصوّرَت تلك المرأة أنّ لوالدتي سلطة على الإنجاب؟ ماذا تريدُها أن تفعل بهذا الشأن ولَم تفعله؟ وماذا لو كان إبنها هو العاقر؟ بالطبع لم تجرؤ المسكينة على التكلّم معها عن هذا الإحتمال خوفًا مِن أن تقتلها على الفور.
إضطرّت أمّي لتحمّل سخريات سلفاتها وممارسة الجنس ليليًّا مع أبي في ظروف غير إعتياديّة. فلَم يكن لدَيهما غرفة خاصّة بهما، بل كانا ينامان في قاعة كبيرة، تفصل بينهما وبين باقي العائلات شراشف معلّقة على حبل غسيل.
لكنّ والدتي لم تحبل، وخافَت كثيرًا مِن الذي ينتظرُها. لِذا التجأت إلى الشخص الأقل أذى بينهم: زوجها. فهو لَم يكن شرّيرًا، بل فقط جاهلًا وضعيف الشخصيّة، وأخبرَته عن تهديد أمّه لها. لم يكن هناك مِن شيء لتخسره، واتّكلَت على سنّ زوجها القريب مِن سنّها، لعلّه يفهمُها ويُساندُها.
لحسن حظ أمّي أنّ أبي كان قد وقَعَ في غرامها بعد أن أمضى وقتًا يشعر بأنّها غريبة عنه، واحتارَ بكيفيّة التعامل معها. وفكرة أن يُجبَر على تركها كانت غير مقبولة لدَيه بعد أن نمَت مشاعره تجاهها. لِذا، إتّفقَ معها على أن يدّعيا بأنّها حامل، وأن يقولا بعد فترة إنّها فقدَت الجنين. فكلّ ما أرادَته والدتي كان أن تُعطى بعض الوقت. وكَي تنجح الخطّة، كان على أبي أن يُبعِد عنها الأطبّاء والسّحرة الذين كانوا سيكتشفون حتمًا الكذبة.
سادَت الفرحة البيت الكبير، وتلقَّت أمّي التهاني وبدأَت السلفات بتحضير أمتعة الجنين، وصارَت والدتي تدّعي أنّها تعاني مِن عوارض الحمل إستنادًا إلى ما حصَلَ مع أمّها التي بقيَت تنجب لوقت طويل. لكنّ جدّتي لَم تقتنع بحمل أمّي، ربمّا لأنّها كانت تتمتّع بخبرة كبيرة بالحمل... والكذب، وصارَت تحاول إصطحاب والدتي إلى الطبيب "للإطمئنان عليها". أسرَعَ والدي بالإجابة بأنّه سمِعَ عن طبيب ماهر في المدينة وأنّه سيهتمّ بكلّ شيء، الأمر الذي زادَ مِن شكوك أمّه. سكتَت المرأة وسمحَت لأوّل مرّة بأن يُعاندها أحد أولادها، الأمر الذي أخافَ أمّي. وكانت مخاوفها في محلّها.
فبعد أيّام قليلة، بعثَت جدّتي الشرّيرة بأبي إلى بلدة بعيدة حيث تسكن أختها ليحمل إليها بعض المؤن، وبقيَت أمّي مِن دون حاميها. للحقيقة هي لم تشكّ بشيء بل انزعجَت لرحيل زوجها ليومَين أو ثلاثة.
وفور تأكّد جدّتي مِن أنّ إبنها أصبَحَ بعيدًا، إنقضَّت هي وكنّاتها على والدتي وربّطنَها وحمَلنَها إلى السّاحرة التي فحصَتها بتأنٍّ قبل أن يصدر حكمها: أمّي لم تكن حامل. عندها قرّرَت النساء أنّ على أمّي أن ترحل وبسرعة، وما هو أهمّ، قبل أن يعود أبي.
لكنّهنّ لَم تُعِدنَ أمّي إلى أهلها، بل بعثنَ بها إلى إحدى قريبات جدّتي التي كانت تسكن على بعد ساعات طويلة وفي مكان صعب إيجاده. لَم تستطع أمّي الإفلات مِن قبضة تلك الشرّيرات بسبب مخدّر أعطَته إيّاه السّاحرة. وحين استفاقَت المسكينة، كانت مكبّلة في صندوق سيّارة. وفي تلك اللحظة خالَت حقًّا أنّها ستموت قريبًا.
خطّة جدّتي كانت أن يعود أبي ولا يجد أمّي، وتقول هي له إنّ زوجته هربَت مع رجل آخر وإنّ عليه الكفّ عن التفكير بها ليتزوّج مجدّدًا. لكنّه لم يُصدّق أن تكون أمّي قد خانَته، بعد أن نما بينهما حبّ جميل. فتّشَ المسكين عنها في كل مكان ولمدّة طويلة، وعادَ واستسلَمَ للأمر الواقع.
في تلك الأثناء، وصلَت أمّي إلى بيت تلك القريبة، وقاموا بحجزها في غرفة صغيرة، لا تخرجُ منها إلا للقيام بالأعمال المنزليّة الصّعبة. بالكاد كانوا يُطعمونها وأصبحَت حالتها يُرثى لها. صلَّت كثيرًا ليأتي أبي ويُخلّصها، لكنّه لم يفعل، وهي غرِقَت في يأس عميق. إلا أنّ والدتي كانت مِن اللواتي تتمتّعن بذكاء عمليّ، فبعد أن حلّلَت أين هي وما يُمكنُها فعله، قرّرَت أن تهرب. والسبيل الوحيد لذلك، كان الإدّعاء بالتجاوب التام لاراحة بال أهل البيت.
حاولَت جدّتي تزويج أبي مِن جديد لكنّه رفَضَ قطعًا، الأمر الذي دلّ على نمو شخصيّته، وصارَ يمضي نهاره خارج البيت ليعود في أواخر الليل مِن كثرة كرهه لأهله، لأنّه كان متأكّدًا مِن أنّ لهم دخلاً باختفاء زوجته.
حين تمكّنَت أمّي أخيرًا مِن الهرب، لم تلتجئ إلى أهلها بل إلى إبنة خالتها طالبة منها حفظ سرّ وجودها عندها، وإيصال خبر لأبي بأنّها في أمان وأنّ عليه عدَم البوح بتاتًا ولأيّ كان عن مكانها.
عندما وصلَه الخبر، ركَضَ أبي كالمجنون إلى حيث اختبأت أمّي وتعانقا طويلاً وبكيا سويًّا. مِن ثمّ روَت له والدتي عمّا جرى لها فغضِبَ كثيرًا وأرادَ الإنتقام منهم جميعًا، إلا أنّها أوقفَته قائلة: "أفضل إنتقام يكون أن يرَونَا سويًّا وسعيدَين. إذهب إليهم وإيّاك أن تفضح أمرنا، ولا تعد إلا عندما تكون قادرًا على الإنتقال مِن ذلك البيت البغيض". وفي تلك الليلة، وبعد أن أخلَت قريبة أمّي وزوجها المكان لهما، أحبّ والدايَ بعضهما بشغف. وعندما غادَرَ أبي، وعَدَ زوجته بأنّه سيكون رجلاً تفتخرُ به.
بعد أسبوعَين، إكتشفَت والدتي أنّها حامل، وأوصلَت له النبأ الذي أعطاه دفعًا إضافيًّا لتنفيذ ما في رأسه، فهو أخَذَ كلّ ما يُمكن بَيعه مِن ممتلكاته، وطلَبَ سلفة مِن صاحب عمله وركضَ يستأجر مكانًا صغيرًا ومتواضعًا ليُكوّن فيه عائلة جميلة.
كان خروج أبي مِن البيت الكبير بمثابة إهانة قاسية لأهله، فلَم يجرؤ أيّ مِن إخوَته على ذلك، حتى الأكثر شجاعة. وأقسَمَت جدّتي أنّها ستعتبرُه ميّتًا ووافقها الباقون. إلا أنّ ذلك لم يُؤثّر على أبي الذي جلَبَ أمّي إلى مسكنها الجديد.
وبعد أشهر، أبصرتُ النور، فأسمياني "مِن أجلنا" وكنتُ أوّل فتاة في سلسلة عشر أولاد! أحبَّ والدايَ بعضهما حتى الجنون، ولم يندَم أبي يومًا على اختياره أمّي. أمّا أهله فنسوا فعلاً أمره ولَم يُحاولوا الإتصال به أبدًا.
لكنّ كلّ شيء جميل له نهاية، فلقي والدي حتفه في حادث مؤسف. كان حزن أمّي لا يُقاس لكنّها بقيَت قويّة مِن أجلنا. عانَينا مِن قلّة المال حتى أصبَحنا قادرين على العمل... وأنا اختَرتُ السفر. هذه قصّتي! وهذا هو معنى إسمي ويا لَيتني أجد الحب مثلما فعلَت أمّي، فالعالم مليء بالشرّ والأشرار وأخافُ أن أكون قد ورثتُ طيبة أهلي."
حاورتها بولا جهشان