مُحاولة أبي الأولى والأخيرة!

ضُعف أبي أمام أمّي كان مُثيرًا للشفقة وللسخرية، الأمر الذي كان يُغضبُني كثيرًا، إذ أنّني دافَعتُ عنه مرارًا لأنّه إنسان طيّب أحبَّ زوجته ووثقَ بِحكمها وحكمتها... إلى أن صارَت مُستبِدّة وشرّيرة. وفي ذلك الحين، كنتُ مُراهِقة وأعيشُ لوحدي مع والدَيَّ بعد أن تزوّجَ إخوَتي وابتعَدوا عن البيت الذي رعاهم وربّاهم، وبعد أن أداروا ظهرهم لِما يحصل في عائلتنا. كنتُ الابنة الصغرى التي وُلِدَت بـ"الخطأ" بعد سنوات كثيرة، لكنّني لَم أكُن مُدلّلة إلّا مِن جانِب أبي الذي بحَثَ لفترة طويلة عن حليف ليكسرَ حلقة الوحدة التي التفَّت حول حياته.

دعوني قَبل أن أكمِل قصّتي، أن أصِف لكم والدتي لتعرفوا عمّا أتكلّم ولا تظنّوا أنّني أُبالِغ. فتلك المرأة لَم تكن مُتعلِّمة، بل تركَت دراستها بانتظار العريس الذي سيُعطيها كلّ شيء مِن دون أن تتعَب، لأنّها طالما اعتبرَت أنّها تستحقّ الأفضل. لماذا تسألون؟ لا أحَد يدري، فعائلة جدَيّ لَم تكن ثريّة أو معروفة، بل كانوا أناسًا عاديّين جدًّا. كبرَت أمّي لتتخطّى سنّ الزواج المُعتمَد في ذلك الوقت، لأنّها كانت ترفضُ العرسان الواحِد تلوَ الآخَر، فالشيء الوحيد الذي كان يشفَع بها هو جاذبيّتها. ووقَعَ والدي في الشباك أخيرًا، وهو شاب مُتعلِّم أنهى دراسته في الخارج وعادَ إلى البلَد لتأسيس عائلة. ولحظة وقعَت عيناه على تلك الصبيّة، أحبَّها وقرَّرَ أنّها ستكون زوجته وأمّ أولاده. إضافة إلى ذلك، أبي مُتحدِّر مِن عائلة مُقتدِرة ماليًّا وعقاريًّا، أيّ أنّه كان بالفعل العريس المُنتظَر. تزوَّجَ والدي وأمّي وعاشا بهناء حوالي السنة، أيّ إلى حين وُلِدَ أخي الأكبَر. وبعد ذلك، أطلقَت أمّي العنان لِسواد روحها. فهي صارَت امرأة قاسية ومُتسلِّطة ومُستهزئة، لا يُرضيها شيء وتصرخُ بأعلى صوتها عندما يرفضُ لها والدي طلَبًا. لكنّها كانت دائمًا تهدأ وتعود إلى حالة "مُسالِمة" بعد أن يرضَخَ لها زوجها ويشتري لها الذهب والفساتين. لكن، مع العُمر، صارَت أمّي إنسانة بغيضة لأقصى درجة مع كلّ مَن أحاطَ بها، وأسرَعَ إخوَتي بالزواج باكرًا للابتعاد قدر المُستطاع عنها، خاصّة أنّ لا منفعة مِن والدنا الذي كان يخشى إزعالها حتّى لو كان ذلك على حساب كرامته.

كبِرتُ بين الصراخ والتأنيب والمُمانعة لأيّ طلَب يخصُّني، وكأنّ أمّي كان تنتقِم مِن العالَم أسره مِن خلالي. وكان والدي يُحاول الدفاع عنّي بين الحين والآخَر لكن مِن دون إصرار، بل فقط شكليًّا كَي لا أنقلِب أنا الأخرى ضدّه. وعندما صِرتُ بسنّ أهوى فيه الشبّان، وقَعَ نظَري على طالِب في الجامعة يكبرُني بسنتَين وعلى وشَك الحصول على شهادته. وهو أيضًا أُعجِبَ بي وصرنا نتواعَد بالسرّ طبعًا. إلّا أنّه حصَلَ على منحة لإكمال دراسته في الخارج، وبكيتُ كلّ دموعي عندما سافَرَ "جاد" بعيدًا عنّي. وهو وعدَني بأنّه لن يقطَع الاتّصال بي لكنّني لَم أُصدِّقه فالبعُد هو بمثابة مقبرة للحبّ.

مرَّت أوّل سنة، وبالفعل بقيَ حبيبي على تواصل معي، وحصَلَ أن عرفَت والدتي بالأمر ونادَتني بشتّى الأسماء النابية، غير مُصدِّقةً أنّ "البلهاء الصغيرة" استطاعَت إخفاء علاقة غراميّة عنها. ومنذ ذلك اليوم، هي أخذَت على عاتقها تزويجي لمَن ستختاره هي وليس أنا. للحقيقة، هي لَم تسأل مَن يكون جاد وإن كان مُناسبًا لي أو لا، بل رفضَته تلقائيًّا وحسب.

تقدَّمَ لي العرسان، وفعلتُ جهدي لإخافتهم جميعًا بطرق لَم أحسب نفسي قادِرة عليها، فلقد صمَّمتُ على الزواج مِن جاد أو البقاء عزباء حتّى آخِر أيّامي. وأبشَع ما في الأمر، أنّ أمّي منعَتني مِن الذهاب إلى الجامعة، أيّ أنّني لن أنال إجازتي على الاطلاق تحت ذريعة أنّ ذلك المكان هو سيّئ للبنات، وأنّ لا لزوم للإجازة لأنّني سأتزوّج قريبًا وأخدمُ زوجي وأولادي.

توسَّلتُ أبي ليتدخّل، لكن ما عساه يفعل حين يكون بهذا الضعف أمام امرأة لا يوقِفها أحَد أو شيء. وعلى مرّ الوقت، صِرتُ أمقتُ ذلك الرجُل الذي لا منفعة منه سوى جَلب المال. هو لاحَظَ طبعًا موقفي منه، الأمر الذي آلَمَه كثيرًا، فذات ليلة، وقَفَ أبي في وجه أمّي أخيرًا طالبًا منها أن تدعَني أعيش حياتي، وتكفّ عن تدمير كلّ من هو حولها. لكنّها نظَرَت إليه باندهاش... وصفعَته بقوّة صارِخةً به: "إخرَس أيّها الجبان! الآن صارَت لكَ الشجاعة للتكلّم؟!؟". ركضتُ إلى أبي الذي امتلأت عيناه بالدموع، وهو قالَ لي قَبل أن يذهَب ذليلًا إلى الغرفة: "سامحيني يا ابنتي، أنا بالفعل جبان". لحِقتُ به مِن شدّة خوفي أن يفعَل شيئًا فظيعًا بنفسه، إلّا أنّه أقفَلَ باب الغرفة بالمفتاح. لَم أنَم في تلك الليلة مِن كثرة خوفي على والدي، إلّا أنّني رأيتُه في الصباح بألف خير. لكنّ شيئًا تغيَّرَ فيه، لَم أستطِع معرفة ماذا بالتحديد، لكن نظرة عَينَيه أصبحَت مُختلفة، فيها قساوة لَم أرَها مِن قبَل.

بقيتُ صامِدة في وجَه مُحاولات أمّي بتزويجي، وصرت آخذُ الدروس مِن صديقتي، ثمّ أذهب إلى الجامعة خلسةً يوم الامتحان إلى أن حصَلتُ أخيرًا على إجازتي. وجاد، مِن جانبه، أنهى الماستِر وقرَّرَ العودة إلى البلَد لنتزوّج، بعد أن وقَّعَ عقد عمَل مع إحدى الشركات. لكنّ الزواج مِن حبيبي كان مُستحيلًا بوجود أمّي. فكّرتُ طبعًا بالهروب والزواج سرًّا، لكنّني لَم أكن قادِرة على ذلك بسبب تربيَتي. فأمّي كانت قد أنشأتني بحيث أكون دائمًا تحت طاعتها، حتّى لو ثرتُ عليها بين الحين والآخَر، كما فعلَت بزوجها وباقي أولادها... فلا أحَد كان يعصي أوامرها ورغباتها أبدًا!

وصَلَ الحدّ بي إلى إعطاء جاد الحقّ بِتَركي والزواج مِن غيري كَي لا أُضيّع وقته، فمِن حقّه أن يجِدَ صبيّة ذات حياة وأسرة طبيعيّة. إلّا أنّه بقيَ مُصِرًّا، الأمر الذي زادَ مِن قلَقي وغضبي وحزني. وأمام ذلك الطريق المسدود، قرَّرتُ أنّ الحلّ الوحيد هو قبول أحَد هؤلاء العرسان والانتهاء مِن مسألة دامَت لسنوات طويلة.

لكنّ أبي لَم يكن مِن رأيي، بل طالبَني بأن أكون شجاعة:

ـ لن تكوني ضحيّتها أنتِ الأخرى... عليكِ أن تتزوّجي مِن جاد!

 

ـ لكن كيف يا بابا؟ كيف؟!؟

 

ـ الله كريم... فلن يدوم طغيانها طويلًا، أنا واثِقٌ مِن ذلك.

 

وصَلَ جاد البلَد واستطعتُ الالتقاء به، وكانت تلك اللحظات رائعة بالفعل. رحنا سويًّا بناءً على طلَبه لرؤية بضع شقَق بالإيجار حتى نعيش في إحداها يوم تتغيّر الأحوال. عدتُ إلى البيت وقلبي مليء بالحزن فعانَقتُ والدي وبكيتُ.

وفي اليوم التالي... وقعَت أمّي عن السلالِم!

حصَلَ ذلك مساءً بعد أن طلَبَ منّي والدي أن أذهب إلى أخته التي حضَّرت لنا طبقَها الذي اشتهرَت به، والذي اعترفَت أمّي لها بتفوّقها فيه عليها. ولدى عودتي، رأيتُ سيّارة الإسعاف والجيران مُجتمعين حول أبي، وهو يشرحُ لهم كيف أنّه وجدَها عند أسفَل السلالم حين ناداها ولَم تُجِب. ركِبتُ سيّارة الاسعاف ولحِقَ بنا والدي في سيّارته، وعلِمنا أنّ أمّي دخلَت في غيبوبة جرّاء السقطة وقد تستفيق في أيّ وقت. بكيتُ لأنّني، بالرغم مِن كلّ شيء أحبَبتُ والدتي. إلّا أنّ أبي أخذَني جانبًا وقالَ لي:

ـ هيّا، قولي لِجاد أن يتحضَّر للزواج بكِ.

 

ـ لكن، يا بابا!

 

ـ إفعلي ما أقول! فقد تستفيق والدتكِ وتفوتُكِ هذه الفرصة. سأُزوِّجُكما بالسرّ، لن يعرف أحدٌ بذلك إلّا بعد حين. هيّا، إذهبي الآن واتّفِقا على التفاصيل!

 

فعلتُ كما طلَبَ أبي منّي، مع أنّني لَم أكن مُقتنِعة بالنسبة للتوقيت. وتمَّ الزواج بسرّيّة تامّة، لكنّني لَم أنتقِل إلى البيت الزوجيّ خوفًا مِن أن تستفيق أمّي وتُصاب بالصدمة. إلا أنّ والدي بقيَ يحثُُّني على الرحيل، وقالَ لي بعد أيّام:

ـ لا أُريدُكِ أن تكوني حاضِرة حين تستفيق أمّكِ.

 

ـ لماذا يا بابا؟ ستكون فرحَتي كبيرة!

 

ـ أعرف، أعرف... لكنّني لا أُريدُكِ أن تعرفي منها ما حصَلَ... إسمَعي... كان لا بدّ لي أن أتصرّف، فهي دمّرَت حياتنا كلّنا... وأنتِ صغيرتي... صغيرتي! سأتحمَّل كامِل المسؤوليّة وأنا مُستعِّد لدخول السجن!

 

ـ بابا! أنتَ دفعتَها عن السلالِم؟!؟ ماذا لو ماتَت؟!؟ بابا!!!

 

ـ يوم هي صفعَتني علِمتُ أنّها بلغَت حدًّا خطيرًا، وأنّها لن تتراجَع عن تخريب حياتكِ، فكان عليّ أن ألعَب، ولو لمرّة دور الأب. إذهبي الآن، هيّا!!!

 

إستفاقَت والدتي، لكنّها لَم تقُل لأحَد ما جرى حقًّا ولَم يُحاسَب أبي... على الأقلّ مِن قِبَل القانون. إلا أنّها فعلَت جهدها ليدفَع زوجها الثمَن لآخِر حياته. فبعد أن تعافَت مِن كسورها العديدة والارتجاج الذي أُصيبَت به في رأسها، حوّلَت أبي إلى خادِم لدَيها، وادّعَت أنّها لا تستطيع فعل أيّ شيء بنفسها، فهو كرَّسَ كلّ وقته لِتلبية طلبات مُهينة لأقصى درجة. وقد عاقبَته ليس فقط لأنّه آذاها جسديًّا، بل لأنّه ساهَمَ بأن أفلِتَ مِن قبضتها. وبالطبع هي منعَتني مِن القدوم إلى البيت، وامتنعَت عن الكلام معي، فصرِتُ أرى أبي في الأماكِن العامّة أو عندما يزورُني وجاد. لكنّني وجدتُ أبي سعيدًا بالرغم مِن الذي يمرُّ به يوميًّا مع زوجته، وحين سألتُه عن سبب فرَحه هو قالَ لي:

ـ إنتصَرتُ عليها، ولو مرّة واحدة! وهذا يكفيني... ومعرفتي بأنّكِ سعيدة يُفرِحُ قلبي.

 

ـ لا أستطيع حتّى الآن تصديق ما فعلتَه يا بابا، أنتَ مجنون حقًّا!

 

ـ أتعرفين شيئًا؟ يجِب على الطاغي والشرّير أن يُدرِك أنّ ظلمه سينقلِب ضدّه يومًا، فالمظلوم يُصبح خطيرًا عندما يفقدُ كرامته وكيانه، وهذا ما أدركَته أمّكَ أخيرًا. فبالرّغم مِن الذي تفعله بي الآن، أرى بين الحين والآخَر خوفًا في نظراتها إليّ، وهذا يُعطيني بعض القوّة لأتحمَّل هذه الحياة. يا لَيتني كنتُ أقوى، لكنّني ضعيف، يا للأسف، ولا أدري لماذا. ولو كان لدَيّ الوقت، لَرحتُ إلى مُعالِج نفسيّ، لكنّ الأوان قد فات.

 

ـ أنتَ لستَ ضعيفًا يا بابا، بل خالَت أمّي أنّ حبّكَ لها هو ضعف، فاستقوى جانبها الشرّير واستغلََّت الوضع. ولو كانت إنسانة أخرى، لَعاشَت معكَ أجمَل حياة، ولَكانت الآن مُحاطة بأناس يُحبّونها بدلًا مِن أن تعيش سجينة كرهها وأذيّتها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button