ميول أبي

لطالما شكَكت بأمر أبي مع أنني لَم أملك أيّ دليل، ففي تصرّفاته وحركاته كان شيء يُذكّرني بالإناث. كانت حركات بسيطة جدًّا لا تظهر إلا عندما لا يكون واعيًا لِما يفعله، لكنّه كان يتمالك نفسه بسرعة ويعود إلى خشونته المعهودة. وأظنّ أنّ أبي رأى أكثر مِن مرّة كيف أنظرُ إليه في تلك الأوقات. لكن بالنسبة لأمّي، فهي كانت تحبّ ما تسمّيها "ميوله الفنّيّة الرقيقة"، فأبي كان يهوى الرسم والعزف على الكمان.

وإضافة إلى كلّ الذي ذكرتُه أعلاه، كان لأبي "أصدقاء مُقرّبين" يأتون إلى البيت باستمرار ويمكثون أحيانًا عندنا لأيّام. كنتُ في ذلك الوقت مُراهقًا وبتُّ أفهمُ قليلاً الحياة، وكان مِن الواضح أنّ هؤلاء الضيوف كانوا أكثر مِن أصدقاء لوالدي، إذ أنّهم كانوا يمزحون معه بطريقة حميمة مُبطّنة. للحقيقة، بدأتُ أشمئزّ كثيرًا مِن الذي يجري في بيتنا وأمام أعيُن الجميع وسألتُ نفسي مرارًا إن كانت أمّي غبيّة لهذه الدرجة. فهي كانت تُحبّ زوجها كثيرًا وتكنّ له أعجابًا قويًّا بسبب انجازاته في مجال الهندسة إذ أنّه كان معروفًا جدًّا ومُتفوّقًا على باقي المُهندسين.

صمّمتُ أنّ عليّ ترك البيت حالما تتسنّى لي الفرصة للابتعاد عمّا أعرفُه، فكان مِن المؤكّد أنّ والدتي ستكتشِف الحقيقة يومًا وتقَع المُصيبة. لِذا فتّشتُ عن مِنَح تُعطى للمُتفوّقين وبذلتُ جهدي لأحصد أعلى العلامات بالدرس ليلاً نهارًا. على كلّ الأحوال، كنتُ أقضي مُعظم وقتي في غرفتي بعيدًا عن تلك الأجواء البغيضة التي لَم أعُد أتحمّلها.

جاءَت جهودي بالنتيجة المرجوّة إذ أنّني نلتُ منحة جامعيّة في كلّيّة تقَع في العاصمة فودّعتُ والدَيّ بدموع زائفة كَي لا يعرفان أنّ رحيلي كان يُفرحُني إلى أقصى درجة. أخذتُ حقيبتي ورحتُ أمكثُ عند أقارب لنا، على الأقلّ في المدّة الأولى. بقيتُ على تواصل هاتفيّ مع أمّي لكنّ اتّصالاتي بأبي كانت قليلة.

وضعتُ لنفسي هدفًا آخَرًا وهو الحصول على منحة لاحقًا إلى الخارج، فكنتُ مِن أوائل اختصاصي ولَم يكن مِن الصعب عليّ التميّز أكثر بعد، فلطالما حقّقتُ ما أرمي إليه. في تلك الأثناء، بقيَت الأحوال كما كانت في البيت، وتصوّرتُ كيف أنّ أبي قد تحرَّرَ مِن وجودي معه ليُتابع علاقاته مع هؤلاء الرجال. وبقيَت والدتي سعيدة بزوجها وتفعلُ جهدها كعادتها لتلبية كلّ طلباته.

ثمّ علِمتُ أنّ أبي سافَرَ إلى الخارج لحضور مؤتمر كبير ومُهمّ... إلا أنّه قرَّرَ البقاء هناك وعدَم الرجوع إلى وطنه وبيته! أصابَ والدتي الذعر ثمّ الحيرة وأسرعَت باطلاعي على ما جرى لأتدخّل وأُرجِع زوجها إليها. كنتُ أعلَم ضُمنيًّا لماذا قرَّرَ أبي العَيش في الخارج إلا أنّني لَم أستطِع رفض طلَبَ أمّي. لِذا إتّصلتُ بوالدي وقلتُ له:

 

ـ لماذا فعلتَ ذلك بأمّي؟ هي كرّسَت حياتها لكَ ولا تستحقّ أنّ تتركها وبصورة مُفاجئة.

 

ـ هكذا أفضل.

 

ـ أفضَل لِمَن؟ على كلّ الأحوال، لطالما فعلتَ ما يحلو لكَ، ولَم تكن بحاجة لِتَرك البيت والبلَد.

 

ـ لدَيّ أسبابي.

 

ـ أعرفُ ما هي أسبابكَ... وأنتَ تعرف أنّني أعرِف.

 

ـ لَم أكن مُتأكِّد... على كلّ الأحوال، لَم يعُد يهمّني الأمر، فأنا في الخارج وأعيشُ كما يحلو لي.

 

ـ وماذا عن أمّي؟ هل فكّرتَ بها؟ يا لكَ مِن أنانيّ!

 

ـ أعطَيتُها كلّ ما تطلبه أيّ زوجة: بيتًا جميلاً وولَدًا ذكيًّا وحياة هنيئة مع رجُل يحترمُها.

 

ـ وماذا عن سرّكَ؟!؟ هل تعِدُّ ذلك احترامًا لها؟!؟

 

ـ ميولي ليست بفعل إرادتي.

 

ـ لَم يكن عليكَ أن تتزوّج وتُنجِب.

 

ـ لِما لا؟ ما الضرَر الذي أحدثتُه لكَ أو لأمّكَ؟ ها أنتَ بألف خَير.

 

ـ لا... فلَم يكن لي أب كما حلِمتُ به. وسبب رحيلي بعيدًا هو أنتَ... وأصدقائكَ.

 

ـ حديثنا غير مُجدٍ... تعالى وزُرني حيث أنا وأنظر كيف أعيش.

 

ـ تبًا لكَ!

 

لحسن حظّها، لَم تعرِف أمّي أنّ زوجها بقيَ في الخارج ليعيشَ ميوله على كَيفه، بل اعتقدَت أنّه يُعاني مِن انهيار عصبيّ ما وأنّه سيتعافى سريعًا ويعودُ إليها. هكذا كانت، تجِد كلّ الأمور سهلة ومؤقّتة وأعتقدُ أنّ ذلك هو ما مكّنها مِن اجتياز مِحَن كثيرة. لكن بالنسبة لي، ما فعلَه والدي كان بمثابة خيانة عظمة إذ أنّه كذِبَ على الجميع وانتهى به المطاف في أحضان رجُل ما. يا إلهي... يشمئزّ بدَني بمجّرد قول هذه الكلمات، فكيف لي أن أتصوّر أبي بالفعل مع رجُل آخَر؟!؟

وبعد الذي حصَل، لَم يعُد مُمكنًا لي السفَر إلى الخارج وتَرك والدتي المسكينة. لِذا عدتُ بعد تخرّجي إلى بيتنا بصورة دائمة وفعلتُ جهدي للتمويه عنها.

مرَّت الأشهر والسنة والثانية حين أُصيبَت أمّي الحبيبة بداء السرطان وكان علاجها يتطلّب مبالغ كبيرة. لِذا اضطرِرتُ للاتّصال بأبي لأطلبَ منه المُساعدة. إلا أنّه عرَضَ عليّ جَلب أمّي إلى حيث يعيش لتخضع للفحوصات والعلاجات اللازمة في مستشفيات مُتطوّرة. إحتَرتُ لأمري، فمِن جهة لَم أكن أريدُ أن ترى والدتي كيف يعيش زوجها، لكن مِن جهة أخرى أردتُ لها أفضل ما يكون. لِذا قبِلتُ عرض أبي على شرط أن أُرافقها وأن نمكثَ في فندق عندما لا تكون المسكينة في المشفى. وافقَ والدي فبدأتُ المعاملات مِن جانبي وهو مِن جانبه. إنتظَرنا طويلاً لكن في آخِر المطاف تمّ القبول بنا وسافَرنا. كانت والدتي مُتحمّسة لرؤية زوجها مع أنّه تركَها فجأة وعاشَ بعيدًا عنها مِن دون تقديم عذر مُقنِع. لكنّها كانت تُحبّه وغفَرت له بُعَيد رحيله. لَم أفهَم أبدًا كيف لها أن تكنّ له أيّ مودّة بعد الذي فعلَه، لكن ما شأني أنا؟

إستقبلَنا أبي في المطار وعانقَته والدتي وبكَت على كتفه. رأيتُ أيضًا دموعًا في عَينَيه، فهي كانت المرأة التي تزوّجَها وعاشَ معها سنوات طويلة. صافحتُه فقط وتجنَبتُ النظر إليه. حمَدتُ ربّي أنّه جاء لوحده وإلا لغضبتُ لأقصى درجة، والله وحده يعلَم ما كنتُ سأفعله!

رحنا الفندق ونمنا مِن كثرة التعب. وفي اليوم الثاني مرَّ بنا والدي ليصطحبنا إلى المشفى وبالتحديد إلى عيادة طبيب مشهور في علاج السرطان.

لن أذكُر كلّ التحاليل والصوَر التي أجريَت لأمّي، لكن بعد كلّ ذلك العذاب تم تحديد موعد لعمليّة كبيرة لتُجريها بالقريب العاجل. فكانت تلك فرصتها الأخيرة والأكثر نجاحًا. إلتقَيتُ بالجرّاح وتفاجأتُ بسنّة، فتخايَلتُه كبيرًا في السنّ. هو ابتسَمَ وقال:

 

ـ لا تخَف، فأنا أبدو أصغَر مِن سنّي الحقيقيّ. إضافة إلى ذلك، يُقال عنّي إنّني جرّاح ماهِر. على كلّ الأحوال، تستطيع التحقّق مِن ذلك بنفسكَ، فلَم أخسَر مريضًا في حياتي، بل نجحَت كلّ العمليّات والحمدلله.

 

ـ سأتحقّق مِن الأمر ليس لأنّني لا أصدّقُكَ، بل لأريح ضميري، فأمّي أخِر مَن تبقّى لي في هذه الدنيا.

 

ـ لكنّني رأيتُ والدكَ في المشفى، أم أنّني مُخطئ؟

 

ـ أجل، أجل... لكنّنا لسنا على وفاق، فهو... أعني أنّ لدَيه حياته ونحن حياتنا.

 

ـ أنا آسِف لِسماع ذلك، وآسِف للتطفّل.

 

ـ لا عليكَ... ما يهمّ هو أن تتعافى والدتي. ماذا سيحدث بعد العمليّة؟

 

ـ سنجري لها فحوصات اضافيّة وقد تحتاج لجلسات كيميائيّة وأشعّة. لن نعرف إلا بعد حين. سأراكَ لاحقًّا.

 

للحقيقة، أحبَبتُ ذلك الجرّاح، فهو كان لطيفًا وواثقًا مِن نفسه وما هو أهمّ، هو أنّه مُتواضِع جدًّا. ولقد تمنيّتُ للحظة لو هو كان أبي بدلاً مِن الآخَر. قمتُ بتحرّياتي ووجدتُ أنّ ذلك الجرّاح هو بالفعل ماهِر، لِذا وقّعتُ الأوراق اللازمة وأُدخِلَت أمّي إلى المشفى ومِن ثمّ إلى غرفة العمليّات.

جلستُ وأبي في غرفة الانتظار ولَم نتبادَل الكلام إلى حين هو قال:

 

ـ لا ذنبَ لي في ما يخصّ... ميولي.

 

ـ لا أُريدُ أن أعلَم!

 

ـ فلقد اتّضَحَ أنّ هرموناتي هي السبب وبالطبع لَم أعرِف ما بي، لكنّني علِمتُ منذ صغري أنّني مُختلِف.

 

ـ أرجوكَ أن تتوقّف عن الكلام.

 

ـ إضطرِرتُ لإخفاء الأمر عن الجميع طبعًا، فلَعِبتُ دور الصبيّ الخشِن، وسنة بعد سنة صِرتُ مُمثِّلاً بارعًا.

 

ـ الله لا يقبَل بذلك.

 

ـ أعلَم... فهو سيُحاكمُني عندما أموت وسأقبَل حكمه. لكن لماذا أنتَ تحكمُ عليّ؟

 

ـ لأنّكَ تزوّجتَ وأنجَبتَ!

 

ـ وماذا كنتَ تُريدُني أن أفعَل عندما ضغَطَ عليّ الجميع لأتزوّج وأبني عائلة؟

 

ـ كان عليكَ السفَر في حينها، أيّ قَبل الزواج.

 

ـ إعتقدتُ فعلاً أنّني أستطيع أن أُحبّ أمّكَ وأن أتغيّر. على كلّ الأحوال، أُحبّ أمّكَ كثيرًا لكن ليس بالمعنى التقليديّ. ما بيننا شيء جميل جدًّا وإن حصَلَ لها أيّ مكروه سأفقدُ عقلي.

 

ـ لكنّكَ تركتَها.

 

ـ سئمتُ مِن الكذب ولقد اطمأنّ بالي حيالكَ، فأنتَ لَم تعُد بحاجة إليّ.

 

ـ الأولاد بحاجة إلى أهلهم طوال حياتهم.

 

ثمّ خرَجَ الجرّاح وطمأنَنا بأنّ العمليّة نجحَت. عانقتُه والدمع يملأ عَينَيّ ورفعتُ يدَيَّ إلى السماء لأشكُر ربّي. خضَعَت والدتي إلى جلسات كيميائيّة وأشعّة، وبعد ذلك عُدنا إلى البلَد.

بدأَت تتعافى والدتي شيئًا فشيئًا وأنا وجدتُ عمَلاً جيّدًا وبدأنا حياتنا الجديدة الخالية مِن الهمّ والمرَض. وحدَه الجرّاح بقيَ في بالي وندِمتُ أنّني لَم أختَر مهنة الطبّ وبالأخصّ الجراحة لأكون مثله وأُنقِذ حياة الناس. لكنّ الأوان كان قد فاتَ بالنسبة لي وكان يجدرُ بي التركيز على عمَلي الذي أحبَبتُه بالفعل. لَم أسمَع مِن أبي بعد عودتنا لكنّني علِمتُ أنّه بقيَ على تواصل مع أمّي ليعرفَ منها تفاصيل صحّتها.

تعرّفتُ على صبيّة رائعة وانتهى بنا المطاف مخطوبَين وأطلعتُها على وجوب العَيش مع والدتي في بيت واحِد وهي لَم تُمانِع لأنّها تعلَم كَم أنّ والدتي غالية عليّ.

لكن مُفاجأة كبيرة كانت بانتظاري! عادَ أبي مِن الغربة بصورة دائمة وإلى البيت! لَم أكن أعلَم أبدًا كيف أتعامَل مع هذا الوضع الغَير مُنتظَر وشاهدتُ بتعجّب والدتي وكأنّها عادَت مُراهِقة مُغرَمة! لماذا عادَ أبي؟ هل ليُعذّبها مُجدّدًا إن هو قرَّرَ الرحيل مرّة ثانية؟ لن أسمَحَ له بتحطيم قلب أمّي مِن جديد! لِذا قلتُ له في اليوم نفسه:

 

ـ لماذا عُدتَ؟

 

ـ لأنّه بيتي وأنتم عائلتي.

 

ـ وماذا عن الذي تركتَنا مِن أجله؟!؟ هل هو طردَكَ أم وجَدَ حبًّا آخَرًا؟

 

ـ بل ماتَ... ومِن دونه لا لزوم لبقائي هناك.

 

ـ يا للرومانسيّة! وهل تعتقِد أنّني سآسَف عليه؟!؟ فلا بدّ أنّه كان انسانًا معدوم الأخلاق وأنا مُتأكّد مِن أنّ العالم بأفضل حال مِن دونه!

 

ـ بل كان جرّاحًا ماهِرًا وأنقذَ حياة عدَد لا يُحصى مِن الناس.

 

ـ أتعني...؟!؟

 

ـ أجل. هو بحدّ ذاته.

 

كرجَت الدموع على خدَّيّ رغمًا عنّي، فكان العالَم قد فقَدَ رجُلاً عظيمًا.

تزوّجتُ حبيبتي وسكنّا في شقّة قريبة مِن والدَيّ ونشكّلُ اليوم جميعًا عائلة سعيدة.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button