عاش عزّ الدين علايا حياة مفعمة بالأزياء والفن والتصميم والهندسة المعمارية والموسيقى والمسرح.

 

كان السيد "علايا" من أبرز هواة الجمع في المجالات الإبداعية والثقافية طوال السنوات الخمسين الماضية.

 

وقرّر في سنة 2007 المحافظة على أعماله وممتلكاته الثمينة من خلال تأسيس جمعيّة عزّ الدين علايا لتصبح في ما بعد مؤسسة عزّ الدين علايا مع شريكه الدائم الرسام "كريستوف فون ويهي" وصديقته الحميمة طوال أربعين سنة، الناشرة "كارلا سوزاني".

 

من خلال التعاون مع عدة مؤسسات ثقافية، ستشرف المؤسسة على البرامج الثقافية للجمعيّة وستتابع كلّ الفعاليات الرسمية التي دعمتها الجمعيّة طوال السنوات الـ 12 الماضية.

 

ستبقى كنوز المؤسسة في باريس. ستُقام المعارض الخاصة بأعمال "علايا" ومجموعاته في باريس، 18 شارع "فيريري"، حيث كان يعيش ويعمل، وفي سيدي بو سعيد، البلدة التي كان يحبّها كثيراً. وافتتحوا في باريس مكتبة للأزياء والتاريخ الثقافيّ. كما سيُنشئون أيضاً مكتبة للأبحاث والتنمية، وسيتمّ تأمين التمويل للمنح الدراسية لأصحاب الرؤى الواعدين في مجال الأزياء.

 

شهدت سنة 1968 اتّخاذ "كريستوبال بالنسياغا" القرار بإقفال دار أزيائه، وأتى ذلك بعد مواجهة الطلب المتزايد في القطاع الناشئ للأزياء الجاهزة، وبعد أن خدم بكلّ تفاني العقيدة التي فرضها عملاء التصاميم الراقية طوال مسيرته المهنيّة. هذا الخبر البسيط على الراديو، الذي كان وقعه قوياً كإعلان وفاة أحد الأشخاص، أطلع العملاء الأوفياء والأصدقاء والصحافيين والنساء اللواتي يتردّدنَ غالباً على متجره في جادة "جورج الخامس" أنّ المصمّم الإسبانيّ الخبير سيتوقّف عن تصميم المجموعات. وقبل ذلك، نظّم المصمّم النهاية المشرّفة للدار التي استمرّت لعقود طويلة من الزمن، حيث بقيت كلّ الفساتين والمعاطف التي اشتهر بها خالدة ويافعة كأيّ وقت مضى1. شارك نواياه هذه مع أقرب المتعاونين معه، ثمّ مع موظفيه الأعزاء، وعلّق "بالنسياغا" بلوزة العمل الخاصة به في حجرة المعاطف2، التي لن تكون على حالها مجدداً بعد رحيله. وبعد فترة، لاحظت الآنسة "رينيه"، التي أمضت عقوداً من الزمن في خدمته في منصب نائب المدير العام، وجود مخزون كبير من الأقمشة والفساتين التي لم يتجرّأ أحد على اعتبارها من الأرشيف التراثيّ. وقرّرت الاتصال بشخص واحد خطر في بالها، شخص استثنائيّ بدأ اسمه يتردّد بشكل متزايد على كلّ شفة ولسان بين عملاء التصاميم الراقية. دعت "عزّ الدين علايا" ليأتي ويختار بحرّية تشكيلة من إبداعات المعلّم والذي تستطيع يداه البارعتان وحدهما إعادة تصميمها من أجل منحها مظهراً جديداً.

لكن لم يكن هذا واقع الحال. حيث اندهش الشاب من رشاقة الأشكال، وهندسة القصّات، والبراعة التقنيّة لكلّ فستان، وكانت ردّة فعله الفوريّة أنّ قيامه بإجراء التعديلات عليها يشكّل تدنيساً وانتهاكاً لها. بعيداً كلّ البعد عن دوافع الاستثمار والمضاربة ومن دون أن يكون لديه أيّ أجندة خفيّة (في ذاك الوقت لم يكن هناك سوق لهواة جمع الأزياء الكلاسيكية القديمة)، أخذ "علايا" الفساتين المعروضة أمامه.

 

بعد وصوله إلى المنزل وضعها بحذر على أوراق الحرير، وأقسم أنّه سيحرص طوال حياته على عدم نسيان المصمّمين البارعين الذين سبقوه.

 

 

 

قبل بضعة أشهر على وفاته، أخبر "عزّ الدين علايا" هذه القصة بشغف كبير. اكتسب طوال حياته احتراماً عميقاً لتاريخ الأزياء، واعتبر لقاءه مع "بالنسياغا" أوّل صحوة حقيقية يحظى بها نظراً لمدى أهميتها. ما حصل بعد ذلك أكّد الاهتمام المتزايد وغير المحدود الذي حافظ عليه المصمّم التونسي حيال المصادر التي شكّلت ذاكرة الأزياء. لأنّه بالرغم من موارده المحدودة في بداية مسيرته المهنيّة، مع أنّها ازدادت حين أصبح أكثر نجاحاً، كان "علايا" من هواة جمع التحف والأغراض الثمينة، وكان يصبو إلى المحافظة على الأشياء.

 

منذ أواخر الستينيات، عندما كان الكثير من زملائه المعاصرين يستثمرون فقط في الفن المعاصر والحديث، كان يركّز على التصاميم التي تتميّز بتقنيّات محدّدة. لطالما شعر بالشغف حيال الفساتين من الثلاثينيات والخمسينيات التي نسيها الآخرون مع الماضي. وجمع تصاميم المصممين العظماء الذين كان يريد السير على خطاهم. في البداية كان ذلك بالمئات، ثمّ بالآلاف، أحاط "عزّ الدين علايا" نفسه بالفساتين من تصميم "غريه"، "فيونيه"، "سكياباريلي" و"بالنسياغا" على سبيل المثال لا الحصر. ومع مرور العقود، أصبح يُطلق عليه اسم المصمّم الأخير، الوحيد الذي ما زال يتقن كلّ مرحلة من تصميم الثياب وتنفيذها، ويقصّ الأقمشة بالإتقان نفسه كالمصمّمين الذين سبقوه، ويستخدم الدبابيس وينفّذ الخياطة بإتقان أكبر. أصبح بطل الوحدة والاتّكال على النفس، وريث سلالة كامة من المصمّمين الذين كانوا أيضاً نحاتين ومهندسين معماريين. مع ازدياد شهرته، نتيجة العمل الدؤوب، تابع هواية الجمع متسلّحاً بمهارة أمين المتحف والمؤرّخ، كان يجمع إرث العظماء في عالم الأزياء، المشاهير منهم والذين لا يعرفهم إلاّ قلّة من المتنوّرين، والذي كان لا يتحمّل فقدانه أو السماح بخروجه من البلاد. وفي أكثر من حالة، وأكثر ممّا كان متوقّعاً، هبّ "علايا" للإنقاذ من التلف أو النسيان، هرع لنجدة أبرز الأسماء وقطع الأزياء التاريخية، وبفضله بقيت هذه القطع هنا في فرنسا. جمع المصمّم بلا هوادة البقايا المخملية في سعيه إلى فهم تقنيّات العمل، تلك التي تشكّل الأقدار العظيمة والتي حدّدت قدره أيضاً.

ومن بينهم جميعهم، كان "بالنسياغا" أكثر من يقدّره ويحبّه وله مكانة خاصة عنده.

 

لطالما شكّل المصمّم الإسبانيّ قدوة يحتذي بها. وتشارك المصمّمان التوازن المثالي ما بين المقاييس والأحجام، ونزعة إلى الألوان الهادئة والألوان السوداء الفخمة. سواء كان ذلك من خلال انسيابية فساتين السهرة الراقية أو في الهندسة المعمارية المتفوّقة للمعاطف وتفصيلها، كان ثمة حوار واضح بين الإسبانيّ والتونسيّ، إذ لطالما سعيا من دون انقطاع إلى جعل الدرزات غير مرئيّة. وكانا يتخاطبان عبر الكشاكش الدراماتيكية والأنسجة المخرّمة، وعبر ألوان الأحمر القاني الساطعة. في النهار أو الليل، كانت فساتينهما القصيرة أو الطويلة خير مثال على الهندسة العمارية والخفّة، وكانت تبدو وكأنّها ظلال لبعضها البعض. انطلاقاً من أيديهما وطاولات العمل الخاصة بهما، أبصرت الفساتين النور من الإرادة والتقنيّات التي أتقنها المصمّمان. في تاريخ الأزياء، بقيت هاتان الشخصيتان العظيمتان الصامتتان لا تتأثّران بصيحات الموضة العابرة، ولا تخشيان مواجهة النظام، أو رفض الرهجة غير المبرّرة والضرر الذي قد تتسبّب به، وكان لديهما الكثير ليقولاه لبعضهما البعض.

تصاميمهما خالدة، كما يتجلّى في هذا المعرض. سيتمّ عرض حوالي 80 تصميماً للمرة الأولى معاً، أعمال مصمّم مخضرم في مواجهة الآخر، كلاهما يتميّزان بالمهارة الحرفيّة على حدّ سواء.

 

انطلاقاً من الأرشيف الذي أنشأه "علايا" عبر سنوات طويلة، سيتمّ عرض تصاميم "بالنسياغا" في دار "علايا" للأزياء، التي تضمّ اليوم الجمعية التي تمّ تأسيسها للحفاظ على ذكراه وأعماله.

 

تتحاور هذه التصاميم بحرّية مع إبداعات التصاميم الراقية الخاصة بـ"علايا"، نسبةً إلى عدد مفاجئ من العناصر المشتركة في الفكر الإبداعيّ ومراحل التصميم. سينتقل المعرض في يوليو 2020 إلى موطن المصمّم الإسباني، إلى قرية غيتاريا، حيث وُلد "بالنسياغا" وحيث توجد مؤسسة "بالنسياغا" حالياً.

 

سيُقام هذا المعرض بناءً على أمنية "أوبير دو جيفنشي". بعد بضعة أشهر على وفاة "عزّ الدين علايا"، وعقود على وفاة "بالنسياغا"، الذي كان من أشدّ المعجبين به، إذ بـ"جيفنشي"، أحد آخر المحافظين على الذاكرة الجماعية للأزياء، يتحدّث إلى الجمعية حول رغبته بالجمع بين هاتين الموهبتين العظيمتين.

 

نأمل أنّ يشكّل هذا المعرض المبتكر وغير المسبوق تكريماً له.

 

 

المزيد
back to top button