تبحث الكاتبة شانتال بروكا والناشطة في مجال الموضة المستدامة في موضوع سوق الأزياء الثانوية لتعرف ما إذا كانت الدواء الفعليّ لمشكلة فضلات الموضة.

 

تأجير، إعادة بيع، فنتيتج أو توفير... في ظلّ المخاوف والفضائح البيئية، يبدو أنّ السوق الثانوية لصناعة الأزياء تزدهر بشكلٍ ملحوظ.

 

فقد بدأت تكتّلات الموضة الضخمة والملوِّثة باختبار الموجة الجديدة من الأقمشة المستدامة وبالاستثمار أكثر وأكثر في آليات التدوير، وتجربة أرضية الابتكارات المحتملة لتبسيط عملية إعادة استعمال فضلات الموضة. والمستهلكون الذين لم يسبق لهم أن وطأت أقدامهم عتبة سوق الفنتيتج صاروا فجأةً يبحثون عبر غوغل عن الصفقات الرابحة لشراء قطع المصمّمين ويعلنون متباهين على صفحاتهم عبر انستغرام أنّهم من مناصري الاستدامة.

 

مع انتشار المعلومات عن الممارسات المؤذية والمخيّبة للآمال التي تقوم بها صناعة الموضة، فاض السوق بالتجّار الصغار الذين يعرضون عبر الانترنت قطعاً مستعملة هدفها التوفير وهم على استعداد تام لتلبية احتياجات قاعدة الزبائن الناشئة لكن المتزايدة باستمرار والتي تجذبها فكرة شراء قطعٍ فريدة ومميّزة عن غيرها بأسعار "لقطة" لم يسبق لها مثيل. طالب جيل الألفيّة والجيل زد الذي يلي جيل الألفية بإلحاح وباستمرار بملابس يتمّ إنتاجها وفقاً لمعايير الاستدامة والأخلاق، وهذا ما شجّع على نشأة ثقافة نامية تقوم على عملية ثلاثية متكرّرة للشراء والاستعمال والبيع، وقد اقترنت مع الارتفاع الأخير لاقتصاد المشاركة الذي يضع حدّاً لمبدأ الملكية النهائية وينتج مئات المنصّات الخاصة بالإيجار فضلاً عن منصّات لإعادة بيع قطع المصمّمين.

 

وعلى ما يبدو أنّ هذا قد منح صناعة الموضة كلّ المكوّنات اللاّزمة لوضع الأسس لمستقبلٍ يرعاه الاقتصاد الدائري. وأخيراً، يبدو أنّ وصمة العار التي كانت ترتبط سابقاً بارتداء الملابس القديمة لشخصٍ آخر – وهي واحدة من آخر القعبات التي تعترض الاستهلاك الثاني – بدأت تتلاشى بسرعة كبيرة. والظاهر، أنّ الجميع يرغب بالتصّرف جيداً وتبنّي إطلالة جميلة وتوفير المال وشراء أغراض مستعملة. وبحسب الإحصائيات، يبدو الأمر واعداً ففي الولايات المتحدة الأميركية وحدها، ازدهر سوق إعادة البيع 21 مرة أسرع من أي قطاع آخر للبيع بالتجزئة خلال الأعوام الثلاث الماضية ومن المتوقّع الآن أن يبلغ 51 مليار دولار مع حلول العام 2023.

 

وليس صعباً أن نعرف السبب! فخلافاً لأسواق الفنتيتج والتوفير التي تبقى في معظم الأحيان خارجة عن نطاق التغطية ولا يزورها إلاّ من يعيش الأصالة ويتنفّسها، تعدّ قاعدة إعادة البيع مناسبة وسهلة الاستعمال والأهم من ذلك مرتبطة بالانترنت، ما يجعلها مشرّعة أمام الاستهلاك العالمي. حتّى أنّ الماركات العملاقة للبيع بالتجزئة مثل Farfetch تنكبّ على الأمر فالعديد منها يفتح قنوات على استرجاع المشتريات القديمة بغية إعادة بيعها. يبدو أنّ فكرة إعادة استخدام المواد القديمة من أجل ابتكار أزياءٍ جديدة – وهي كانت ميزة خاصة بالمواقع التجارية الصغيرة والماركات الناشئة – صارت شائعة الآن نظراً إلى أعداد الماركات العالمية الهائلة التي تُصدر مجموعات كبسولة محدودة من عملية التدوير، بإسم إنقاذ الكوكب.

 

 

ولكن إن كان كبار اللاعبين الأساسيّين في الموضة يستبدلون المواد الخام الجديدة بالأقمشة المخزّنة ويتخلّون عن النفايات الغير قابلة للتحلّل مثل البلاستيك والمنسوجات الاصطناعية لصالح الموارد القابلة لإعادة الاستعمال، كما يقولون، بالتالي لمَ لا تتغيّر الأرقام؟ وفقاً لمؤسّسة إلين ماكارثر، لا تزال صناعة الأزياء حول العالم تُنتج 53 مليون طنّ من الألياف سنوياً، وينتهي 70 في المئة منها في مطامر النفايات أو في النار، في حين أنّ واحداً في المئة منها فقط تتمّ إعادة تدويره.

 

فمن السذاجة أن نظنّ أنّ صناعةً تسترشد بالمسرح وبالتصوّرات بشكل أساسي تتحوّل فجأةً بعد عقودٍ من الخداع المنهجي. قد تكون النفايات نزعةً رائجة ولكن حتّى مع ازدهار السوق الثانوية، ما زالت الأرقام المطلقة، بدلاً من النسب المئوية، تُظهر أنّ جزءً بسيطاً فقط من الصناعة يتّخذ الإجراءات الفعلية. حتّى الآن، ما زالت جهود التدوير ضئيلة وعلى مشارف القضية الأساسية، أمّا استرجاع القطع فليس سوى طريقة سهلة تتبعها الماركات بحجة الاستدامة لتحقيق الربح.

 

 

وحتى المستهلكون الذين دافعوا عن موضوع الاستدامة فهم لا يلتزمون بكلامهم كما يجب. وقد ورد في The State of Fashion للعام 2020 في مجلة Business of Fashion أنّ نسبة مئوية ضئيلة جداً فقط من الأجيال التي تقود حركة الاستدامة مستعدّة لإنفاق المزيد من المال على أزياء منتجة بطرق أخلاقية – وهي قاعدة المستهلكين ذاتها التي تبحث عن بائعين بالتجزئة يخفّضون منتجات غوتشي. فليس مفاجئاً إذاً أن يكون الترف في قطاع الأغراض المستعملة هو الجزء الأكثر نمواً على صعيد الاستهلاك لأنّ الناس يرغبون ببساطة بالحصول على قطع المصمّمين بأسعار مخفّضة. وتتوقّف التصريحات الصالحة التي تقول إنّ الاستدامة هي مستقبل البشرية عند نقطة إعادة بيع الأغراض المستعملة، فهو فعلٌ مادي، سواء كنّا نخاف على البيئة أو لا نفكّر بها أصلاً.

 

ومع إعادة استثمار العائدات في شراء قطع رائجة وقطعٍ لا تتطابق مع الأخلاقيات، يبقى السؤال حول ما إذا كانت السوق الثانوية تقدّم حلاً مناسباً وطويل الأمد لهذه الصناعة. وفي حين أنّ المساهمين الأساسيّين في الموضة ينشغلون في لعبة "افعلها بنفسك"، لا يظهر مستوى النفايات المنتجة أيّة مؤشرات حقيقية عن التباطؤ.

 

إنّها مسألة نظامية تمتدّ عبر سلسلة التوريد بكاملها، مع وجود نفايات مدمجة في كلّ مرحلة من مراحل الإنتاج. وحتّى قبل الوصول لعند المستهلك، يتمّ تجاهل ما يقارب 35 في المئة من مجموع المواد بما في ذلك الفضلات والقطع غير المنتهية والقطع المنتهية التي تظهر فيها عيوب بسيطة أو التي يتبدّل تصميمها في اللّحظة الأخيرة.

 

ومن السلبيات أيضاً أنّ معظم المصنّعين يفرضون أن يكون الحدّ الأدنى من الطلبيات عبارة عن كميات هائلة من القطع، ما يفرض امتصاصاً إلزامياً للفائض الذي يشقّ طريقه نحو تجّار التجزئة. ومن الواضح أنّه وبالرغم من أن السوق الثانوية تبدو كمثل الدواء المثالي لأكبر مشكلة في الصناعة، بيد أنّها لا تفعل شيئاً سوى صرف النظر عن السبب الذي يدفع إلى إنتاج هذا الكمّ الكبير من النفايات بالدرجة الأولى، ما يفسّر الإنتاج المفرط.

 

مرّ وقت كانت فيه الموضة مقسّمة إلى موسمين. ولكن في النصف الأخير من القرن العشرين، ساهم جشع الشركات الكبرى في الترويج للنزعة الاستهلاكية المتمثّلة في ضرورة التجديد المستمرّ ما أنتج آلةً سامّة تُفبرك مواسمَ لا متناهية للموضة وتعمل وفقاً للمعادلة الرابحة للتصنيع الزائل بغية إحداث حالة من الإدمان على الاستهلاك. ومع سعي تلك الشركات إلى ابتكار الجديد بدون انقطاع، غصّت المستودعات بلفائف الأقمشة غير المستعملة وبملايين الأطنان من القطع غير المباعة ناهيك عن بقايا المواد الخام التي تتكدّس في كلّ مرحلة من مراحل إنتاج قطعة من الملابس.

 

هناك إذاً سبب وجيه لانطلاق مفهوم اقتناء القطع المستعملة بهذه السرعة. فالسوق يفيض بالملابس غير المباعة أو المتروكة ما يسهّل نسبياً على الشركات العمل على بعض الأزياء المدوّرة هنا وهناك مدّعيةً أنّها تتربّع على عرش الاستدامة. هناك بعض الاستثناءات طبعاً فقد طوّرت بعض الشركات على غرار Oxfam وPatagonia مرافق داخلية متقدّمة لاسترجاع المنتجات وإعادة تدويرها وإعادة استخدام الملابس – ولكن إظهاراً لحسن نيّتها، تجمع العدد الهائل من الملابس المتروكة والمتكدّسة كلّ سنة وتحوّل جهودها إلى ما يشبه بناء سدّ يقف في وجه التسونامي.

 

وأخيراً، إنّ العدد الأكبر من النفايات التي لا يمكن رميها في المطامر ينتهي بها الأمر في بلدان الاقتصادات المتخلّفة في أنحاء أميركا الجنوبية وأفريقيا. وهذه ممارسة صامتة وبائسة تُعطِّل تطوّر صناعات الملابس الخاصة بها. تزداد المشكلة سوءً لأنّ أيّ حلّ للتدوير الفعّال يعتمد على نوعية المدخلات. وبما أنّ معايير الصناعة هي في أدنى مستوياتها لا يمكن الاستفادة كثيراً من الأغراض التي نعيد استعمالها. وإنّ عدم فعالية مشاريع إعادة استعمال السلع ينكشف من خلال إقفال مصانع تدوير القماش مؤخراً بعد أن كانت قد عملت لأكثر من ثلاثين عاماً في المملكة المتّحدة. ومقارنةً مع العقدين السابقين، يتمّ الآن فرز غالبية القطع التي تدخل في المسار وتوضع في خانة الأغراض غير المستعملة وغير المرغوب بها – وهذا القدر نفسه سيطال الملابس المنتجة بطريقة مستدامة خلال فترة ليست ببعيدة عن اليوم.

 

وقد بدأت الأسواق فعلاً بخفض الأسعار لكي تتماشى مع البدائل الأنيقة وتشجّع على عمليات الشراء. كيف بإمكاننا أن نأمل بإغلاق الحلقة، وهي المرحلة الأخيرة من بلوغ الاقتصاد الدائري الشرعي، إن كان معظم ما يتمّ إنتاجه أقلّ ديمومةً وأكثر تدنياً عن المعدل؟ وسط محيطات النفايات المتروكة خلف آلة الموضة الخارقة، تنكشف واحدة من أوسخ أسرار الموضة: فماذا تفعل الماركات الراقية والمعروفة بالمنتجات التي تبقى مخزّنة من دون أن تُباع. خلال السنوات القليلة الماضية، أُشير إلى عدد من الماركات المشهورة والبارزة بسبب ممارستها الفاضحة في حرق مئات ملايين الدولارات من القطع الفائضة والتي يمكن ارتداؤها بلا مشكلة، بدلاً من إعادة تدويرها أو إعادة بيعها بأسعار مخفّضة أو حتّى وهبها لجمعيات خيرية. في العام 2018، اعترفت شركة ريتشمونت القابضة بتدمير ساعات تقدّر بمبلغ 563 مليون دولار، وهي ليست الوحيدة إذ تطول القائمة بشكلٍ صادم مع بربري ولويس فويتون ونايكي ولا تقتصر على الموضة وحسب. فقد أُمسك بشركة أمازون السنة الفائتة في ألمانيا وهي تدمّر أطناناً من أغراض المنزل والقطع الالكترونية المرتجعة.

 

ولا شكّ في أنّ نشأة التجارة الالكترونية قد كان لها دور أيضاً في مفاقمة مشكلة السلع غير المباعة بسبب سياسات الإرجاع المفتوحة في هذه الصناعة، ولكنّ هذه التفصيل الصغير يكشف عن عاملٍ مهمّ يميّز أسواق السلع الاستهلاكية في القرن العشرين: وهو الفرق الشاسع بين سعر المبيع وقيمة المنتجع الفعلية. وعلى الرغم من عدم قبول أيّة ماركة الاعتراف بذلك، فإنّ كلفة الإنتاج الكاملة لا تشكّل سوى جزءً صغيراً من سعر التجزئة – لا سيما في مجال الترف. إذ إنّ ما ندفع ثمنه ليس سوى نفقات تسويقية غير متناسقة، ممّا يُدخلنا في حلقة مفرغة حيث يتمّ تبرير الأسعار المحلّقة بواسطة مسرحٍ من الصور والروايات والتلاعب العاطفي مثل الممارسات المضلّلة المتمثّلة في اختلاق وهمٍ يدور حول عنصر الندرة من أجل خلق قناعة بأنّ تلك القطع حصرية للغاية.

 

أمّا السبب الذي يدفع بالماركات إلى حرق مخزونها بدلاً من بيعه بأسعار مخفّضة في الموسم المقبل فهو – علاوةً على أنّ كلفة الحرق أقلّ – فهو أنّ تلك الماركات لا تكسر من أسعار منتجاتها لأنّ ذلك يضرّ بصورة الماركة اللامعة التي تفرض بذل مجهود كبير للمحافظة عليها. وفي وقتٍ يجب أن تظلّ فيه السوق الثانوية المتطوّرة جداً بمثابة استراتيجية أساسية ضمن مخطّطات تحويل الصناعة، يبدو واضحاً أن الحلول غير موجودة للتخلّص من مشكلة الإنتاج الفائض، وهو السبب الأساسي خلف مراكمة نفايات الموضة. وفي الوقت الحالي، هناك العديد من المصالح المتضاربة بين المبادرات النادرة الحقيقية الموجودة في صناعة الموضة والقادرة على إحداث تغيير فعليّ، والطريقة التي يعمل فيها الناشطون في هذا المجال.

 

من الواضح أنّ الطريق لا يزال طويلاً أمام صناعة الموضة قبل أن تتمكّن من الحدّ من التشقّقات والبدء بمعالجة أسباب المشكلة الحقيقية مثل التجديد المكثّف. أمّا ملخّص هذه المسألة فهو سؤال بسيط عن التصميم: يجب تسيير الموارد نحو إعادة ابتكار عجلة الموضة بغية التكلّم عن مسارات الإنتاج الحالية القديمة وتفكيكها وإعادة تجميعها بطريقة فعّالة من حيث الكلفة على الماركة والاستدامة على المدى الطويل. يكمن الحلّ الوحيد في تجديد نظام الإنتاج بالكامل بطريقة تتماشى مع الطريقة التي نستهلك بها. نعم، هذا أمر معقّد للغاية لكنّه ضروري جداً للتخلّص من الشبكة الذاتية التي تقوم على قيمٍ غير مجدية بطبيعة الحال.

 

 

نص: شانتال بروكا

تصوير: اسماعيل زيدي

المزيد
back to top button