أفلتَت زمام الأمور مِن يدَيّ لحظة قبلتُ الزواج مِن مُراد، لكنّني لَم أعِ ذلك تمامًا بل فسَّرتُ الأمر وكأنّه إهتمام ومحبّة. كنتُ قد دخلتُ برجلَيَّ وكر نساء لا ترحمنَ أحدًا، خاصّة التي أخذَت منهنّ رجُل العائلة الوحيد. أتكلّم طبعًا عن أمّ مُراد وأخواته.
فذلك الشاب كان الإبن الأصغَر والوحيد، وقد لقيَ طوال حياته إهتمامًا ودلَعًا لا مثيل لهما، ومحطّ آمال عالية أقرَب إلى الخيال مِن الواقع. كبُرَ مُراد وصارَ مُهندسًا ناجحًا، حسب تصوّرهنّ جميعًا، بعد أن ماتَ أبوه وهو فخور به. ومنذ تلك اللحظة، أمسى مُراد ربّ عائلة مِن دون نفوذ فعليّ، بل فقط صاحب لقَب فارغ المعنى. فللحقيقة، ذلك السّرب المؤلف مِن الإناث كان الآمر الناهي. والجدير بالذكر أنّ أيًّا منهنّ لَم تتزوّج في انتظار أن تفرحنَ بأخيهنّ.
تعرّفتُ إلى مُراد في مكان عمله حيث كنتُ سكرتيرة، والإعجاب المُتبادل تحوّل إلى حبّ وإلى تخطيط لشراكة زوجيّة. أحببتُ هدوء وثقة ذلك الشاب الوسيم، وعرّفتُه بسرعة إلى أهلي الذين أحبّوه فعلاً. أمّا هو، فبقيَ يُرجئ أخذي إلى عائلته مُتحجِّجًا بأعذار مُختلفة أقنعَتني في بادئ الأمر. ثمّ وجدتُ أن هناك شيئًا مُريبًا، لكنّني لَم أُصِرّ عليه خوفًا مِن مُضايقته، وتركتُه يختار على سجيّته الوقت المُناسب لإدخالي بيتهم. هو كان يعلَم أنّني لن أنتظرُ إلى الأبد وكذلك أهلي لِذا قال لي في أحد الأيّام:
ـ سآخذُكِ لزيارة أمّي وأخواتي بعد يومَين... فلقد تمّ الاتّفاق على هذا الموعد.
ـ إتّفاق؟ موعد؟
ـ أجل، أردتُ أن تكنّ جميعهنّ موجودات، فهكذا أفضل. فأخواتي كثيرات الإنشغال... ستحبّينهنّ... وستحبّنَّكِ... فلقد كلمّتُهنّ كثيرًا عنكِ وعن خصالكِ الحميدة. ويا ليتكِ تتفهّمين تعلقهنّ بي خاصّة بعد موت أبي.
ـ أستطيع تفهّم الأمر تمامًا.
ـ أقصدُ... قد تسمعين منهنّ مُلاحظات مُعيّنة... فلا تأبهي لها.
ـ مُلاحظات؟
ـ لا عليكِ فسأكون معكِ.
كلام حبيبي شغَلَ بالي، ولَم أنَم جيّدًا خلال الليلة التي سبقَت "الموعد" المذكور. عملتُ جهدي لإختيار الملابس المُناسبة، ومرَّ بي مُراد لإصطحابي إلى منزله حيث كانت "القبيلة" بإنتظاري.
فتحَت لنا الباب شقيقته الكبرى، ونظرَت إليّ مِن رأسي إلى أسفَل قدَمَيّ لتقول لي بجفاف: "أهلاً بكِ، تفضّلي إلى الداخل". وجدتُ في الصالون الأمّ وباقي الأخوات جالسات كالأصنام على عرش وهميّ. لَم تبتسِم لي أيّة منهنّ، بل بقينَ تتفحّصنَ التي ستصبحُ زوجة مُراد. جلستُ على كرسيّ ومرَّت دقائق طويلة قبل أن سألَتني العجوز الأسئلة التقليديّة. ودخلَت الأخت الكبرى ومعها الشاي الذي تناولناه بصمت رهيب، ومِن ثمّ عرَضَ عليّ حبيبي أن نرحَل... وانتهَت المُقابلة. وفي طريق العودة قال لي مُراد: "أعرفُ أنّنا لسنا تمامًا كباقي الناس لكنّنا طيّبون، سترَين يا حبيبتي".
وقبل موعد الزفاف بأيّام قليلة، علِمتُ مِن مُراد أنّنا سنعيشُ مع ربعه وليس في بيتنا الجميل الذي كنتُ قد وضعتُ لمساتي فيه بكلّ حبّ وأمَل. حاولتُ المُناقشة إلا أنّ القرار كان قد تمّ اتّخاذه. هل أتراجعَ في آخر لحظة عن الزواج؟ لا، طبعًا، فخطيبي كان بالفعل إنسانًا مُميّزًا، ولا يجدرُ بي تركه مِن أجل تفاصيل. تفاصيل؟!؟ وهل العَيش مع تلك الأفاعي كان أمرًا يُستهان به؟
في البدء وجدتُ أنّ السكن مع أهل زوجي له حسناته، فبفضل ذلك إستطعتُ البقاء في عمَلي، لأنّ ثمّة مَن يهتمّ بالترتيب والتنظيف والطهو. كلّ ما كان عليّ فعله كان أن أعود في المساء مع زوجي لتناول العشاء مع أهله ومِن ثمّ الجلوس معهنّ قليلًا قبل أن نقصد غرفتنا. صحيح أنّ الأجواء كانت مُتشنّجة بعض الشيء، لكن مع الوقت كانت الأمور ستتحسّن، أو هكذا ظننتُ.
أصرَّت أمّ مُراد أنّ علينا الإنجاب بسرعة فلا منفعة مِن الإنتظار. سألتُ زوجي ما دخل أمّه في موضوع لا يعني سوانا، وهو شرَحَ لي أنّها تودّ رؤية حفيد لها قبل أن تموت، خاصّة أنّه كان الوحيد الذي تزوّج. ومنذ ذلك اليوم، عمِلَ زوجي جهده لأحَمل، ونجحَ بذلك. وحين ولدتُ إبني... صارَت حياتي حلمًا مُزعجًا تمنَّيتُ لو أصحى منه.
فتلك النساء الشرّيرات قرَّرنَ أنّ المولود هو لهنّ، وأنّني إذ قمتُ بمهمّتي لَم يكن هناك مِن حاجة إليّ بعد ذلك. وسرعان ما فهمتُ ما يجري مِن تصرّفات الجميع، أيّ كيف أنّني صرتُ بمثابة خادمة وطاهية وفقدتُ صفتي كأمّ.
وأوّل شيء فعلَته عائلة مُراد كان الفصل بيني وبينه، بحجّة أنّ المولود يُبقيه مُستيقظًا ليلاً بصراخه. لِذا هنّ نقلنَ أمتعتي إلى غرفة أخرى مِن دون أذني أو حتى إستشارتي. قبّلَني زوجي بحنان شاكرًا لأنّني أخذتُ بعَين الإعتبار تعبه الليليّ وحاجته إلى النوم للقيام بعمله في اليوم التالي. وهو أملَ أن نتقاسم الغرفة نفسها مُجدّدًا فور توقّف إبننا عن الرّضاعة. إبتسمتُ له وقصدتُ غرفتي الجديدة لكنّني تفاجأتُ بإيجاد سريرَين وملابس إحدى أخوات زوجي. وتبَّين لي أنّها ستتقاسم معي الغرفة "لِتُساعدني بالطفل". شكرتُها مُمتنّة لها، لكنّني شعرتُ بإنزعاج حيال الأمر إذ كنتُ أحبّ خصوصيّتي.
بقيَ الوضع على حاله لمدّة ستّة أشهر لَم أجتمع مع زوجي خلالها إلا بحضور أهله، أيّ أنّنا لَم نتشارَك السرير قط. وجدتُ الأمر مُريبًا، فكان مُراد يُحبّ التواجد معي ولَمسي... أو أنّ ذلك كان فقط بِغرَض الإنجاب؟
كنتُ قد عدتُ إلى عمَلي بصورة طبيعيّة بعد انتهاء فرصة الأمومة، واستقبلَني الزملاء بفرَح مُهنّئين. لكن بعد فترة، لاحظتُ نظراتهم المُعاتِبة وإبتعادهم عنّي. وعندما شاركتُ زوجي ما لاحظتُه، طمأنَني قائلاً: "لا بدّ أنّكِ أسأتِ التصرّف في مكان ما". لَم أفهم معنى كلامه هذا وقرّرتُ تجاهل الموضوع. إلا أنّ إحدى الموظّفات قالَت لي ذات يوم إنّ عليّ أن أخجَل مِن نفسي على ما أفعله، وإنّ هناك سيّدات تتمنَّينَ أن تستطعنَ الإنجاب والإهتمام كما يجب بمولودهنّ. ماذا عَنَت تلك الموظّفة؟؟؟ كنتُ سأعرفُ الجواب بعد فترة قصيرة.
مرَّت أسابيع قليلة إلى حين وجدتُ أمّ وأخوات مُراد بإنتظاري في الصالون، لحظة وصلتُ مع زوجي مساءً مِن العمَل. أجلسوني وقالَت لي الأخت الاكبر:
ـ سترحلين مِن هنا مع أمتعتكِ... وسنحتفظ بالولَد.
ـ ماذا؟ ما هذه الدعابة السخيفة؟ إسمعي، كان يومي طويلاً ولستُ بمزاج للمزح.
ـ نحن لا نمزَح. أسألي زوجكِ.
إستدَرتُ إلى مُراد الذي أزاحَ نظرَه عنّي وقال:
ـ أنتِ تمنَّعتِ عن القيام بواجباتكِ الزوجيّة تجاهي.
ـ أنا؟ أنتَ الذي أرسلتَني إلى غرفة أخرى مع إبننا بحجّة أنّكَ تودّ أن تنام بسبب عملكَ!
ـ بل كانت فكرتكِ أنتِ. وانتظرتُ أن تعودي إلى سريرنا لكنّكِ امتنعتِ عن ذلك حتى اليوم. أنا رجُل ومِن حقّي أن أحظى بزوجة وحياة زوجيّة طبيعيّة.
ـ لقد كذبنَ جميعهنّ عليّ، فقلنَ لي إنّكَ مُرتاح هكذا ولا تودّ أن أعودَ إلى غرفتنا. صدّقني أرجوكَ! أنا الأخرى إنتظرتُ أن نستعيد حياتنا الزوجيّة وظننتُ أنّكَ لَم تعُد تهوى لَمسي!
ـ إضافة إلى ذلك، علِمتُ أنّكِ تهملين إبننا وتصرخين عليه عندما يبكي، وأنّكِ في إحدى المرّات هزَزتِه بقوّة فائقة لِدرجة أنّه كادَ أن يموت. ناهيكِ عن تلك المرّة التي أسقطّيه مِن بين ذراعَيكِ أرضًا. أيّ أمّ أنتِ؟!؟
ـ لَم يحصل أبدًا أيّ مِن الذي أخبرنَك به! إنّها إفتراءات! أحبُّ وأهتمُّ بولَدنا وأنا أمّ جيّدة! كيف تُصدّق قصصًا كهذه؟!؟ إنّهنّ كاذبات!
ـ لا تتكلّمي عن عائلتي هكذا! أنتِ الكاذبة! لقد وثقتُ بكِ لكنّكِ إنسانة مُهملة وغير قادرة على تحمّل مسؤوليّة الزواج والإنجاب! إرحلي مِن بيتنا! ونحن سنهتمّ بالمولود كما يجب.
ـ لن أتركَ إبني أبدًا! إنّكم لقومٌ مجانين!
ـ إذًا سنشتكي عليكِ ونأخذ الولد بالقانون. لدَيّ شاهدات مُحترمات ولن يُصدّق أي قاضٍ كلامكِ على كلامنا.
ثمّ تدخّلَت الأمّ:
ـ لا تُثيري الجلبة... زواج إبني منكِ كان غلطة منذ البدء... إرحلي بصمت فلن تستطيعي تكذيبنا أبدًا. سنهتمّ بالمولود جيّدًا ولن ينقصه شيءٌ على الإطلاق. سنربح الدعوى بسهولة، وأنت كلّ ما ستجلبينه لنفسكِ هو الفضيحة والعار. يا لَيتكِ لَم تطئي بيتنا قط!
ركضتُ إلى غرفتي لأتّصل بأهلي الذين أوكلوا مُحاميًا على الفور. لكنّ الرجُل، بعد إطّلاعه على كلّ المُعطيات، تنازلَ عن قضّيتي لإستحالة ربحها، ونصحَني بالرحيل لوحدي مِن بيت مُراد. أضافَ أنّني قد أُعاقَب إن ثبُتَ أنّني عنّفتُ ولَدي. يا إلهي... كيف لهذا أن يحصلَ لي ولإبني؟!؟
جاء والدي ليأخذني وأمتعتي إلى بيتنا، وبكيتُ كلّ دموعي حين إنسلختُ عن إبني الحبيب الذي كان سيربى مِن دوني وفي قلبه حقد عليّ، فمِن المؤكّد أنّ مُراد وعائلته سيختلقون له قصصًا سيّئة عنّي. أليس هناك مِن عدالة على الإطلاق؟!؟ أين هي العدالة الإلهيّة التي تنصرُ المظلومين؟ وعلى عتبة باب هؤلاء الناس الشرّيرين، ركعتُ أرضًا وصرختُ: "حسبي الله ونعم الوكيل!". فأسرَعَت الأخوات بحَملي خارجًا وإقفال الباب ورائي. بقيتُ أردّدُ إستنجادي بالخالق حتى وصلتُ بيت أهلي وعانقَتني أمّي باكية. يومٌ فظيع هو اليوم الذي تُسلَخ أمٌّ عن ولَدها!
ثمّ طلّقَني مُراد لينتهي منّي نهائيًّا. كيف صدَّقَ تلك الأكاذيب عنّي؟ ألَم يُحبُّني قط؟ لكنّني عدتُ واستوعبتُ قوّة ومدى سيطرة أمّه وأخواته عليه، وكيف أنّه لطالما كان كالدُمية بين يدَيهنّ. فهنّ كنّ الحاكمات الآمرات في ذلك البيت، وغلطتي كانت أن قبلتُ بالعَيش معهنّ، فكان مِن الأفضل لي أن أبقى عازبة مدى الحياة! فكيف أمحو الآن صورة وصوت ورائحة إبني مِن ذاكرتي؟ أعيدوه إليّ أرجوكم!!!
تركتُ عمَلي في الشركة بعد أن صدّقَ زملائي تلك الأخبار البشعة عنّي والتي كان يرويها لهم مُراد منذ فترة. وجدتُ وظيفة أخرى، الأمر الذي ساعدَني على نسيان ما حصَلَ لي، لكنّني لَم أنسَ إبني طبعًا.
وبعد سنة، حصلَت المُعجزة!
فلقد وجدَت نساء عائلة مُراد عروسًا على ذوقهنّ وأردنَ تزويجه مُجدّدًا. إلا أنّ تلك الصبيّة رفضَت رفضًا قاطعًا وجود إبن إمرأة أخرى في البيت وهدّدَت مراد بتركه. وهكذا إستطاعَت فرض رأيها، لأنّها ثريّة وإبنة أناس معروفين، على خلافي. وفي أحد الأيّام، دقَّت أخت مُراد باب منزل أهلي حاملة الولَد وأعطَته لي. لكنّني أصرَّيتُ أن أحصل على تنازل رسميّ وقانونيّ لمُراد عن إبنه، فلَم أعُد أثقُ به على الإطلاق. وصارَ إبني معي أخيرًا ولن يأخذه أحد منّي أبدًا! لو أستطيع تقبيل وشكر عروس مُراد! فلولاها، لعشتُ حياتي كلّها وأنا أبكي على فراق ولَدي.
لكنّ فرحة زوجي السابق وأمّه وأخواته كانت قصيرة الأمد، لأنّ العروس الجديدة فهمَت موازين القوى في ذلك البيت وطلبَت مِن مُراد أن ينتقلا إلى بيتهما الخاصّ. لكنّه لَم يستطع تلبية طلبها، أوّلاً لأنّ عائلته لن تتخلّى عنه وثانيًا لأنّه غير قادر على العَيش بعيدًا عنهنّ. لِذا هو وجَدَ نفسه مُجدّدًا وحيدًا، فهكذا رجال لا يجدرُ بهم أن يتزوّجوا إطلاقًا.
أنا مُتأكّدة مِن أنّ الله هو الذي وضَعَ تلك العروس في طريق مُراد، ليعود لي إبني، ومِن ثمّ أخرجَها هي الأخرى مِن مأزق كبير كان بإنتظارها. وأنتم، ما رأيكم؟
حاورتها بولا جهشان