يا لَيتني علِمتُ مُسبقًا أنّ يومًا سيأتي وتُصاب زوجتي بالمرَض، فما كنتُ تزوّجتُها. لا تُسيؤوا فهمي، فلستُ جبانًا أو أنانيًّا على الإطلاق. إلا أنّ حالة زوجتي الصحّيّة تسبّبَت لنا جميعًا بِمآسٍ كبيرة.
يوم شُخِّصَ لِلينا داء السرطان، أُصِبنا بالإحباط طبعًا. فبالرغم مِن شيوع هذا المرَض حولنا، لَم نعتقِد أنّه سيدخلُ عائلتنا. طمأنَنا الأطبّاء بأنّ الورَم الموجود في صدر زوجتي لا يزال صغيرًا، وأنّ استئصاله واجراء العلاج الكيميائيّ سيقضيان عليه نهائيًّا. أعطَيتُ زوجتي الدّعم اللازم والكامل لتستطيع تحمّل ما ينتظرُها، وكذلك فعَلَ كلّ أفراد عائلتَينا وحتى أولادنا الذين كانوا لا يزالون في سنّ المُراهقة. بكلمة، كانت لينا مُحاطة جيّدًا وقادرة على مواجهة فترة عصيبة.
تساقطَ شعر زوجتي، وأقنعتُها بأنّها تبدو جميلة هكذا، ورافقتُها في كلّ جلسة علاج مُمسكًا بِيَدها وقائلاً لها كلمات تشجيع. الندبة التي تركَتها العمليّة الجراحيّة في صدرها كانت قبيحة، إلا أنّني لَم أعتبِرها فقدَت شيئًا مِن أنوثتها.
تخطَّت لينا أخيرًا كلّ تلك المراحل المؤلمة جسديًّا ونفسيًّا، وبقيَ علينا الانتظار خمس سنوات قبل أن نُعلِن رسميًّا إنتصارنا على المرَض. مِن ناحيتي، اعتبرتُ أنّ زوجتي شُفيَت وتحضّرتُ لِمتابعة حياتي معها حيث توقّفَت، فكَم اشتقتُ لراحة البال!
ما الذي حدَثَ لِلينا كي تتغيّر هكذا؟ فلقد بدأتُ أُلاحظُ في نظراتها لي شيئًا لَم أستطِع تفسيره، لكنّه كان مُريبًا. هل كانت نظرات غضب أو كره أو لامبالاة أو حتى نقمة؟ تفاجأتُ بالذي شعرتُ به إذ اعتبرتُ أنّه لا أساس له. ما الذي اقترفتُه بحقّ زوجتي؟ لا شيء، صدّقوني. أولادي نفسهم انتبهوا كيف أنّ أمّهم تُحدّقُ بي، فطلبوا منّي عدَم الاكتراث للأمر بل اعتباره ردّة فعل على المرَض والعلاج، مؤكّدين لي أنّها ستعود إلى طبيعتها بعد فترة ليست بطويلة. وبالطبع رفضَت زوجتي أن ألمسَها أو حتى أن أقتربَ منها، وأنا سكتُّ فلستُ إنسانًا جاهلاً وأعلَمُ أنّها قد تشعرُ بالخجَل حيال شكل صدرها، وتخشى أن أشمئزّ منها أو شيئًا مِن هذا القبيل.
بعد أيّام، وجدتُ غطاءً ووسادة موضوعتَين على الأريكة في الصالون، وفهمتُ أنّ لينا قد طرَدَتني مِن الغرفة الزوجيّة. رحتُ أسألها عن السبب فقالَت:
ـ هكذا أُريدُ.
ـ مِن دون سبب؟ ما الأمر يا لينا؟ هل اقترفتُ خطأً بحقّكِ؟ لَم أترككِ خلال مرضكِ بل العكس. أنا أحبُّكِ كما في اليوم الأوّل وكلّ ما أُريدُه هو مُتابعة حياتي معكِ.
ـ ستنام في الصالون.
ـ وإن رفضتُ ذلك؟
ـ سأتركُ البيت وأرحَل.
نمتُ على الأريكة فقط كي لا تتأزّم الأمور وليتسنّى لي فهم ما يحصل. فما ذنب أولادنا؟ ألَم يكفهم مرَض أمّهم؟ وفي الصباح، رأيتُ ابنتي البكر جالسة على مقعد بالقرب مِن الأريكة، وقالَت لي حين فتحتُ عَينَيّ:
ـ إنّها تتلاعبُ بكَ. لا تنكسِر أمامها.
ـ أمّكِ لا زالَت تتعافى مِن داء خطير... علينا تحمّل تقلبّات مزاجها. ستعودُ إلى طبيعتها قريبًا.
ـ أيّ طبيعة تتكلّم عنها يا أبي؟ فاليوم هي ليست أسوأ بكثير مِن قَبل مرضها.
ـ هذا ليس صحيحًا!
ـ بلى، إلا أنّكَ تحبُّها لِدرجة أنّكَ لا ترى الحقائق. هل جلبَت لكَ أمّي ولو هديّة واحدة بمُناسبة عيد ميلادكَ أو عيد الأب أو عيد زواجكما؟
ـ لا، لكن...
ـ هل كانت تسألُكَ عن نهاركَ حين تعود مِن العمَل؟
ـ لا...
ـ كيف واستكَ حين توفّيَت والدتكَ؟ كلّنا شعرنا بحزنكَ العميق عليها وفعلنا جهدنا لمواساتكَ. أمّا هي، فماذا فعلَت أو قالَت؟
ـ هي لبِسَت الأسود على أمّي.
ـ وعانقتكَ ونشّفَت دموعكَ؟
ـ لا... لكن ما الذي تريدينَه؟!؟
ـ أريدُكَ أن تحترِس منها ليس إلا.
للحقيقة لَم يؤثّر بي كلام ابنتي، فلطالما كانت تتشاجر مع أمّها حول أيّ موضوع. كنتُ أحبُّ زوجتي كيفما كانت، لكنّها، وكما علِمتُ لاحقًا، لَم تكن تُحبّني. فالسرطان وعلاجاته العديدة كانت قد فتَحَت عَينَيها على حقيقة مشاعرها نحوي، أي أنّها كانت تلعبُ دور الزوجة الصالحة رغمًا عنها، وفقط لأنّ المُجتمع طلَبَ منها ذلك وكذلك وجود أولادها.
وبعد أن شفيَت أخيرًا، هي اعتبَرت أنّ الوقت حان لتجِد الحبّ وتعيش سعيدة مع رجل آخر. ولَم أتصوّر أنّ أحدًا يفعلُ ما هي فعلَته. هل يُعقَل أنّها تغيّرَت إلى تلك الدرجة أم أنّ حبّي لها فعلاً أعماني؟
فتلك المرأة التي لطالما تحلَّت بالأخلاق والقيَم ومخافة الله وربَّت أولادها على تلك الأسس، تسجّلَت على أحد مواقع التعارف على الإنترنِت مُدّعية أنّها مُطلّقة وأنّ أولادها يعيشون مع طليقها، ونشرَت صورًا لها أصفُها بالجريئة. علِمتُ بوجود هذا الحساب لاحقًا بفضل ابنتي البكر التي نبّهَتني سابقًا مِن أمّها.
وبالطبع تجاوَبَ العديد مِن الشبّان والرجال مع لينا التي احتارَت لكيفيّة التعامل مع هكذا عدد، وشعرَت حتمًا بأنّها لا تزال قادرة على جذب الجنس الخشن إليها. وما هو أفظَع، هو أنّها أخذَت تُخبرُ مُعجبيها أنّني أسأتُ مُعاملتها أثناء مرضها، لدرجة أنّها فضَّلَت تركي على العَيش معي، أو كما قالَت حرفيًا "مع الوحش".
ثمّ انتقلَت لينا إلى الدرجة الأعلى وهي التعارف الفعليّ مع مُعجبيها. أودّ التنبيه بأنّني كنتُ لا أزال أجهلُ كلّيًّا ما يدورُ، وآمّل استرجاع حنان لينا، وذلك بعدَم المواجهة والنوم ليليًّا على الأريكة.
راحَت زوجتي تقابلُ هؤلاء الذين وجدوها مُغرية كفاية لإقامة علاقة معها، وهي اختارَت واحدًا منهم اسمه سعيد. تمّ اللقاء الذي تتوجّ بقبلة حارّة أعربَت عن سعادتها بها على الواتساب، وبكلّ وقاحة: "لَم يُقبّلني أحدٌ مثلكَ مِن قَبل... وأنتظرُ بفارغ الصبر أن أشعر بِملمَس يدَيكَ على جسدي". أجل، قرأتم جيّدًا... هكذا حكَت زوجتي المصونة مع إنسان غريب عنها. بعد ذلك، أقامَت لينا علاقة جنسيّة مع الذي أصبَحَ عشيقها والذي كان مُتزوّجًا ولدَيه أولاد. كان سعيد مثلها تمامًا، إنسانًا عديم الأخلاق.
حجزتُ لي ولزوجتي رحلة على متن باخرة فخمة لنحتفل رسميًّا بشفائها، إلا أنّها رفضَت بطريقة بشعة للغاية. فهي قالَت لي:
- أتحسبُني قادرة على قضاء أكثر مِن ساعة واحدة برفقتكَ؟ وتريدُني أن أبقى معكَ مدّة أسبوع بكامله محجوزة وإيّاكَ؟ إنّكَ تحلَم يا عزيزي. على كلّ الأحوال، لدَيّ مشاريع خاصّة بي... فأنا ذاهبة وصديقاتي إلى ما وراء الحدود. سأرحلُ بعد أيّام.
حزنتُ كثيرًا، فكان مِن الواضح أنّ زوجتي لَم تعُد تتحمّلُني على الإطلاق. لكن ما سبب تصرّفها هذا؟ هل هو نتيجة العلاج الكيمائيّ أو أنّ طول المرَض أثَّرَ على توازنها النفسيّ؟ سألتُ طبيبها المعالج عن الأمر وأخبرتُه بالتفاصيل عمّا يجري، فأجابَني بأنّ بعض المرضى يشعرون بالإحباط والكآبة، لكن ردّة فعل زوجتي كانت مُخالفة تمامًا. وأضافَ الأخصّائيّ:
- مِن الواضح أنّ هناك مشاكل زوجيّة بينكما لا تُنذرُ بالخَير.
وقبل ذهاب لينا في رحلتها بأيّام معدودة، صارحَتني ابنتي البكر بالذي تفعلُه أمّها. فهي استطاعَت دخول هاتف أمّها بعد أن سمعَتها تتكلّم مع رجل بطريقة حميمة للغاية، وفتحَت صفحتها على موقع التواصل وحسابها على الواتساب ومِن ثمّ أخذَت صورًا عن كلّ تلك الأحاديث. وعندما رأيتُ تلك الصوَر، وجدتُ صعوبة قصوى بتصديق أنّ التي تفعلُ وتقولُ تلك الأمور هي بالفعل لينا. كان الأمر وكأنّها إنسان آخر بالفعل. ذرفتُ الدموع بعد أن علِمتُ أنّ زوجتي تخونُني بوقاحة لا مثيل لها، وأنّها تنوي السفَر مع ذلك الذي اسمه سعيد ليقضيا، وحسب قولها في إحدى الرسائل، "فرصة مليئة باللذّة المُطلقة."
إنتظرتُ حتى مساء سفَرها حتى تكلّمتُ مع لينا طالبًا منها عدَم الرحيل. أطلعتُها على كلّ الذي علمتُه بشأنها، واعدًا إيّاها بمُسامحتها إن غيّرَت رأيها. نظرَت إليّ زوجتي باستغراب ثمّ قالَت لي بتهكّم:
ـ هل أنتَ جادّ؟!؟ أنتَ مُستعدّ لمسامحتي بعد أن علِمتَ أنّني أمارسُ الجنس مع غيركَ؟
ـ أحبُّكِ يا لينا ولدَينا عائلة.
ـ تبًّا لكَ وللعائلة! أنا اليوم صرتُ حرّة!
ـ لا تزالين زوجتي يا لينا.
ـ لا أُريدُكَ بعد اليوم! حرّيتي أهمّ مِن كلّ شيء!
ـ لقد أثَّرَ عليكِ المرَض كثيرًا وأتفهّم...
ـ لن تفهَمَ أبدًا ما أعطاني إيّاه مرَضي! أريدُ أن أعيشَ وبعيدًا عنكَ وعن هؤلاء الذين أسمهم أولادي! وداعًا.
ورحلَت لينا ولَم تعُد. إنتظرناها كثيرًا حاسبين أنّها تمرّ بمرحلة عابرة، واتّفقنا على استقبالها بأذرع مفتوحة حين تعود. ولكن طالَ انتظارنا وفهمنا أنّها سعيدة حيث هي ومع مَن هي.
طلّقتُ زوجتي بعد سنتَين. كنتُ قد تمسّكتُ بأمل رجوعها إلى أن استسلمتُ أخيرًا لواقع صعب التصديق.
فكّرتُ جيّدًا بكيفيّة تعامل كلّ منّا مع الأحداث التي تحلّ بنا كالمَرض. فالبعض يتّعظُ والآخر يتوبُ أو منهم ما يُقدّرون هبة الصحّة والحياة. حظّي كان سيّئًا، فوقعتُ على إنسانة أنانيّة وخائنة قلبُها مليء بالغضب والكره. يا للأسف!
حاورته بولا جهشان