إيمان البلوشي ورحلة ملهمة في التعليم والتأليف

من التغلّب على العوائق المجتمعية إلى تغيير المشهد التعليمي، اكتشفي القصة الرائعة لإيمان البلوشي، رائدة إماراتية في التعليم والتأليف.

 

لا تقتصر قصة حياة إيمان البلوشي على الإنجاز الشخصي فحسب، بل إنّها شهادة على القوة التحويليّة للتعليم والقدرة على الصمود. باعتبارها أول معلمة لغة إنكليزية إماراتية في أبو ظبي، ومؤلّفة بارزة ورائدة في تعليم الرعاية الصحية، تُظهر رحلة إيمان عبر العقبات الشخصية والمهنية تأثيرها العميق على النظام التعليمي في دولة الإمارات العربية المتحدة. قصّتها هي منارة للإلهام، تبيّن كيف يمكن للالتزام والشغف الذي لا يتزعزع أن يؤدّي إلى تغييرات دائمة في المجتمع وإلى تمكين الجيل الصاعد والأجيال القادمة.

"لقد نشأت في أسرة مهتمّة بأولادها، حيث كانت والدتي ربّة منزل مخلصة وكان والدي يدعمنا بجدّ. في تلك الأيام، لم يكن تعليم الفتيات يحظى بالأولوية كما كان الحال بالنسبة للبنين. لكن والدتي أقنعت والدي بالسماح لي بالدراسة، وكانت هذه بداية مسيرتي التعليمية. خلال سنتي الرابعة في المدرسة، ألهمتني زيارة طبيب الأسنان حلمي الأول: أن أصبح طبيبة أسنان. لقد أذهلتني احترافيّة طبيب الأسنان ولطفه، الأمر الذي غذّى طموحي طوال فترة دراستي. باعتباري الأخت الكبرى والأطول بين خمس أخوات، تقرّب مني العديد من الخاطبين، لكن حلمي لم يكن أن أتزوّج في سنٍّ صغيرة بل أن أرتدي ثوب الطّبيب الأبيض. قادني تصميمي إلى رفض جميع العروض، ممّا أثار استياء والدتي كثيراً.

عام ١٩٧٦، تغيّر عالمي. عندما كنت عائدة من احتفال باليوم الوطني، وجدت شخصاً غريباً في منزلنا مع والدي. لقد كان الخاطب الذي فضّلته والدتي. وباستخدام مهاراتها في الإقناع وسلطتها الوالدية، أقنعتني بالزواج منه بشرط أن أتمكّن من مواصلة تعليمي. لكن بعد الزواج، علمت أنّ الطالبات المتزوّجات لا يمكنهنّ الاستمرار في القسم العلمي، وهي القاعدة التي سحقت حلمي في أن أصبح طبيبة. لقد تركت الدراسة محبطة، لكن والدتي أصرّت على أن أنهي دراستي الثانوية على الأقل. وعلى الرغم من تردّدي، فقد فعلت ذلك، وحصلت على شهادتي بعد وقتٍ قصير من ولادة ابنتي الثانية.

 

وبعد فترةٍ وجيزة، نقلتنا وظيفة زوجي إلى إمارة أخرى، ممّا دفعني إلى تحمّل مسؤوليات إدارة المنزل ورعاية أطفالنا وحدي. كان عمري ١٩ عاماً فقط في ذلك الوقت. ومع ذلك، جلبت هذه الحياة الجديدة فرصاً غير متوقّعة. وكانت وزارة التربية والتعليم تبحث عن خرّيجي المدارس الثانوية لبرنامج لتدريب المعلّمين بهدف تأميم المهنة. اغتنمت هذه الفرصة، وربّما أصبحتُ أول معلمة وطنية للغة الإنكليزية في أبو ظبي. لقد أدّت درجتي ٩٨% في امتحان القبول إلى الحصول على منصب تدريسي فوري، ممّا حوّلني من طالبة إلى مدرّسة في غضون أشهر.

لقد كانت الوظيفة مُرضية، وقد تفوّقت، ولكنّني كنت أتوق إلى المزيد. حصلت على إجازة دراسية مدّتها أربع سنوات من العمل لمتابعة الأدب الإنكليزي والفرنسي في كليّة اللغات الأجنبية. كان زوجي داعماً لي بشكلٍ لا يصدّق، وشجّعني على المثابرة حتى عندما منعتني واجبات الأمومة من الالتحاق بالجامعة. لقد اشترى لي سيارة ذات نوافذ مظلّلة للتنقّل اليومي من أبو ظبي إلى العين، ممّا ضمن لي الرّاحة والخصوصية. كان روتيني يتضمّن مغادرة المنزل بعد صلاة الفجر، وبدء محاضراتي في السابعة صباحاً دون فترات راحة، والعودة بحلول الساعة الثالثة عصراً لإدارة تعليم أطفالي وقيامهم بواجباتهم المنزلية. على الرغم من التّحدي المتمثّل في تحقيق التوازن بين الحياة الأسرية والحياة الأكاديمية والحمل بطفلي الخامس خلال سنتي الأخيرة، إلاّ أنّني حافظت على درجات ممتازة طوال الوقت. بعد الجامعة، عدت إلى التّدريس، هذه المرّة في المرحلة الثانوية، وساعدت لاحقاً في إنشاء مدرسة خاصة، حيث تولّيت دور مديرة القسم الأميركي. وسرعان ما اكتسبت المدرسة سمعة طيّبة في أبو ظبي.

 

أخذت مسيرتي المهنيّة منعطفاً آخر عندما انضممت إلى ADNOC "شركة بترول أبو ظبي الوطنيّة" لتدريس اللغة الإنكليزية لأغراض محدّدة، وهو دور يمثّل تحدّياً حيث أنّني كنت أعمل في السابق مع طالبات وزميلات، أي مع إناثٍ فقط. وكان علي أن أساعد هؤلاء في تأهيلهم للعمل في حقول النفط. لقد درست المادة جيداً قبل تدريسها. وقد كان ذلك تحدّياً كبيراً بالنسبة لي، لكنني تمكّنت من كسب احترام وحبّ طلّابي، لدرجة أنّهم أحضروا أصدقاءهم من الصفوف الأخرى لحضور الدروس معنا. أدّى هذا المنصب الجديد إلى توسيع خبرتي وكان مرضياً، ممّا أتاح لي بتقديم مساهمات كبيرة في حياة طلاّبي. في ذلك العام أنجبت ابنتي السادسة. خلال عملي في ADNOC، تطوّعت كرئيسة لقسم الأيتام في هيئة الهلال الأحمر الإماراتي. وقمت خلال تلك الفترة بزيارة مراكز الأيتام التابعة لهيئة الهلال الأحمر الإماراتي خارج الدولة لمتابعة شؤونهم عن كثب وتقييم احتياجاتهم. لقد كان لزيارة مخيّمات اللاجئين التابعة للأونروا في الأردن تأثير عميق علي وعزّزت امتناني للنعم التي أتمتّع بها.

وبعد عقدين من الخدمة، تقاعدت عام ٢٠٠٤ ولكنّني لم أتباطأ. لقد غامرت في مجال العقارات، على الرغم من أنّ الحمل غير المتوقّع في عمر ٤٣ عاماً أوقف تلك الخطط. عام ٢٠٠٦، دعتني إحدى صديقاتي إلى مكتبها حيث أجريت بشكلٍ غير متوقّع مقابلة للمساعدة في إنشاء كليّة تقدّم درجة البكالوريوس في التمريض. أحد التعليقات التي لا تُنسى من أحد المحاورين كان: "كنت أبحث عن طائر قمت باصطياده في السماء، وفجأة كان هناك طائر مشوي أمامي". كان هذا بمثابة بداية دوري في كليّة فاطمة للعلوم الصحية، حيث كنت مديرة مشروع البرنامج التأسيسي، بالتعاون مع جامعة غريفيث والدكتورة جودي وولين في برنامج التمريض. كان هذا المشروع ذروة التحدّيات التي واجهتني في حياتي المهنيّة. وعلى الرغم من عدم وجود أي خلفيّة طبيّة لدي، إلاّ أنّني قبلت هذه المهمّة. كان الجزء الأصعب هو جذب الطلاّب الوطنيّين إلى التمريض، لكنّنا نجحنا، وحصلت الكلية على التقدير. أصبحتُ فيما بعد مديرة لشؤون الطلاّب، حيث أشرفت على الفروع في أبو ظبي، والعين، والمنطقة الغربية. وبحلول السنة الخامسة، كنت أشاهد بفخر تخرّج الدفعة الأولى من طلاّبي. وبعد سنوات من التقدّم المطرد، اخترت التقاعد مرّة أخرى مع توسّع الكلية على المستوى الوطني.

 

بعد التقاعد، بحثت عن تحدّيات ومعرفة جديدة. لقد عرّفتني زيارة إلى إحدى العيادات في البوسنة على العلاج البيولوجي، وهو أسلوب أبهرني جدّاً لدرجة أنّني تعلّمته، إلى جانب التقنيّة اليابانيّة القديمة Jin Shin Jitsu، ممّا عزّز مهاراتي ووسّع آفاقي. بدأت رحلتي في الكتابة بالتعاون مع جودي وولين من جامعة غريفيث. جودي متفائلة وتحبّ الحياة وتزورنا سنوياً لقضاء الإجازة. نستكشف معاً المكتبات التي تبحث عن كتب للأطفال تعكس ثقافتنا وواقعنا، لكنّنا لم نجد أيّاً منها مناسباً للأولاد الذين تتراوح أعمارهم بين ٨ و١٣ عاماً والتي تضمّ أبطالاً إماراتيين. وقد ألهمنا هذا لإنشاء سلسلتنا الخاصة، Speed، والتي استغرق إكمالها خمس سنوات. لقد حفّزني الحفاظ على الهوية الإماراتية من خلال رواية القصص، وساعدتني جودي في صقل مهاراتي في الكتابة، وهي موهبة لم أكن أدرك أنّني أمتلكها. تمّ إطلاق كتابنا الأول "The Haunted Island"، في معرض الشّارقة الدولي للكتاب ٢٠٢٣ وحقّق نجاحاً كبيراً. يقدّم الفيلم علي، الصبي الإماراتي، وزميله الأسترالي "ديلن"، أثناء استكشافهما قرية الجد الساحلية ومواجهتهما لأساطير جزيرة التلغراف. يتعمّق الجزء الثاني، "Falcon Lightning"، الذي سيتمّ إصداره عام ٢٠٢٤، في رياضة الصقارة الإماراتية التقليدية، ويربط التفاهم الثقافي بينما يتغلّب "ديلن" على نفوره من الطيور.

طوال حياتي، تقبّلت كل تحدٍّ جديد مع الإيمان بأنّ عبارة "لا أستطيع" ليست من مفردات قاموسي. لقد وجّهتني هذه الروح وقادتني خلال أدواري وإنجازاتي المختلفة، ممّا دفعني باستمرار للمساهمة في تطوير مجتمعي وتوسيع معرفتي. لقد جلَبَتْ كلّ مرحلة من حياتي دروسها وفرصها الخاصة، ممّا يثبت أنّ النمو الشخصي والمساهمة لا يتوقّفان مع التقاعد".

المزيد
back to top button