أيّ ابنةٍ أنتِ؟

في ، هل أنتِ أقرب إلى جاكي كينيدي أم لايدي غاغا أم سيمون دو بوفوار، أم لايدي مونتاغو أم السيّدة الحديديّة أم ابنة الإسكندر الأكبر أم سعدى ابنة الأمير بشير؟

 

في إحدى بقع الأرض، كان الناس يعيشون في حقبةٍ كانت فيها ولادة الفتاة غير مرحّب بها على الإطلاق. هذا كان الواقع في الماضي اللبناني والعربي، لا بل الأوروبي أيضاً، وهو مستمرّ في بعض الأحيان حتّى اليوم. ما إن يتأكّد الحمل حتّى يبدأ الأب بتخيّل نفسه حيناً أباً لابنة وحيناً آخر أباً لابن. وما إن يكشف فحص الموجات الصوتيّة عن جنس الجنين حتّى يبدأ كلّ واحد على طريقته بتخيّل ذاك الكائن الصغير حسب طموحاته ورغباته ومخاوفه أحياناً.

 

إن كان الوالد يعيش في بيئة ذكوريّة تنتقل فيها البنوّة من الأب إلى الابن وفقاً للتقاليد، فقد يصاب بخيبة أمل إن أنجب ابنة. وإن حصل أن دامت خيبة أمله فقد تشعر الفتاة الصغيرة في وقت لاحق بالإحباط لكونها تنتمي إلى الجنس النسائي. والأسوأ أنّها قد تشعر بالخيبة من كونها فتاة وقد تنظر إلى النساء النظرة ذاتها التي طبعتها دوماً، نظرة أبيها، فتكره النساء ولا تعود قادرة على تحمّل النديّة ولا أن تتقبّل السلطة من رئيسة، حتّى إنّها قد تكره النساء وتهرب منهنّ. وكانت لايدي مونتاغو الشاعرة الإنكليزيّة من القرن الثامن عشر تقول: "ما يعزّيني في كوني امرأة هو أنّني لن أتزوّج البتّة بامرأة!". وهذا يؤكّد أنّ هذه السيّدة لم تحظَ يوماً بالتقدير من والدها.

 

لايدي غاغا

في كتاب Filles à papa، تقدّم لورين كالتينباش نموذجاً عن 81 علاقة تجمع الأب بابنته، وذلك تكريماً لوالدها الغائب الذي أحبّته كثيراً والذي كان سيبلغ 81 عاماً عند صدور الكتاب في عام 2017. وفيه نكتشف أنّ لايدي غاغا تحمل على كتفها وشماً يجسّد والدها الذي تقدّم له 50% من مدخولها وتشعر على الدوام بأنّ عليها إحاطته ومساعدته وحمايته. وهذا نموذج عن علاقة قد بلغت ذروتها لأنّ والدها هو شغلها الشاغل ومحطّ اهتمامه الأول ومثالها الأعلى! خلافاً للصبيّ الذي يجد في والده وسيلة "تأكيد" تُطمئنه وتريحه فهو من الجنس نفسه، تجد الفتاة في والدها عامل "وحي" تستلهم منه. إنّ علاقة الأب بابنته خاصة جداً ومطبوعة بالانجذاب المتبادل وكلاهما يعرف ذلك في اللاوعي. يذوب الأب أمام ابنته وكذا تفعل هي في المقابل! ولكن بين حبّ اليوم المتناغم جداً في بعض الأحيان وحبّ الأمس الأكثر تباعداً، ليس سهلاً على الدوام إيجاد الحلّ الوسط في هذه الحكاية التي تبدأ قبل تسعة أشهر من الولادة وتستمرّ طيلة الحياة، كما هي حال لايدي غاغا وأمثالها.

 

سيمون دو بوفوار

يبقى الأب أول رجل في عينيْ الابنة ويجسّد على الدوام سندها في الوجود وهذا ما اختبرته سيمون دو بوفوار في حياتها، إذ لم يكن التعليم هو ما سمح لها بأن تنجح في الأدب والسياسة لا بل رغبتها في إثارة إعجاب أبٍ كان يجدها قبيحة. وبما أنّه كان مولعاً بالنساء وبالآداب، كانت هذه الوسيلة الوحيدة في يديْ سيمون دو بوفوار لتجتاح قلب هذا الرجل. فعملت على تعزيز أنوثتها ودرست الأدب لتزيد من قيمة نفسها أمامه وهنا تنطبق تماماً عبارة: "هي لا تولد امرأة بل تصبح امرأة".

 

مارغريت ثاتشر

إنّ الوالد، بالنسبة للفتاة أو للصبيّ على حدٍّ سواء، هو الذي يسهم في عمليّة انفصال الأم عن الطفل من خلال وضع حدٍّ لعلاقة شديدة الانصهار تبدأ خلال الحمل. وإنّ الوالد بذاته هو الذي يدفع بابنته للانفتاح على الآخرين وهو الذي يعلّمها القفز والركض والرقص وتطوير المهارات الجسديّة. كما يدعمها في نموّها الفكري والاجتماعي ويقدّر تقدّمها في الحياة ويتشارك معها في وقتٍ لاحق كلّ اهتماماتها وشغفها. فضلاً عن أنّه يبثّ فيها الأحلام والآمال والطموحات لا سيّما إن لم يكن عنده صبيّ أو إن لم يكن ابنه على مستوى توقّعاته أو إن كانت ابنته موهوبة وواعدة لدرجة أن تدفع بأبيها ليؤمن بها أكثر وأكثر. هذا واقع الحياة منذ الأزل وفي جميع أقطار الأرض: تجلب الأمّهات الأطفال إلى العالم ويفتح الآباء لهم الدروب على مهن الحياة. "أنا أدين بكلّ شيء، نعم كلّ شيء على الإطلاق، لوالدي"، هذا ما صرّحت به مارغريت ثاتشر خلال تسميتها لمنصب رئاسة الوزراء في بريطانيا العظمى في 4 أيّار/ مايو 1979. كان ذاك الوالد بقّالاً اسمه ألفريد روبرتس ولم يكن عنده صبيّ يخلفه فصبّ كلّ تركيزه على ابنته. وعلى خطى الأب الذي انتقل من محلّ البقالة إلى البلديّة في غرانثام، بَنَت مارغريت مستقبلاً سياسيّاً لها ونعرف كلّنا تكملة قصّة المرأة الحديديّة التي بدّلت وجه بريطانيا العظمى.

 

جاكلين كينيدي

قد تمضي المرأة أحياناً طيلة حياتها وهي تبحث عن الأب في كلّ رجل تقابله. بين عمر الثلاث سنوات والستّ سنوات، يستحيل أن تنفد من عقدة أوديب فهي مرحلة بنّاءة في مسار نموّ الولد – وإلاّ يصعب الدخول إلى الحياة الطبيعيّة. ومن مرحلة أوديب إن سارت كما يجب (يطلق البعض عليها اسم عقدة إليكترا لدى الفتاة) يتأمّن توازن الفتاة الصغيرة فتضمن قدرتها على الوقوع في الحبّ عند سنّ الرشد. بينما الفتاة الصغيرة تعيش أكبر قصّة حبّ لها مع والدتها (أول شيء تحبّه تماماً مثل الصبيّ)، سرعان ما تدرك وجود عائق هو والدها فيكون أشبه بدخيل يحاول جذب والدتها وإضحاكها وتسليتها وتشتيت انتباهها عن ولدها... يا لخيبة الأمل!

 

عندئذٍ، تدخل الفتاة في منافسة مع والدتها وتشنّ عليها الحرب وتحاول إغواء والدها... وتكون عقدة أوديب عند الفتاة الصغيرة أكبر لأنّ عليها تقبّل خسارة والدتها من ثمّ والدها حتّى تتمكّن من أن تكبر – على عكس الصبيّ الذي لا يُفترض به التخلّي إلاّ عن أمّه. وإنّ الطريقة التي تُحلّ بها عقدة أوديب (أو لا تُحلّ) تطبع في ذهن الفتاة الصغيرة سيناريو يرافقها طيلة حياتها ويؤثّر على مستقبلها العاطفيّ. وعلى ما يبدو فإنّ العقدة لم تُحلّ كما يجب لدى جاكلين كينيدي، إذ تُخبر ساره برادفورد كاتبة السيرة الذاتيّة الشهيرة لزوجة جون كينيدي، أنّ الرئيس لم يكن يوماً مغرماً بزوجته. "لم يحبّ أحداً في حياته ففي أحسن الأحوال كان يقول إنّه مهتمّ بأحدهم. أحبّت جاكلين زوجها بجنون على الرغم من أنّها كانت تعرف أنّه يخونها. أحبّته لأنّه يشبه والدها، ذاك الوالد الذي كانت منجذبة إليه وهي تعلم أنّه زير نساء، وأنّه صديق أكثر منه أباً. شعرت بأنّها مسؤولة نوعاً ما عن هذا الرجل".

 

الأميرة سعدى بشير شهاب

وإن كان الرجل مستبدّاً في وظيفته خارج المنزل فهذا لا يعني إلزاماً أنّه أبٌ مخيف داخل البيت بل قد يكون الوضع معاكساً في بعض الأحيان. كان الأمير بشير الثاني أحد أمراء جبل لبنان وقد حكم من سنة 1788 إلى 1840 وكان معروفاً بقبضته الحديديّة وقوّته وكان يثير الذعر في النفوس ولا يتردّد في إثارة الفزع وسفك الدم. حتّى إنّ النظر إليه كان يبثّ الخوف في النفس. لكنّ هذا الحاكم المتسلّط والسفّاح كان يذوب أمام ابنته سعدى التي عرفت كيف تتعامل معه لتحصل على كلّ ما كانت ترغب فيه. لم تكن ممنوعة عن أيّ شيء بل كانت لديها الصلاحيّة المطلقة للتصرّف في القصر وخارج جدران بيت الدين. وعلى الرغم من أنّ للأمير صبيّين كان يُسمّى "أبو سعدى" خلافاً لكلّ العادات والتقاليد التي كانت رائجة في تلك الحقبة الذكوريّة الصرف، فبدا الأمير من أول المناصرين للنزعة النسائيّة السابقة لأوانها حتّى في ظلّ الأوضاع السياسيّة التي كانت سائدة في جبل لبنان، كلّه فقط كرمى لعينيْ سعدى! كان أميرها الصغير وحاميها وحبيبها. وقد كانت تعيش متحرّرة من التقاليد في جناحها الخاصّ في القصر حيث كانت تستقبل من تريد وما كان أحد يعارضها ولا حتّى أخواها.

 

 

فاطمة الزهراء، ابنة النبيّ

من بين أشهر الفتيات في أرض الإسلام، فاطمة الغالية على قلب والدها النبيّ الذي قال عنها: "هي بضعةٌ منّي. يُريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها". حملت فاطمة لقب الزهراء أي صاحبة الوجه النضر والمنير. وتتلمذت على يديْ النبيّ وامتلكت الكثير من صفاته لكونه رسول الله وقد كانت تشبهه في طريقة المشي والكلام. وحسب الذهبي، كان لقبها "أمّ أبيها" لشدّة الاهتمام الذي كانت توليه لوالدها وحبّها العظيم له، وكأنّها أمّه.

 

ابنة الإسكندر الكبير

الخوف من الوالد وتجنّبه والهرب منه... هذه هي حال العديد من الفتيات اللاتي يحتفظنَ في ذاكرتهنّ بصورة بشعة عن ربّ عائلة مستبدّ ومتوحّش. عن طريق الاستيعاب، تميل الفتاة إلى تحويل هذه الصورة باتّجاه كلّ رجل تلتقيه في حياتها. وتتجسّد هذه الحالة من خلال الأسطورة الأرمنيّة لابنة الاسكندر الأكبر. في كلّ مرّة كان يذهب فيها الإسكندر إلى معركة كان يشرب من ماء الخلود المأخوذ من بذرة الثوم. في أحد الأيّام، أمر ابنته بجلب القارورة التي تحتوي على هذا السائل العجيب لكنّ فضولها دفعها إلى تذوّقه حتّى إنّها شربت المحتوى كلّه. وحين دخل الإسكندر الذي كان يقيم وقتئذٍ في منزله الصيفي القابع على شاطئ البحر إلى غرفة ابنته غضب بشدّة لدى رؤية القارورة فارغة فاستلّ سيفه وركض نحوها، لكن لشدّة خوفها رمت نفسها من النافذة ووقعت في البحر فتحوّل الجزء السفلي من جسمها إلى سمكة. منذ ذاك اليوم فقد الثوم بذرته وصار ينبت لدى زرع حبّة منه.

 

هكذا، أخذت تتزاوج ابنة الاسكندر مع الأسماك ونشأت كائنات تمزج الجنس البشري مع الجنس الحيواني البحري. لكنّ الأميرة الصغيرة – ونصفها سمكة – كانت تبذل جهداً لتسترجع علاقتها بالرجال. فكانت تجلس ليلاً على صخرةٍ وتمشّط شعرها الذهبي بصمت وتراقب الناس وحين كان أحدهم يُنزل دلواً في البحر لسحب المياه كانت تلتقطه وتشدّه إليها كي تُمسك بالشخص الذي يحمل الحبل ولكنّها كانت تهرب مرتجفةً مرتعبة حين تسمع: "إنّ الملك الإسكندر يهمّ بالوصول!". إنّها ردّة فعل كلّ فتاة عانت من الهلع من والدها في صغرها وفي سنّ الرشد ترغب في الزواج لكنّها تهرب من كلّ رجل يحاول الاقتراب منها.

 

ب؟ هل تتجسّد حياتك من خلال واحدة منها أم من خلال مزيج من الشخصيات؟ أم أنتِ لا تجدين نفسك في أيّ منها؟ فتكون حالتك استثنائيّة في علاقتك مع والدك، ومن يدري قد تُكتب عنك مقالة مثيرة للاهتمام يوماً ما!

 

أنطوان ضاهر

 

 

المزيد
back to top button