تايلندا: من مهرجان الماء إلى مهرجان الألوان!

لم تكن هذه المرة الأولى التي أزور فيها تايلندا بهدف السياحة في طبيعة مغايرة لتلك التي أعرفها في محيط البحر المتوسط، وبلدان المشرق العربي والخليج. ولكن رحلتي هذه تميّزت بحضوري ومشاركتي في مهرجان فريدٍ من نوعه، هو مهرجان "السونغكران" The Songkran Festival، عيد السنة الجديدة الذي يحتفل به التايلانديون كل عام لمدة ثلاثة أيام من 13 إلى 15 أبريل/ نيسان. 

يلقى "مهرجان الماء" أصداءً عالميّة كل عام إذ تتحول المدن الكبرى في تايلندا إلى احتفال هائج ومائج من رشّ المياه في شوارعها في جوٍّ مرح إلى أقصى الحدود، فيتقارب الصغير والكبير، إبن البلد والسائح في التطوافات التي تذكّر خلال هذه الأيام الثلاثة بُبعد المهرجان الروحي، وجوهره الذي يرتكز على قدسيّة الماء والعبادة في ثقافة الشعب التايلاندي. 

بداية الرحلة كانت في شمال البلاد في تشانغ ماي Chiang Mai، المدينة الأكبر والأكثر ثقلاً بالثقافة الشعبية. وكان لا بد لنا من أن نكون في هذه المدينة التي تجمع ما بين الجبال والسهول في أول أيام العيد. ففي تشانغ ماي، المعبد البوذي الأكبر "وات بها تهات" Wat Pha That Temple الذي شيدّ عام 1383 ويحوي على تمثال بوذا الزمردي الذي يتعبّد له التايلانديون ويحجون إليه من كافة أنحاء البلاد في أعداد هائلة خلال السونغكران. بعد 25 دقيقة تقريباً ومسافة 15 كلم من وسط المدينة، وصلنا إلى المعبد. وما كان عليّ إلا أن أحسست بهيبة المكان الذي يؤمّه الحجاج، ومنهم الكثيرون حفاة الأقدام ليقدّموا الهبات والتذكارات وإيفاء النذور. تركت رفاقي عند باب المصعد الكهربائي، واخترت أن أصعد على قدميّ ال300 درجة المحفورة في الصخر كذنب الأفعى لأصل إلى المعبد. أردت أن أعيش التجربة. فجاء وقعها عليّ كبيراً! 

بعد أن أخذنا معنا التذكارات، ارتأى علينا الدليل السياحي من قِبل هيئة السياحة التايلاندية التي قامت بدعوتنا إلى هذا الرحلة، أن نزور قصر الملك الصيفي، على بعد كيلومترات قليلة من المعبد. جاء الإقتراح في مكانه إذ أننا اكتشفنا قصراً فيه من أنواع الزهور والأشجار المزروعة في الحدائق المحيطة بالقصر ما أبهرنا أكثر من الحجر وهندسة البناء نفسها. 

أستنشقنا عبق الطبيعة، وتلوّنت ذاكرتنا بتدرّجات الأحمر والأخضر والأصفر والأزرق. عدنا أدراجنا إلى وسط المدينة حيث نزلنا في فندق "سيريبانّا ثاني" Sirpanna Thani Hotel الذي عكس في هندسته الطابع الفولكلوري الخاص بمدينة تشانغ ماي. 

كنّا ما زلنا نجول في أذهاننا على محطّات اليوم الشيّق، ولم يغالبنا النعاس إلا بعد عودتنا من السوق الليلي الذي يقام خلال أيام المهرجان بشكل متواصل. هناك انعكست الألوان براقة وضوئية مبهرة، واختلطت الحواس ببعضها البعض مع كثافة الزائرين، والعارضين للمأكولات والثياب والأطايب والألعاب والحِرف والأشغال اليدوية. ولكنّ الدليل نادانا عند منتصف الليل لنعود إلى الفندق. فغداً يومٌ ثانٍ حافل.

في الصباح الباكر انطلقنا في الباص إلى مخيمّ الأفيال على بعد 45 دقيقة من فندقنا. إلى "مايتانغ" Maetaeng شمال المدينة، وعرض الأفيال بنكهة الأدغال الآسيوية! افترقنا اثنان اثنان على ظهر الأفيال وجلنا في الغابة المحيطة وفي النهر الفاصل ما بين المخيم وفندق "سيب سان" Sib San Hotel الرائع. في "سيب سان" كانت محطة الغذاء التايلاندي التقليدي بمأكولات أساسها الأرز الأبيض، البهارات والتوابل بالإضافة إلى الفواكه الإستوائية كالمانغا، الكيوي والأناناس. بعد الغذاء، أخذتنا مالكة الفندق ومديرته في جولة على الفيلات القابعة على ضفة النهر. فما كان مني إلا أن حجزت لنفسي شهر العسل في هذا المكان بالذات لما فيه من رومنسية مغايرة لكلّ ما قد تعيشه في الفنادق العصرية. 

تبادلنا التحية التقليدية "الناماستي" Namaste التي تُجعل بضمّ الكفين إلى بعضهما البعض على نصف الصدر والإنحناءة قليلاً كفعل احترام متبادل مع فريق الفندق، وتوجّهنا إلى وسط المدينة، مهيّئين أنفسنا لتجربة رش الماء التي لا تستثني أحداً! 

وبالفعل، مشينا في الشوارع الفائضة بالمياه، وكنا نتلقى الماء ونرشّ بها على جميع من صادفناه. أما الإبتسامة والمرح فعنوانَي المهرجان وحرصنا على أن نتبناهما إلى أقصى الحدود!

في اليوم الثالث، استقلينا رحلة الطيران الداخلية إلى بانكوك Bangkok لنعيش آخر احتفالات السنة الجديدة في العاصمة التايلاندية. الفرق واضح وملموس ما بين تشانغ ماي الهادئة وبانكوك الصاخبة التي تضمّ لوحدها ما يزيد عن 8 ملايين نسمة! تكفيك جولة سريعة في هذه العاصمة لتشهد على مركزها الإقتصادي والمالي في آسيا والعالم من خلال حجم المناطق المخصّصة للأعمال وشركات الإستثمار والمصارف. أما الفنادق العالمية الفخمة المجاورة لبعضها البعض والأسواق المزدهرة فتؤكّد على أن بانكوك هي من أكثر المدن الآسيوية استقطاباً للسياح. 

في هذه المدينة الصاخبة والتي لا تملّ الحركة فيها لا في الليل ولا في النهار، قمنا بزيارة معبد بوذا الزمردي والقصر الملكي Bangkok Grand Palace and Emerauld Buddha> i. هذه الجولة كانت درساً شافياً في الهندسة التايلاندية التقليدية التي تظهر إبداعاً خلاقاً لا مثيل له في أي بلدٍ آخر. أما ختام اليوم الطويل فكان بعشاء لذيذ من ثمار البحر في أشهر مطعم في العاصمة Seafood Market & Restaurant في منطقة "سوكومفيت" Sukhumvit من المدينة. 

في اليوم التالي، حضر موعد رحيلنا. من متن الطائرة ودّعنا المدينة التي أبهرتنا بألوانها، بفنّها، بتقاليدها، بهندستها، بتناقضاتها ما بين العصري والتقليدي. أما أكثر ما حملناه في قلوبنا، فهو تواضع شعبها المضياف. انتظريني يا تايلاندا. فأنا، حتماً، عائدةٌ إليكِ!

المزيد
back to top button