صحيح أنّني لاحظتُ تغيّرًا في أبي، لكنّني لَم أعطِ للأمر أهميّة كبرى ربمّا لأنّ أخوَتي لَم يُعلّقوا على الموضوع بل بقوا كعادتهم يمرّون بمنزله للإطمئنان عليه. كنتُ أعيشُ في أوروبا، أنا وزوجي وأولادي بصورة دائمة ولا أزورُ البلد سوى في الفرَص السنويّة. وفي آخر زيارة لي، أي قبل سنة، عرضتُ على والدي العَيش معنا إلا أنّه رفَضَ ذلك، مؤكِّدًا لي أنّه لا يُمانع البقاء لوحده في البيت الذي شهِدَ ليس فقط أيّامًا سعيدة بل أيضًا موت زوجته. علِمتُ لاحقًا أنّ أحد أخوَتي دبَّرَ له عاملة أجنبيّة لتُنظّف المكان وتُحضّر له وجباته وتكون موجودة بالقرب منه إن حدَثَ له مكروه. رحّبتُ بالفكرة وصرتُ أبعَثُ لتلك العاملة مبلغًا شهريًّا كحافز إضافيّ.
إقتَرَب موعد سفَري إلى بلدي، فحضّرتُ نفسي بِجَلب الهدايا للجميع وخاصّة لأبي الذي كنتُ أحبُّه لدرجة لا توصَف، لأنّه إنسان هادئ ومُحبّ ومُثقّف دفعَنا جميعًا إلى مُتابعة دراسات عالية ليكون لنا مُستقبل جيّد. وكَم تفاجأتُ به يقولُ لي عبر الهاتف أيّامًا قليلة قبل وصولي وعائلتي، إنّ مِن الأفضل لو نحجزُ لأنفسنا غُرفًا في الفندق بدَل المكوث في بيته. كانت تلك أوّل مرّة يقولُ لي ذلك فانشغلَ بالي جدّيًّا. إستشرتُ زوجي الذي أجابَني: "لقد كبُرَ حمايَ في السنّ! مِن الواضح أنّه لَم يعُد يتحمَّل أصوات وصراخ الأولاد. سنأخذُ غرفتَين في فندق قريب منه، لا عليكِ". لكنّني لَم أقتنِع بنظريّة زوجي، فكان والدي يتصرّفُ بغرابة مؤخّرًا. لَم تكن أشياء كبيرة بل صغيرة لا يُلاحظها سوى إبنة أو إبن. نزِلنا في فندق وتوجّهنا في الصباح الباكر لزيارة والدي.
فرحتُ به كثيرًا إذ أنّه كان بصحّة جيّدة وتبخَّرَت مخاوفي. وجدتُ البيت نظيفًا ومرتّبًا جيّدًا مِن قِبَل تلك الفتاة التي حضّرَت أيضًا مائدة شهيّة للترحيب بنا.
في الأيّام التي تلَت، أخَذنا والدي في مشاوير عديدة، واجتمعَنا مع أخوَتي تمامًا كما كنّا نفعَل قبل أن تُفرّقنا الحياة. بعد عشرة أيّام طرنا إلى أوروبا لنعاودَ حياتنا.
بعد حوالي الشهر، تلقَّيتُ إتّصالاً مِن والدي وجدتُه مُريبًا للغاية. كان يُريدُ منّي مبلغًا مِن المال لا بأس به، مع أنّه لَم يكن بحاجة إلى مَن يُعطيه شيئًا، فهو وضَعَ جانبًا تعويضه الذي قبضَه بعد سنوات طويلة مِن العمَل، وكنتُ وأخوَتي نمدُّه باستمرار بمبالغ رمزّية تعبيرًا عن امتنانِنا لِما فعلَه لأجلنا طوال سنوات ولنقوم بواجباتنا كأولاد صالحين. كنتُ أودُّ سؤاله لِما يحتاجُ لذلك المبلغ إلا أنّني خجِلتُ مِن ذلك، فحوّلتُ له ما أرادَه على الفور. بقيَ الأمر يشغلُني إلى أن خابرَني أخي الكبير ليقولَ لي إنّ والدنا طلَبَ منه الأمر نفسه. عندها علِمتُ أنّ المسألة جدّيّة. هل كان أبي يُعاني مِن مرض ما يريدُ إخفاءه عنّا؟ لكنّه كان مُغطًّى صحيًّا بالكامل، إذًا ماذا؟ دَينٌ بسبب لعِب المَيسرَ؟ لَم يُمسك أبي ورق لَعِب في حياته! تشاورتُ وزوجي وقرّرتُ أن آخذ طائرة إلى البلَد لمعرفة ما يجري.
تفاجأَ والدي كثيرًا بي، إلا أنّني لَم أرَ الفرحة في عَينَيه بل شيئًا آخرًا، مَزيجًا مِن الخوف والخجَل. لَم أسأله إن كان بإمكاني المكوث في بيته، بل رتّبتُ أمتعتي بسرعة في الغرفة التي كنتُ أشغلُها في صغري. أظنُّ أنّه علِمَ أنّني لَم آتِ فقط لزيارته، لِذا بقيَ صامتًا يتفادى النظر إليّ كالطفل الذي ارتكَبَ حماقة ما.
مرَّ يومٌ بكامله لَم أُفاتِح خلاله أبي بغرَض مجيئي، لكن في الصباح التالي قلتُ له:
ـ هل أنتَ بخَير يا بابا؟
ـ كما ترَين... أنا بألف خَير.
ـ لا تُسيء فهمي، لكن... هناك أشياء تخفيها عنّي وأنتَ الذي علّمَنا ألا نُبقي أسرارًا داخل عائلتنا.
ـ أبدًا يا حبيبتي، أبدًا.
ـ لا تغضَب منّي أرجوكَ، أريدُ أن أعلَم لماذا طلبتَ هذا القدر مِن المال منّي ومِن أخي... فقط مِن باب الإطمئنان.
ـ هل تُحاسبيني؟!؟ ألَم أقُم بواجباتي تجاهكم جميعًا؟ لقد خيَّبتِ ظنّي كثيرًا. أُريدُكِ أن تعودي إلى عائلتكِ!
حزنتُ كثيرًا لِما قالَه إلا أنّني وجدتُ الأمر مُبالغًا فيه للغاية، فكان مِن الواضح أنّ أبي أخَذَ كلامي كذريعة للتخلّص منّي. لِذا لَم أُغادِر البيت كما طلَبَ منّي أن أفعَل بل قرّرتُ المُماطلة ومُراقبة ما يجري. عندها فقط علِمتُ ما كان يُخفيه والدي بإصرار.
كان الأمر خفيًّا، إلا أنّني رأيتُ كيف ينظرُ أبي والعاملة إلى بعضهما. في البدء ظننتُ أنّني أتخايلُ أمورًا لا وجود لها، فأمعنتُ النظر أكثر وأكثر. وعندما تأكّدتُ مِن شكوكي، صرتُ أبحثُ عن المزيد. وفي الليلة التي تلَت، خرجتُ مِن غرفتي وجلتُ في البيت مِن دون أن أدري عمّا أبحث، قبل أن أتوجّه إلى غرفة العاملة... التي وجدتُها خالية! بدأَت دقّات قلبي تتسارَع، هل يُمكن أن...؟!؟ للحظة أردتُ عدَم التأكّد والعودة إلى غرفتي، لكنّني بدَّلتُ رأيي وقصدتُ غرفة والدي وألصقتُ أذُني على بابه... وسمعتُ بوضوح ما يدورُ داخلها. هكذا إذًا... هذا كان سرُّ والدي! حاولتُ تفهّم وضَع رجل وحيد يعيشُ مع إمرأة تحت سقف واحد لكنّه أبي! وما دَخل المال في الموضوع؟
إنتظرتُ الصباح الباكر لأطلبَ أخي الكبير هاتفيًّا وأُخبره بما اكتشفتُه. رأينا أنّ الأمر قد يكون عابرًا إلا أنّنا خفنا مِن تفاقم الوضع. وعدَني أخي باستشارة باقي أخوَتنا والعودة إليّ. للحقيقة، شعرتُ ضمنيًّا أنّنا نتدخّل بحياة أبينا ولا يحقُّ طبعًا لنا أن نفعل، إلا أنّ مسألة المبالغ الذي طلبَها منّا كانت مُقلِقة.
لِذا نصبتُ لأبي فخًا بعد ساعات:
ـ بابا... لقد وجدتُ لكَ عاملة أخرى، مِن بلدنا، إذ أنّكَ ستتواصل معها بشكل أفضل.
ـ عاملة أخرى؟!؟ لا! أنا مُمتنٌّ مِن التي هي موجودة.
ـ على كلّ الأحوال، أخي هو الذي جهّزَ لها أوراقها التي على وشَك الإنتهاء فلا داعٍ لتجديدها. سترى، ستحبّ العاملة الجديدة كثيرًا. سأزفُّ الخبَر لعاملتكَ على الفور.
ـ إيّاكِ أن تفعلي! أمنعُكِ مِن ذلك! أسمعتِ؟!؟
ـ بابا! ما الذي غيّر طباعكَ هكذا؟!؟ تُفضّلُ العاملة عليّ؟!؟ أنا إبنتكَ!
ـ وهي زوجتي.
وقَعَ الخبَر عليّ كالصاعقة. وهو تابَعَ:
ـ لقد تزوّجتُها ولن تذهَب إلى أيّ مكان! هذه حياتي وأنا أقرّرُ ما أفعلُ بها!
عندها خرجَت العاملة مِن مخبئها مِن وراء الجدار وقالَت لي بخليط مِن العربيّة والإنكليزيّة:
ـ أجل هذا بيتي! ولا أُريدُكِ هنا! أحضري أمتعتكِ واخرجي على الفور!
ولَم يتفوّه والدي بكلمة. بكيتُ وأنا أحزِم حقيبتي وخرجتُ مِن البيت الذي وُلِدتُ وكبرتُ فيه، مِن دون أن أودّع أحدًا ورحتُ أُكمِل بكائي عند أخي الذي جمَعَ باقي أخوَتي لنتحدّث بالذي يجري.
في اليوم التالي، إتّصَلَ زوج أختي بصديق له يعمل في المصرف الذي يتعاملُ أبي معه، وعلِمَ منه أنّ حساب والدي صارَ فارغًا أيّ أنّه صرَفَ كامل تعويضه... وكان مِن الواضح لماذا وعلى مَن. فلقد إستفادَت العاملة مِن كون أبي وحيدًا وبحاجة إلى إمرأة وأخذَت منه كلّ ما لدَيه. وهي لَم تكتفِ بذلك، إذ طالبَنا هو بمبالغ كبيرة. هل هي التي أقنعَته بالزواج منها أم أنّها كانت فكرته؟ سعادة أبي كانت تهمُّنا جميعًا، لكنّ استغلاله مِن قِبَل أيّ أحَد أمرٌ مرفوضٌ بتاتًا. لِذا قرَّرنا التوقّف عن إمداد والدنا بالمال لفترة مُعيّنة، حتى تظهرُ حتمًا نوايا زوجته.
سافَرتُ إلى عائلتي وبقيتُ أتتبَّع أخبار البلَد عن كثَب. وما توقّعناه حصَلَ، فالزوجة الجديدة غادرَت بعد فترة تاركةً أبي لوحده بعد أن توقَّفَت الإمدادات، فلِما تبقى مع رجل بسنّ والدها تعلَّقَ بأوّل إمرأة أظهَرت له بعض الحنان والإنتباه؟
حاوَطنا والدنا الذي غرِقَ في الحزن. وبفضل تماسكنا كعائلة، خرَجَ المسكين مِن كآبته ليُخبرُنا أنّه أمَدَّ العاملة بالمال بانتظام لتُرسله لأولادها الذين قصدوا الجامعات وتخصّصوا بفضله. وعندما رأَت تلك المرأة أنّ المال أوشَكَ على النفاذ، أصرَّت أن يتزوّجها وأقنعَته بِطلِب المزيد منّا ليُرضيها كزوجة وليس كعاملة.
سافَرَ أبي معي إلى أوروبا، وهو اليوم معنا. ومنذ فترة قصيرة، تعرَّفَ إلى سيّدة مُطلّقة وأظنُّ أنّهما على توافق، وقد نشهدُ زواجًا جديدًا. أنا سعيدة مِن أجله، فمِن الواضح أنّ تلك العلاقة مبنيّة على تفاهم واحترام مُتبادَل بعيدًا عن المنفعة.
حاورتها بولا جهشان