كلّ أمّ تنتظرُ مِن أولادها أن يردّوا لها ولو جزءًا ضئيلاً مِن الذي فعَلَته مِن أجلهم مِن رعاية واهتمام وحبّ. ولقد قمتُ بتربية أولادي الثلاثة بشكل جيّد، مركّزة ليس فقط على دراستهم بل على أخلاقهم وتعاملهم مع الآخرين. إلا أنّني لم أحسب حساب سواد النّفس البشريّة. فمهما فعلنا، تظهرُ مِن ثنايا القلب مشاعر خلنا أنّها دُفِنَت تحت تعاليم الله والمجتمع.
بعد أن توفّيَ زوجي، تابعتُ الاهتمام بعائلتي لوحدي بفضل الذي تركَه لي، فلَم أضطّر للعمل وإلا كنتُ سأجدُ نفسي في مأزق كبير. مرَّت السّنوات مِن دون أحداث مُزعجة، وصارَ أولادي بعمر يستطيعون فيه مساعدتي لتحسين أوضاعنا. إلا أنّهم تحجّجوا بدرسهم، وأنا لَم أرَ نفسي قادرة على حرمانهم مِن تأمين مستقبلهم. إنتظرتُ حتى تخرّج إبني البكر لأطلبَ منه أن يجد عملاً بأسرع وقت، وهذا ما فعلَه. وعندما قبَضَ أوّل راتب له، جاء إليّ على الفور لإعطائي نصفه. قبّلتُه ودعوتُ له بالتوفيق. صرفتُ المال على البيت وأقساط مدرسة ولدَيَّ الباقيَين طبعًا وليس على نفسي. لحِقَ إبني الثاني بأخيه في مُعترك العمل، وفعَلَ مثله بما يخصّ الراتب، وبقيَت إبنتي الصغرى تحصّل علمها. في ذلك الوقت كانت حياتنا تسيرُ بأفضل ما يكون.
بعد سنتَين، تزوّجَت إبنتي مع أنّني طلبتُ منها الإنتظار قليلاً. لَم أقِف بوجه حبّها، كي لا أكون التي حَرَمَتها مِن إيجاد السعادة الزوجيّة.
وشاءَت الظروف أن يتعرّف إبنَاي على أختَين وأن يتحابّا. وجدتُ الأمر ظريفًا، ولَم أرَ مانعًا مِن أن يتمّ النّصيب بينهم وأن يسكنوا معي جميعًا. فكانت فكرة تواجد ولدَيّ معي مع عائلتَيهما تروق لي، خاصّة إن أنجبا وصارَ أحفادي يلعبون مِن حولي طوال الوقت. لكنّني لَم أكن أعرف آنذاك أنّ كابوسًا رهيبًا كان بانتظاري، وأنّ الهناء الذي كنتُ فيه سينتهي إلى الأبد.
فأنا لَم أحسب حساب التحالف الذي كان موجودًا بين كنّتَيَّ، والذي سيمتدّ إلى ولدَيَّ ضدّي. فكيف لأمّ أن تتصوّر أنّ فلذَتَي كبدها سيتحوّلان إلى عدوَّين لدودَين لها؟
أوّل ما تعرّفتُ إلى ندى ومُنى، صُعِقتُ بجمالهما وهنّأتُ ابنَيَّ على اختيارهما الموفّق، فمَن لا يُحبّ الجمال؟ وقبل الزفاف بقليل، جاءَت العروستَان لنقل أمتعتهما إلى البيت وساعدتُهما بفرَح وحماس. إلا أنّ أعرَبَت إحداهما عن رغبتها بأخذ غرفتي لأنّها كانت ملاصقة للتي ستأخذُها أختها، ولَم أرَ مانعًا للإنتقال إلى الغرفة الموجودة في آخر الرّواق. كنتُ بذلك أبيّنُ لهما عن حسن نيّتي، وأعطُيهما الحميميّة التي يحتاجُها كلّ عريس وعروس.
بعد الزفاف بدأنا حياتنا كعائلة كبيرة، ولَم أخَف مِن حجم العمل التي كانت بانتظاري. فكانت كنّتايَ تعملان، أي أنّ تنظيف وترتيب بيت يسكنُه خمسة أفراد، وتجهيز المأكل لهم كان يقعُ عليّ وحدي. صحيح أنّني قمتُ بكلّ ذلك مِن أجل أولادي سابقًا، إلا أنّني لَم أعد أتمتّع بالقوّة ذاتها. والأصعب كان عندما يأتي أصدقاء العرسان وأحضّر لهم العشاء، لكن رؤيتهم جميعًا سعداء كانت تُعطيني النشاط اللازم للقيام بالمهمّة.
ذات ليلة، حدَثَ أمر غريب: إستَيقظتُ على صوت أقدام تركض في البيت. أوّل أمر خطر ببالي كان طبعًا أنّ لصًّا دخَلَ مسكننا ويُفتّش عمّا يسرقُه. لَم أُخاطر بالخروج مِن غرفتي، واكتفَيتُ بإقفال بابي بالمفتاح، وصلَّيتُ ألا يستيقظ ولدايَ وزوجتاهما قبل خروج اللصّ.
لَم تغمض لي عينٌ، وفور بزوغ الفجر، خرجتُ مِن غرفتي حاملة بيدي المكواة لأضرب بها الدّخيل إن كان لا يزال موجودًا. إلا أنّ المكان كان هادئًا، فألصقتُ أذني على بابَي ولدَيَّ، كما كنتُ أفعلُ في صغرهما لأطمئنَّ على سلامة نومهما، وسمعتُ شخيرهما، فارتاح بالي. وعندما اجتمعنا حول مائدة الفطور، أخبرتُ باقي سكّان البيت عمّا سمعتُه خلال الليل. لكن ما مِن أحد كان قد لاحظَ شيئًا، بل أخذوا يُمازحوني ويغمزون مِن كبر سنّي الذي قد يحملَني على تصوّر أمور غير موجودة. وبالرغم مِن تأكّدي ممّا سمعتُه، بتُّ أشكُّ بالذي حصَلَ واعتَبرتُه حلمًا حسبتُه حقيقة.
مرَّت الأيّام والليالي بهدوء تام ونسيتُ الحادثة... إلى حين عادَت أصوات الأقدام في الليل. في تلك المرّة، تأكّدتُ مِن أنّني لَم أكن أحلُم لسبب بسيط: كنتُ في تلك اللحظة مُصابة بأرق حمَلني على القراءة في كتاب أتركُه قرب سريري. وبالطبع صمَّمتُ على معرفة ما يدورُ في بيتي، فكان مِن الواضح أنّ الأمر ليس متعلّقًا بأيّ لصّ.
مشيتُ على مهل وفتحتُ باب غرفتي بهدوء، ومدَدتُ رأسي منه لأرى ما يجري في الرواق. كل ما استطعتُ تمييزه في الظلام كان باب إحدى الغرف وهو يُغلَق. ومِن بعد ذلك سادَ الصمت. رحتُ على الفور ألصق، مرّة أخرى أذني على الباب، وإذ بي أسمعُ أصوات ضحكات خافتة. بالطبع لَم أفهم ما يحصل، وعدتُ إلى فراشي بعدما وجدتُ أنّ لا شيئًا غريبًا يجري، بل أنّ أحد ولدَيّ كان مصابًا بالأرق مثلي.
يا لَيتني حفظتُ لنفسي ما رأيتُه ولَم أخبر ولدَيَّ وزوجتَيهما بالأمر. لكنّني بالفعل سألتُ ببراءة إبني البكر إن كان قد استطاع النوم بعد أرقه الواضح. عندها نظَرَ الأربعة إلى بعضهم وسكتوا مطوّلاً. وأصِبتُ بالحرَج حين قال لي:" يا لَيتكِ تهتمّين بأموركِ الخاصّة يا أمّي". كنتُ قد أزعجتُه بكلامي، لكن لماذا؟ كنتُ فقط أطمئنّ عليه مِن كثرة حبّي له ولأخيه.
ومنذ ذلك اليوم، لَم أعد أسمع شيئًا... بتاتًا. خلتُ طبعًا أنّ إبني تغلَّبَ أخيرًا على أرقه، لكنّ الحقيقة كانت لا تُصدَّق. فالسبب الحقيقيّ كان أنّ نومي باتَ ثقيلاً للغاية، بشكل أنّني لَم أعدُ قادرة على الإستيقاظ إلا في الصباح المُتأخِّر. كيف ذلك في حين أنّ نومي لطالما كان خفيفًا؟ هل أنّ ولدَيّ وزوجتَيهما كانوا يعطوني منوّمًا ليرتاحوا مِن أسئلتي المُزعجة؟
في البدء لم أشك بشيء، فقط إنزعَجتُ مِن نفسي لأنّني أصبحتُ أستفيق بوقت متأخّر، في حين كنتُ دائمًا الأولى بالنهوض لتحضير الفطور. وهكذا صرتُ أدخلُ المطبخ وأجدُ الجميع جالسًا حول المائدة يأكل بفرَح. وكي أتمكّن مِن النهوض أبكَر، بتُّ أنامُ أبكر. لكن مِن دون نتيجة. ردَدتُ الأمر إلى سنّي، إلا أنّ جارتي قالَت لي إنّ الناس حين تكبر لا تعود تنام كما في السابق وتستيقظ باكرًا جدًّا. فخطَرَ ببالي أنّني أشكو مِن خطب صحّيّ، إلا أنّ ولدَيَّ منعاني مِن رؤية طبيب مُقدّمَين حججًا كثيرة غير مُقنعة بتاتًا. وفي الليالي الثلاثة التي تلَت، عادَ نومي تدريجًا إلى طبيعته، أي خفيفًا.
لكنّني لم أكن يومًا غبيّة. وحتى لو كان حبّي لولدَيَّ لا يُقاس، فإنّ هذا لا يعني أنّني غير قادرة على ربط الأحداث ببعضها والوصول إلى استنتاج. لِذا، قرَّرتُ ادّعاء شرب الشاي الذي قدّموه لي في المساء، لأنّني بكل بساطة، شككتُ بأنّ أحدًا يدسّ لي فيه منوّمًا. لأيّ غرَض؟ لَم يكن لدَيّ أدنى فكرة!
فعلتُ وكأنّني أشربُ الشاي، أي أنّني صِرتُ أشرب منه ولكن أُبقيه في فمي ثانية أو اثنتَين لأعود أبصقُه في الفنجان. وبعد عشر دقائق، حملتُ فنجاني لأعيدُه إلى المبطخ على أنّه فارغ. إلا أنّني أفرغتُ مُحتواه في الحوض وذهبتُ إلى النوم وأنا أتثاءَب. مرَّت التمثيليّة على الجميع، وفرِحتُ بنفسي لأنّني كنتُ لا أزال سيّدة البيت ولا يقدرُ أحد أن يتذاكى عليّ.
دخلتُ السرير وانتظرتُ حتى سمعتُ ولدَيَّ وزوجَتيهما يدخلون هم أيضًا غرفهم، ومِن ثمّ خرجتُ خفية وانتظرتُ في الرواق في الظلام. كان الجوّ باردًا، لكنّني لَم أتحرّك مِن مكاني إذ كان مِن الضروريّ أن أعرف لماذا يقومون بتخديري، خاصّة أنّني قد لا أقدر على تمثيل شرب الشاي بنجاح مجدّدًا.
بعد حوالي النصف ساعة، فُتِحَ باب إبني البكر وخرَجَ هو وزوجته مِن الغرفة ليدخلا إلى غرفة إبني الأصغر الزوجيّة. ركضتُّ ألصق أذني على الباب للمرّة الثالثة، وعدتُ أسمع ضحكات تتعالى. كان بإمكاني العودة إلى فراشي، فالأمر لَم يكن يدعو للدهشّة، لكنّني صمَّمتُ على الدّخول، حتى لو تسبَّبَ لي ذلك بتأنيب مِن ولدَيَّ.
وما رأيتُه كان أفظع مِن أيّ خيال. فقد كان الأربعة عراة تمامًا ويُمارسون الفحشاء. فكيف يعقل أن يقبل ولدايَ بمشاركة زوجتَيهما مع بعض؟ ما هذا الإنحلال؟!؟ هل هذا ما فهماه مِن تربيتي لهما؟ أين ذهبَت القيَم التي لقّنتُها لهما طوال حياتهما؟
كانت شهوة ولدَيَّ أقوى مِن كل شيء آخر، ووجدا بتلك الأختَين شريكَتين مثاليّتَين لإرضاء نزواتهما الشاذة. لكنّ الأمر الذي اقشعرّ له بدَني أكثر، كان أنّ إبنيَّ قاما بدسّ المنوّم لي، أنا أمّهما! وكل ذلك ليمارسا شذوذهما بكلّ راحة بال!
بقيتُ واقفة أمام هؤلاء العراة إلى أن سارعوا إلى ارتداء ملابس مُحتشمة. عندها نظرتُ إليهم باحتقار وقلتُ لهم:
ـ ستُغادرون جميعًا بيتي الطاهر في الصباح، فلا أريدُ أيًّا منكم هنا. لن أقبَلَ بقلّة الأخلاق والغدر حيثُ عشتُ وأبوكم وأنجبناكما على أمل أن تُصبحا رجلَين مُحترمَين وتبنيا عائلة بدوركما. ماذا ستقولان لأولادكما؟ إنّكما تعاشرون بعضكما كالحيوانات ليلاً؟ أيّة رسالة ستعطونَها لأطفال ينظرون إليكم كمثل أعلى لهم؟ هيّا، إجمعوا أمتعتكم بسرعة، ولا تنسوا أنّ هناك مَن سيُحاسبُكم جميعًا في الوقت المناسب!
دخلتُ أبكي في غرفتي، وهم لَم ينتظروا حتى الصباح بل رحلوا بعد ساعة. لَم أخبر إبنتي بالذي حصَلَ، فهكذا أمر لا يجب أن يُحكى لأحد. لَم يتّصل بي أيّ مِن ولدَيَّ لمدّة سنة. وفي تلك الفترة، عشتُ مِن القليل الذي كانت تعطيني إيّاه إبنتي وكان كافيًا لأنّني لَم أعد أهتمّ للأكل والشرب لكثرة حزني.
ثمّ طلّقَ ولدايَ زوجتَيهما وجاءا يطرقان بابي. ولحظة فتحتُ لهما، ركعا عند رجليّ وقبّلاهما بندَم واضح. أدخلتُهما، وعندما جلسنا سويًّا علِمتُ منهما أنّ زوجتَيهما هما اللتان حملَتهما على ارتكاب تلك الأمور البشعة وأيضًا على تخديري، وأنّ طردي لهما خلَقَ خلافًا حادًّا ومشاكل عديدة بينهم. فكلامي كان قد أثّرَ بابنَيَّ إلى درجة كبيرة، وأيقَظَ فيهما ضميرًا كانت الغريزة قد تغلّبَت عليه.
لا أعلم حتى اليوم مَن كان المذنب الفعليّ، لكنّني شعرتُ فعلاً بتوبة ولدَيَّ. وابتعاد زوجتَيهما عنهما كان له تأثير جيّدًا عليهما.
ما زال إبنيَّ عازبَين حتى اليوم، ولَم نفتَح ذلك الموضوع المُزعج على الإطلاق. وبقينا نتصرّف وكأنّ شيئًا لم يكن لكنّني، حتى اليوم، لا أستطيع محو ذلك المشهد الرهيب مِن ذهني. صحيح أنّ حبّي لولدَيَّ لَم يتغيّر، إلا أنّ شيئًا في داخلي انكسَرَ إلى الأبد.
حاورتها بولا جهشان