من يراني أجر أمامي عربة الخضار والفواكه، لا يخطر بباله أنني كنت يوماً رجلاً مقتدراً. صحيح أن لا عيباً في أي عمل، إلا أن الفرق بين ما كنت عليه وصرته هو شاسع بطريقة خيالية. وكوني لا أتذمر علناً بشأن حالتي، سببه أنّني المُذنب الأوّل في ما حصَلَ لي. أجل، ألومُ نفسي يوميًّا، فلولا غبائي لمَا فقدتُ كلّ ما أملك. ستقولون لي إنّ هناك حتمًا مَن أوقَعَ بي، وأنتم على حقّ في ذلك. لكن ما مِن أحد يُجبَرُ على المضيّ في أيّ شيء لو لَم يكن موافقاً، على الأقل في حالتي. فالحياة هي جملة خيارات نتّخذُها وعلينا تحمّل مسؤوليّتها.
كلّ شيء بدأ عندما التقَيتُ صدفةً بصديق قديم لَم أرَه منذ سنين عديدة، لِذا سُرِرتُ به للغاية. وللإحتفال بلقائنا غير المُنتظَر، دعاني سعد إلى العشاء نحن الإثنَين، أي مِن دون زوجتَينا لاسترجاع ذكرياتنا بمفردنا، حسب قوله. لَم تكن مِن عاداتي أن أتركَ زوجتي لوحدها ليلاً، لكنّها تفهّمَت الوضع ودعَت لي بتمضية وقتاً مُمتعاً، عالمةً تمام العلم مدى محبّتي لِسعد.
أخذَني صديقي إلى مطعم جميل حيث أكَلنا وتحدّثنا بمرَح، ومِن ثمّ اقترَحَ عليّ اصطحابي إلى حانة ليُعرّفني بشلّته. لَم أكن مُتحمّسًا للذهاب إلى هكذا مكان، إلا أنّني قبلتُ أمام إصرار سعد الذي وعدَني بعدَم إجباري على شرب الكحول.
المكان كان جميلاً بأضوائه وبالموسيقى الجميلة التي كانت تعزفُها فرقة مؤلّفة مِن خمسة موسيقيّين. جلسنا إلى طاولة صغيرة وطلَبَ صديقي لنفسه كأسًا مِن الويسكي ولي كوبًا مِن المرطّبات. وبعد حوالي نصف ساعة، توقّفَت الفرقة عن العزف والتحقَ أفرادها بطاولتنا للتعرّف إليّ لأنّني كنتُ بصحبة سعد، صديقهم. لكن في تلك اللحظة، تغيّرَت الأضواء وسكَتَ جميع الحاضرين وإذ بِفتاة بغاية الجمال تدخلُ الحلبة بلباس رقص. للحقيقة، عندما رأيتُها واقفة على المسرح الصغير، خلتُ نفسي أحلمُ، فلَم أرَ في حياتي مخلوقة بحسنها وجاذبيّتها لدرجة أنّ فمي بقيَ مفتوحًا، الأمر الذي أضحَكَ سعد ورفاقه، فقال لي:
ـ هاهاها! لو تراكَ زوجتكَ الآن! إنّها لولا، راقصتنا الجميلة... لا تخَف، فالكلّ مفتونٌ بها وردّة فعلكَ أكثر مِن طبيعيّة... سأطلبُ منها أن توافينا بعد تأدية رقصتها.
كنتُ أودُّ الرحيل في تلك اللحظة، ويا لَيتني فعلتُ. إلا أنّني بقيتُ في الحانة بالرغم مِن يقيني أنّ زوجتي لَم تكن لتُسَرّ لو علِمَت أين أنا وكيف أنظرُ إلى امرأة أخرى، أي بإعجاب لا يوصَف، لا بل برغبة بعيدة كلّ البعد عن البراءة. فتلك المرأة كانت قد حرّكَت فيّ غريزة لَم أكن أعلم أنّها موجودة لدَيّ. وأبشَع ما في الأمر أنّني لَم أخجَل مِن نفسي، بل شعرتُ بأنّني مستعدٌّ لِفعل أيّ شيء للحصول على لولا. نظَرَ سعد إليّ مُبتسمًا وطلَبَ مِن النادل أن يجلبَ لي كأسًا مِن الويسكي. لَم أنتبِه إلى الأمر في البدء، لكن عندما وصَلَ الكأس، نظرتُ إليه للحظة ثمّ وضعتُه على شفتَيّ. كان الأمر وكأنّ الكحول هي الشيء الطبيعيّ الذي يجب فعله وأنا أتفرَّج على رقص لولا المُثير. كانت حركات جسمها كالتي تقومُ بها تلك الأفاعي التي تخرجُ مِن سلّة الحاوي، وتمايُلها البطيء أشعَلَ نارًا في داخلي.
صفّقَ الجميع لِلولا، وهي اتّجهَت نحو طاولتنا بعد إشارة لها مِن سعد. كانت الراقصة أكثر جمالاً عن قرب، وأخذتُ أراقبُ حُبَيبات العرَق التي كانت تتدحرَج ببطء على جسمها الفتيّ. في تلك اللحظة بالذات، وضعتُ أوّل رِجل في عالم كان سيدمُّرني لاحقًا ويأخذُ منّي كلّ ما أملك.
كيف وقعتُ بهذه السرعة والسهولة في شباك لولا وأصدقائها، بينما لَم أقترِف رذيلةً واحدة في حياتي؟ ربمّا هو الكَبت أو رغبة أهلي ورغبتي بأنّ أخوضَ حياةً مثاليّة طوال الوقت. فلَم يكن لدَيّ تجارب، ولَم أختلط أو حتى أرَ عن قريب صنفًا كهذا مِن البشر. كانت حياتي نظيفة للغاية، ربّما أكثر مِن اللزوم. فكما يحصل للطفل الذي يمنعُه أهله مِن مُخالطة العالم الخارجيّ فيلتقطُ جراثيم خطيرة لقلّة مناعته، هكذا التقطّتُ فجأة أبشَع الأمراض: الإدمان على لولا.
وضعَت الراقصة يدَها على كتفي ونظرَت في عَينيَّ، وقالت لي بصوت مُثير:
- ألن تُقدّم لي كأسًا مِن الكحول؟ أم أنّكَ بخيلٌ؟
بالطبع إستجَبتُ لِطلبها وأمضَيتُ ما تبقّى مِن الوقت أتأمّلُها، كيف تتحرّك، كيف تشرب، كيف تضحَك... هذا قبل أن أتذكّر أنّ لي زوجة وأولادًا ينتظرون عودتي إلى البيت. وهكذا تركتُ الحانة، أي على مضض. وجدتُ زوجتي نائمة فصعدتُ إلى السرير لأحلمَ بِلولا.
لكن في الصباح شعرتُ بِذنب لِما دارَ في عقلي، فكنتُ أحبُّ زوجتي كثيرًا. صحيح أنّها لَم تكن مُثيرةً مثل لولا أو حتى بجمالها، لكنّ قلبي كان لها. أسفتُ لأنّني كذبتُ عليها بشأن مكان وجودي قبل ساعات، لكنّ زوجتي صدّقتني، فأنا لَم أُعطِها يومًا سببًا لتشكّ بي. وكيف سيخطرُ بِبالها أنّ زوجها سيفقدُ كلّ شيء مِن أجل راقصة؟ حتى أنا لَم أتصوّر ذلك مُمكنًا لكنّه حصَل.
صِرتُ أتردّدُ إلى الحانة بحجج مُختلفة، وآخذُ معي هدايا للولا كما أوصاني سعد أن أفعل. فحسب قوله، هكذا امرأة يجب أن تُعامَل بسخاء لإبقائها مُهتمّة بِرجل. هل كنتُ أنوي إقامة علاقة حميمة مع الراقصة؟ لا، بل أودّ فقط أن تنظرَ إليّ كما تفعل، أي وكأنّني أوسَم وأقوى رجل في العالم. لكنّني عدتُ وخنتُ زوجتي لأنّني أردتُ امتلاك لولا كليًّا.
بعد الهدايا الباهظة، صرتُ أدفعُ إيجار منزل لولا وكلّ مصاريفها، لتسمحَ لي بزيارتها كلّ أسبوع وتذوّق ساعة واحدة فقط مِن المُتعة. ومِن ثمّ دفعتُ لها مبلغًا شهريًّا ثابتًا، وأعطَيتُها إحدى بطاقاتي الإئتمانيّة لتتسوّق على راحتها بعد أن أخبرَتني أنّ رجلاً ثريًّا يُريدُها لنفسه.
في تلك الأثناء، بدأت زوجتي طبعًا تشكُّ بي، فهي لَم تكن غبيّة. أسكتّهُا ببعض الهدايا كما تعلّمتُ أن أفعل مِن مُعاشرتي لِلولا. لكنّ مصاريفي فاقَت بكثير الراتب الذي كنتُ أتقاضاه كمُحاسِب، فصارَ سعد يُقرضُني المال لأتمكّن مِن دفع تكاليف الراقصة وعائلتي، بعد أن وجدتُ نفسي عاجزًا عن دفع أقساط مدارس أولادي.
تراكمَت ديوني، فقروض سعَد كانت مصحوبة بفوائد عالية للغاية، وهو لوّحَ لي بمصير بشِع لو تخلّفتُ عن الدّفع. لِذا مددتُ يدي على صندوق الشركة بعد أن زوّرتُ الحسابات. كنتُ فعلاً أنوي إعادة تلك المبالغ حين أسدّدُ لِسعد ما له عليّ وتعودُ الأمور كما كانت سابقًا. رحتُ حتى إلى لولا طالبًا منها أن تُعيد لي المجوهرات التي أهدّيتُها لها لأتمكّن مِن بَيعها، لكنّها ضحِكَت بوجهي عاليًّا ونعَتَتني بالفاشل وطردَتني مِن حياتها، فلَم أعد نافعًا لها. رمَتني كما فعلَت لاحقًا زوجتي بي حين طُلِبتُ للتحقيق بِتهمة الإختلاس ودخلتُ السجن. لَم تكن زوجتي لِتتركني لو فعلتُ ذلك مِن أجلها وأولادها، لكنّها اكتشفَت أين صرفتُ ذلك المال بِفضل تقارير التحقيق وجلسات المُحاكمة.
قضيتُ فترة في السجن فكّرتُ خلالها مليًّا بالذي فعلتُه بنفسي وبعائلتي. كنتُ قد استفقتُ مِن ذلك الكابوس بعد أن استوعبتُ كيف لَعِبوا بي جميعهم. لكنّهم لَم يُجبروني على شيء، فأدركتُ أنّني المذنب الوحيد.
لكن عند قضاء عقوبتي، كان سعد بانتظاري أمام أبواب السجن لاسترجاع ماله بأيّة طريقة. أجَبتُه أنّني لَم أعد أملكُ شيئًا، لكنّه أبرحَني ضربًا وأصدقاؤه وقال لي إنّه سيقتلُني إن لَم أدفَع. رحتُ أبحثُ عن عمل، إلا أنّ خبَر اختلاسي كان قد وصَلَ إلى جميع المؤسّسات ولَم يعد أحد يُريدُ تشغيل سارق لدَيه.
لَم يتركني سعد وشأني، فصارَ يدقُّ باب أهلي حيث بتُّ أعيشُ ويُطالبُني بما أنا مُدينٌ له به فلَم يعد مِن الممكن تفاديه. وفي إحدى المرّات سألتُه لماذا فعَلَ بي ذلك، أي لماذا دمَّرَ حياتي بأسرها. وهذا ما قالَه لي:
ـ بل أنتَ الذي دمَّرتَ نفسكَ... كان لدَيكَ بيت وزوجة مُحبّة وأولاد وأصدقاء شرفاء مثلكَ وعمل مُحترَم... للحقيقة لَم أتوقّع أن تقَعَ بهذه السهولة، فليلة اصطحابكَ لأوّل مرّة إلى الحانة، قلتُ للشلّة إنّ برفقتي رجلاً صعب المنال، وإذ بكَ تنبهرُ بعالمي بسرعة فائقة... فتّش في ثنايا نفسكَ يا صاحبي وستجد أنّكَ دفنتَ لِسنين رغباتكَ الدّنيئة تحت شعارات الآداب والقيَم التي لَم تكن حتى مُقتنعًا بها. إتّضَحَ أنّكَ قادرُ على الكذب والغشّ والسرقة ومُعاشرة أبشَع أنواع النساء، وكأنّكَ فعلتَ ذلك طوال حياتكَ، وأعترفُ أنّكَ أبهَرتَني.
ـ لستُ كما تصفُني!
ـ بلى، بلى. أنظر إلى نفسكَ الآن، حالتكَ مُزرية ولا أحد يشفقُ عليكَ، حتى ذووكَ يخجلون بكَ بعد الفضيحة التي أصابَتهم. سأشتري لكَ عربة خضار وستبيع وتبيع حتى تسدّد دينكَ لي.
ـ عربة خضار؟!؟
ـ أجل... عملٌ شريفٌ ونظيف. ولا تنسَ أن تُفكّر بالذي فعلتَه وأنتَ تجرُّ عربتكَ في الشوارع وتُنادي على بضاعتك.
ـ هل تُعاقبني؟ وما دخلكَ بالذي فعلتُه؟ كلّ ما تريدُه هو مالكَ.
ـ إسمع... في ما مضى كنتَ تمثّلُ بالنسبة لي شريحة قليلة مِن الخيّرين، أي أنّ الإنسان يُمكن أن يكون خلوقًا... فأنا أقضي حياتي مُحاطًا بالرذيلة ورجال السّؤ، وها أنتَ قد أطفأتَ آخر بصيص نور بقيَ لي وأثبتَّ أنّ الإنسانَ فاسدٌ بطبيعته، ولهذا أُعاقبكَ.
سأعودُ إنسانًا طيّبًا وشريفًا! سأسترجعُ حياتي السابقة وعائلتي!
ـ هـ هـ هـ... سنرى ذلك... يا صاحبي.
حاورته بولا جهشان
