إن كنتُ اليوم لا أملكُ شيئًا، فذلك بسبب نقاوة قلبي... وبسبب أمّي التي أرادَت التخلّص منّي وبأيّ ثمَن. فهي التي رمَتني في أحضان شاب فاشل ووصوليّ، وهو استفادَ مِن تلك الظروف. فليس صحيحًا أنّ جميع الأمّهات تضحّينَ مِن أجل أولادهنّ وتحبُّهنَّ فوق كلّ شيء. وهذه قصّتي:
كنتُ في الخامسة عشر عندما توفّيَ أبي، ولَم تنشَف دموع أمّي عليه إلى أن عرّفَتني إلى رجُلها الجديد. لَم أكن آنذاك بسنّ يَسمحُ لي بالاعتراض أو حتى إبداء رأيي... فسكَتُّ. على كلّ الأحوال، كانت والدتي متفرّدة برأيها ومُتسلّطة، وما مِن أحد كان قادرًا على إملاء شيء عليها. تزوّجَت أمّي وانتقَلنا للعَيش في بيت جميل مليء بالأغراض الجميلة.
لكنّ زوج أمّي بدأ يُبدي اهتمامًا خاصًا بي، وخافَت أمّي كثيرًا على نفسها وليس عليّ. فهي لَم تكن مُستعدّة لفقدان هذه الحياة المُريحة ورأت بي مُنافسة لها. مِن جانبي، لَم أفسّر تصرّفات ذلك الرّجل على أنّها تُخفي شيئًا، بل أنّها دلالة على عاطفة أبويّة.
تحمّلَت والدتي دلَع زوجها لي حتى صرتُ في الثامنة عشرة، وهي فترة أليمة قضَيتُها أصدّ هجماتها ضدّي وكلامها المؤذي. فحين قالَت لي إنّها تودّ إرسالي إلى جامعة بعيدة، رأيتُ في ذلك خشبة خلاصي.
دفَعَ زوج أمّي، مُجبَرًا، تكاليف الجامعة والغرفة التي كنتُ سأسكنُ فيها وأسِفَ أشدّ الأسف على رحيلي.
حين وصَلتُ حَرَم الجامعة، وبالرّغم مِن سعادتي، شعرتُ بالخوف مِن ذلك المكان الذي يعجُّ بالتلاميذ وكأنّهم سَرب نَحل يدخلون ويخرجون مِن خليّتهم الضخمة. لكنّني عزَمتُ على الاندماج بهم لأثبُتَ لوالدتي أنّني لستُ فتاة غير نافعة، كَما اعتادَت أنّ تُكرّر لي.
كنتُ سعيدة في مسكني الجديد، حيث صارَ لي أصدقاء وأمل بأن أفعَلَ "شيئًا نافعًا" بمستقبلي بعد التخرّج... إلى أن دخَلَ في سنتي الأخيرة، وائل، أستاذ مادّة غير رئيسيّة، على حياتي. كان ذلك الأستاذ شابًّا مُقارنة بالباقين وكان يحظى بشعبيّة كبيرة بين الصبايا. للحقيقة، لَم يُعجِبني وائل بصورة خاصّة، بل وجدتُ أسلوبه بالتعليم مُريحًا وسهلاً. وهو وجَدَ فيّ نموذجًا للفتاة البريئة، أي فريسة سهلة، وذلك بعد أن تقصّى عنّي طبعًا وعن أحوال زوج أمّي المادّيّة. فالجدير بالذكر أنّ جامعتي كانت خاصّة وأقساطها باهظة الثمَن. فمَن كان مُسجّلاً بها، كان على الأرجح مِن الأغنياء.
ويومًا بعد يوم، صرتُ محطّ انتباه وائل الذي لَم يُخفِ اهتمامه بي، وبدأَت الألسن تتكلّم. حاولتُ إسكات الأقاويل، لكنّني لَم أنجَح بذلك ووصَلَ الأمر بأن أُستدعى عند المدير... برفقة أمّي. شعرتُ بِعار كبير وشعور بالظلم لا يوصَف، حين حصلتُ على تأنيب مِن تصرّفات "لا تليق بفتاة بِمقامي" وعلى نظرات عتاب شديد مِن قِبَل والدتي. لكنّ ملامحها تغيّرَت فجأة حين وصَلَ وائل وبدأَت تبتسمُ للأستاذ الوسيم. كان مِن الواضح أنّ تأثير وائل على النساء يطال جميع الأعمار.
إعترَفَ أستاذي بإعجابه بي أمام مديره ووالدتي، وأعرَبَ عن نيّته بالزواج منّي بعد تخرّجي، أي بعد أشهر قليلة، وارتاحَ قلب الجميع، إلا قلبي. فكيف لذلك الشاب أن يُقرّر عنّي مصيري، خاصّة أنّنا لم نتبادل أيّ كلام خارج نطاق الدّرس؟ أسرعَت أمّي بالقول إنّ عليها الموافقة أوّلاً واستشارة زوجها. لَم تذكرني بموضوع تلك الموافقة، لكنّني فضّلتُ السّكوت كي لا يظنّ أحد أنّني لا أريُد سوى اللهو مع وائل ووعَدتُ نفسي بأن أمانِع، وبشدّة.
في الأشهر التي تلَت، صِرتُ أتغيّبُ عن حِصص وائل بعد أن أوكَلتُ زميلة لي بمشاركتي كلّ ما عليّ معرفته مِن تلك المادّة، وخفتُ أن أرسبَ بسبب انتقام أستاذي منّي. إلا أنّني نجحتُ، وبامتياز، الأمر الذي استغربتُه إلى أقصى درجة، فلَم أكن يومًا تلميذة مُتفوّقة. وعند تخرّجي، أسرَعتُ بالعودة إلى بيت أمّي وزوجها، خلافًا لمشاريعي التي كانت تقضي بأن أجد بسرعة عملاً والبقاء بعيدة.
إستقبلَتني والدتي بفرَح وقبّلَتني بقوّة، وخلتُ لبرهة أنّها اشتاقَت لي وقرَّرَت مُعاملتي بلطف وحنان. إلا أنّ أوّل شيء قالَته لي بعدما أفرَغتُ حقائبي، هو أنّها سألَت صديقة لها، وهي أمّ زميلتي في الجامعة، عن وائل، وقالَت لها إنّه شاب ممتاز ونصحَتها بإدخاله إلى العائلة. رفضتُ بقوّة حتى التكلّم بالموضوع، واكتفَت أمّي بالنظر إليّ بتمعّن ومِن ثمّ الابتسامة، أيّ أنّها كانت ستُنفّذ ما في رأسها بموافقتي أم لا.
وبدأ وائل بالتردّد إلى بيتنا باستمرار والجلوس مع أمّي وزوجها لساعات. كنتُ أسمعُهم يتحدّثون ويضحكون سويًّا، عندما كنتُ أحبسُ نفسي في غرفتي. وفي أحد الأيام، جاء زوج أمّي إليّ قائلاً:
- لماذا تتصرّفين كالأطفال، يا صغيرتي؟ وائل شاب ممتاز ويُريد إسعادكِ. أعطِه فرصة لإثبات حسن نيّته لكِ، وبعد ذلك تستطيعين رفضه إن شئتِ.
كلام الرّجل كان منطقيًّا، ولَم أشأ كسفه بعدما عاملَني وكأنّني ابنته وقدّمَ لي حياةً جميلة ومُريحة. لِذا، قبِلتُ الخروج مع وائل لوحدنا.
خلال موعدنا، لَم يكفّ وائل عن الاعتذار لي بإبداء إصرار واضح وعنيد عليّ. فكنتُ، وحسب قوله، قد استحوذتُ على قلبه مِن أوّل نظرة ولَم يعُد مُستعدًّا للعَيش مِن دوني. بعد ذلك الكلام الجميل، وافقتُ على رؤيته مُجدّدًا. وتتالَت المواعيد وصِرتُ مُتعلّقةً به. فحين أعادَ عليَّ عرضه بالزواج، وافقتُ. والذي أقنعَني الأكثر بالقبول، كان ذكره بأنّنا سنُسافر سويًّا للعَيش في بلد بعيد... عن أمّي. فقد كنتُ أعلَم تمام العلم أنّها لَن تتركني بسلام وستتدخّل بزواجي إلى حدّ تدميره. وكَم كنتُ بعيدة عن الحقيقية!
بسبب إمكانيّات وائل المادّيّة المحدودة، ساعدَنا زوج أمّي بتكاليف الزفاف والسّفر، وأعطاني مبلغًا كبيرًا لأبدأ هناك مشروعًا كنتُ أحلمُ به. ودّعتُه وأمّي التي ذرفَت دموع... التماسيح. فأنا متأكّدة مِن أنّها تمنَّت ضمنيًّا ألا تراني مُجدّدًا في البلد، فبُعدي عنها كان سيُؤمّنُ لها راحة البال. للحقيقة، والدتي لَم تصدّق يومًا أنّ تعلّق زوجها بي كان بريئًا.
حين وصَلنا الولايات المُتحدة، غمرَني شعور بالمغامرة لا يوصَف. فذلك البلد كان يُمثّلُ بالنسبة لي إمكانيّة البدء مِن جديد مع زوج مُحبّ. كان وائل قد وجَدَ وظيفة كمدرّس للّغة العربيّة، في مركز خاص والرّاتب كان لا بأس به. وأنا كنتُ أملكُ المال اللازم لفعل ما أشاء به.
لكن سرعان ما بدأ وائل يحثُّني على إعطائه مالي ليُنشئ ما أسماه "حجر الأساس" لِمعهد لغات خاصّ بنا. رفضتُ طبعًا، لكنّني عُدتُ واقتنَعتُ بمشروعه بعدما شرَحَ لي منافعه الاجتماعيّة والماليّة، ووعدَني بأنّني سأكون مَن يُدير المعهد بينما هو يهتمّ بالتدريس والمدرّسين.
مرَّت الأشهر ولَم يتحقّق شيء مِن المشروع، وقال لي وائل، بعدما سألتُه عن الأمر، إنّ المال لَم يكفِ وإنّنا بحاجة إلى المزيد. بالطبع نصحَني باللجوء إلى زوج أمّي الذي لَم يرفض لي يومًا طلبًا. وسمِعتُ مِن زوجي، وهكذا بدأ زوج أمّي يُرسل لنا، عبر حساب مُشترك لي ولوائل، مبلغًا شهريًّا.
بقيَ زوجي مُنشغلاً بإقامة معهده، مِن دون إحراز أيّ تقدّم، إلى أن اختفى يومًا مِن دون أن ينسى إفراغ حسابنا المشترك في المصرف. لَم أستطع فعل شيء حيال ذلك، فوائل لَم يرتكب أيّ مُخالفة قانونيّة، لذلك تركتُ الولايات المتّحدة وعُدتُ بائسة الى البيت.
عُدتُ إلى الشماتة مِن جانب أمّي والأسف مِن جانب زوجها، وتحمَّلتُ كلّ ذلك بصمت لأنّ الذنب كان ذنبي.
وبعد رجوعي إلى البلَد، ولكثرة ملَلي مِن المكوث في البيت، عاودتُ الاتصال بصديقاتي وزميلاتي في الجامعة. وكَم كانت دهشتي كبيرة عندما سمعتُ مِن إحداهنّ الكلام التالي:
- لقد استغربتُ كثيرًا أمر زواجكِ مِن الأستاذ وائل، لكنّني لَم أتدخّل في شؤونكِ الخاصّة بعدما رأيتُكِ مُغرمة به.
- هذا لأنّني كنتُ أنفرُ منه في البدء؟
- لا... بل لأنّ أمّكِ سألَت أمّي عنه، فهو قريب بعيد لنا... وأمّي قالَت لها إنّ الأستاذ إنسان فاشل وانتهازيّ وإنّه قد خطَبَ فتاة ثمّ تركَها بعد أن أخذَ بعض المال منها. فكيف لها أن تسمحَ لكِ بالزواج منه؟ هل لأنّكِ أصرَّيتِ عليه؟
- لا... بل لأنّ أمّي أكّدَت لي أنّ وائل شاب ممتاز.
كنتُ أعلَم أنّ والدتي لا تحبُّني، لكنّني لَم أكن أُدركُ إلى أيّ مدى. فهي أرادَت التخلّص منّي بسرعة بتزويجي إلى قارّة بعيدة جدًّا. لكن، هل كان بنيّة وائل أن يُسافر قبل أم بعد تعرّفه عليّ وعلى أمّي؟
قصَدتُ والدتي لأنتزع الحقيقة منها، وواجهتُها بأمر معرفتها مُسبقًا بأخلاق وائل البشعة. وهذا ما قالَته لي:
- يُمكنُ للمرأة الذكيّة أن تغيّر طباع أيّ رجل مهما كان سيّئًا... أنتِ لَم تنجحي بذلك، يا عزيزتي، وتأتين اليوم لإلقاء اللوم عليَّ... لطالما كنتِ ضعيفة لا تفلَحين سوى بالبكاء على نفسكِ.
- إذًا تعترفين بأنّكِ كنتِ على علم بأخلاق وائل السيّئة! ألَم يخطر ببالكِ أنّه قد يسرقني كما فعلَ؟
- هذا المال ليس لكِ، بل لي. فإنّه مال زوجي وأنا أحقّ به! على كلّ الأحوال، عادَ هذا المال لي... أو جزء منه على الأقل.
- ماذا؟ تقاسمتِ المال مع وائل؟؟؟
- وهل كان سيعرف هذا الفاشل ماذا يفعل لولا تعليماتي؟ لكنّني لَم أقل له أن يترككِ ويختفي، فها أنتِ عُدتِ وواقفة أمامي... يا لغبائه!
- ويا لِمكركِ! أنا ابنتكِ! ما بالكِ؟؟؟ والرّجل الذي تسرقين منه هو زوجكِ! هذا تعبه!
- لا يهمّني أحد! لا أنتِ ولا ذلك المملّ الذي اسمه زوجي! ولولا ثراؤه لَما أعطَيتُه نظرة واحدة!
صحيح أنّ قلبي كان قلب طفل بريء، لكنّني لَم أكن غبيّة. فما لَم تكن تعرفه أمّي هو أنّ مسجّل هاتفي كان يعمل طوال مُحادثتنا، وكنتُ قد حصلتُ على ما أريدُه مِن أدلّة لتقديمها لزوج أمّي... هذا لو لَم تفعل أمّي ما بوسعها للتعويض عليّ والابتعاد عن حياتي نهائيًّا. فبعد أن بعثتُ لها عبر هاتفها قسمًا مِن اعترافاتها، طلَبتُ منها التواصل مع وائل لتقول له أن يُطلّقني بأسرع وقت. مِن ثمّ طالبتُها بالمال الكافي لبدء مشروع ما، كما كان بنيّة زوج أمّي.
لَم أحصل إلا على جزء بسيط مِن مالي، لكنّه كان كافيًا لأفتح مكتبًا صغيرًا للديكور. مِن جهّة ثانية، حصلتُ على الطلاق وعلى وعدٍ مِن والدتي بعدَم اقترابها منّي بتاتًا.
أزورُ زوج أمّي باستمرار في مكتبه، وليس في البيت كي لا أرى أمّي، فتلك المرأة هي شرّيرة بالفعل وأنانيّة للغاية، وأخشى أن تتلاعب بمشاعري لتضعَ يدها على حياتي مجدّدًا.
حاورتها بولا جهشان