كم مِن شخص يستفيد مِن صِغر عقول الناس وتعلّقهم بمعتقدات سخيفة وغير نافعة؟ أنا واحد مِن هؤلاء الذين كرَّسوا حياتهم لتجريد بسطاء العقول مِن أموالهم. فعلتُ ذلك فقط لأتجنّب عناء الذهاب إلى العمل في الصباح وتحمّل أوامر مدير متطلّب.
فلطالما كان لدَيّ مشكلة مع العمل والسّلطة، الأمر الذي كان على الأرجح عائدًا إلى المرحوم أبي الذي قضى عمره ينصب على الناس لنَيل ما يُمكنه والصّرف على العائلة مِن دون تعَب. إنتهى المطاف به في السجن طبعًا بعدما ادّعى عليه الكثيرون، ولم يخرج إلا عندما أصبَحتُ مراهقًا. لم أختَر طريق والدي لأنّني رأيتُ كيف انتهى به المطاف، وقرّرتُ أن أكون أذكى منه وأفلتُ مِن شباك العدالة بالإستفادة مِن مخاوف الناس.
في البدء، لم يخطر ببالي أن أصبَحَ بصّارًا بل أن أكون وسيطًا في عمليّات بَيع وشراء أراض وشقق. كان ذلك العمل شريفًا ولكن مُتعبًا، ولم أكن مستعدًّا لقضاء حياتي أركض وراء لقمة عيشي، بل أرَدتُ أن تأتي هي إليّ.
جاءَتني فكرة التبصير مِن جارتي علياء التي كانت محتارة في أمرها، بعدما مات زوجها وتركَها مع أولاد صغار وعائلته التي كانت تنوي تجريدها مِن حقّها في الميراث. أخَذتُ فنجان القهوة التي كانت تشرب منه، نظرتُ فيه وقلتُ لها مِن دون أن أعني فعلاً ما أقولُه، إنّها ستخسر بعض الأراضي إلا أنّها ستفوز بالباقي حتمًا. وهذا ما حدَثَ فعلاً لها، وجاءَت ركضًا لتسألني كيف علِمتُ بما سيحصل لها. عندها أيضًا قلتُ لها مازحًا: "أعرفُ الكثير... فأنا قادر على قراءة الغَيب."
لم أتوقّع أبدًا أن ينتشر الخبر في الحَي وأبعَد بعد، ولَم أفهم ما أردَته تلك النساء اللواتي قصدَتني إلى البيت لرؤيتي. نظَرَت أمّي إليّ بتعجّب ممزوج بعتاب، وأنا أقسَمتُ لها أنّني لم أكن السبب.
وحين أدركتُ أنّني كسَبتُ لقَب: "الذي يعرف ما سيحصل"، إبتسمتُ في سرّي ورأيتُ أمامي فرصة ذهبيّة للعَيش في رخاء.
أجلستُ الزائرات في حلقة دائريّة، وشرحتُ لهنّ أنّني أحتاج إلى الهدوء والخصوصيّة لرؤية مستقبلهنّ في الفنجان، لِذا على كل واحدة أخذ موعد خاص بها. وهذا ما حصل في مشهد مضحك للغاية...
للحقيقة، لم أكن أعلم أبدًا ماذا سأقول لزبونتي الأولى، لكنّها هي التي ساعَدَتني على النصب عليها، مِن دون أن تدرك ذلك طبعًا. فمِن أسئلتها والمعلومات التي أعطَتها لي عن نفسها، إستطعتُ تكوين فكرة واضحَة عن أحوالها ومكانتها وآمالها ومخاوفها، وأعطَيتُها احتمالات عديدة كان لا بدّ لإحداها أن تتحقّق. فعلتُ الشيء نفسه مع الأخريات وانتظرتُ النتيجة. وما كنتُ أحسبُه حصل، فاللواتي لَم تتحقّق امنياتهنّ عندي رحَلنَ، أمّا مَن وصَلنَ إلى مبتغاهنّ فقد رأَت فيّ مبصّرًا قويًّا يُمكن الاتّكال عليه، وقمنَ بنصح صديقاتهنّ بي.
وهكذا أصبَحَ البيت مقرّ عملي، وأمّي التي في البداية عارضَت ما يجري، باتَت تستقبل الزبونات، وذلك بعد أن رأت الأموال تتدفّق علينا. ومع الوقت، صِرتُ أشبَه بطبيب نفسيّ يُعطي النصائح للعازبات والمتزوّجات عن العلاقات العاطفيّة والزوجيّة ومشاكل الحمل والطلاق. كان لدَيّ زبائن مِن الرّجال أيضًا، إلا أنّهم كانوا يُفضّلون أن أقصدهم في مقرّ عملهم خوفًا مِن كلام الناس، وهناك كانوا يسألوني عن سَير أعمالهم وحياتهم العاطفيّة.
بكلمة مختصرة، صرتُ المرجع الأوحد لتساؤلات أهالي المنطقة، ووصلَت شهرتي حتى العاصمة... وفي غضون سنتَين أصبحتُ رجلاً غنيًّا. لكنّني لم أستعرض ثرائي لأنّني كنتُ أدّعي دائمًا عدَم مساعدة الناس مِن أجل المال، بل كنتُ أقول لهم جملتي الشهيرة: "لا أقبل المال، فما أفعلُه هو بفضل موهبة أعطاني أيّاها الله مِن أجل أخي الإنسان... لكنّكم تستطيعون التبرّع مِن خلالي بما شئتم إلى المحتاجين المساكين". أعلم أنّني كنتُ نصّابًا كشأن أبي، لكنّني لم أخشَ مِن دخول السجن مثله بغياب أدلّة على ما أفعلُه بفضل بخوف زبائني مِن العار والشماتة. عملي كان مُربحًا وآمنًا وهذا ما يطلبُه كلّ منّا مِن عمله... أليس كذلك؟
وفجأة تعرّفتُ إلى الحبّ. كنتُ حتى ذلك الحين مركّزًا على الربح والتدجيل وتطوير معرفتي بالصنف البشريّ، لأنال ما يُمكنّني مِن جيوب المغفّلين، ولَم أفكّر أنّ لي أيضًا حياة عاطفيّة شأن باقي البشر. كان اسمها تغريد، وهي جاءَت إلى البيت مع أختها الكبرى التي كانت تعاني مِن مشاكل عاطفيّة أدَّت إلى اكتئاب حاد ومشاكل صحّيّة. وكانت تغريد مختلفة عن النساء اللواتي قدِمن إليّ، مختلفة برقّتها وجمالها وبراءتها، ورأيتُ فيها الطيبة التي كان يفتقدُ إليها قلبي الذي كان جائعًا للمال والشهرة. إستمعتُ إلى الأخت، وبعمليّة حسابيّة بسيطة وجدتُ أرقامها السحريّة التي تجلب لها الحظ، ومِن ثمّ قرأتُ طالعُها بالفنجان وأعطَيتُها نصائح لا أتذكّرُها تمامًا. ولم أنسَ أن أقول لها أن تعود بعد أسبوع... مع أختها طبعًا.
وصارَت الفتاتان تأتيان إليّ كلّ أسبوع، لكنّ الأخت لم تتحسّن بل صارَت حالتها تسوء. نصحتُها بعدم الذهاب إلى الطبيب بل شرب أعشاب أعطَيتُها لها كنتُ قد أخذتُها مِن مطبخ أمّي خلسة، وركّزتُ على تغريد التي بدأَت تلين وتظهر لي إعجابًا واضحًا. ومع أنّ وزن الأخت بقيَ يخفّ وزادَ شحوب وجهها والإسوداد تحت عَينَيها، فقد منعتُها مِن رؤيّة أيّ أحد غَيري خوفًا أن أخسَرَ التي سكَنت قلبي.
الحقيقة أنّني كنتُ مُغرمًا جدًّا بتغريد وأنوي الزواج منها، بعد أن صارَت كلّ ما ومَن أفكّر فيه، وكان يلزمني بعض الوقت للتحكّم بعواطفها تجاهي. فالمشكلة أنّ تلك الفتاة لم تكن مِن اللواتي تذهبنَ في موعد، بل كانت مهذّبة جدًّا لا تبرح المنزل لوحدها. وكانت زياراتها لي مع أختها هي الفرَص الوحيدة لأراها وأجلس معها.
لكن جاء يوم واختَفت تغريد كليًّا. إنشغَلَ بالي طبعًا، وبعد أن انتظرتُ حوالي الأسبوع، تجرّأتُ بطلَب رقم الأخت. وكم تفاجأتُ حين سمعتُ صوت تغريد وهي تقول لي:
ـ يا لوقاحتكَ! تتصل لتسأل عن ضحيّتكَ؟ لقد ماتَت أختي بسببك أيّها المجرم!
ـ لماذا تقولين ذلك؟ ماذا جرى؟
ـ منعتَها مِن الذهاب إلى الطبيب وأعطَيتَها أعشابًا تبيّن أنّها مخصّصة للطهو! أيّ إنسان أنتَ؟
ـ قالَت لي إنّها حزينة بسبب ترك خطيبها لها... كيف لي أن أعلم ممّا تشكو صحيًّا؟
ـ كيف لكَ أن تعلم؟!؟ ألستَ بصارًا؟ ألا تقرأ الغَيب؟ ألَم ترَ أنّ أختي ستموت؟
ـ للحقيقة لا... فالله لا يسمح لي بأن أرى كلّ شيء.
ـ إيّاكَ أن تلفظ إسم الله! أنتَ شيطان! سأعمل جهدي لتشويه سمعتكَ... يا إلهي... كنتُ على وشك الوقوع في حبّكَ!
ـ أصحيح ذلك؟ يُمكننا نسيان كل ما مضى والبدء مِن جديد!
ـ هل تعي ما تقوله لي؟ نسيان أنّكَ قتلتَ أختي؟
ـ لم أجبر أحدًا على سماع كلامي... إن كانت أختكِ مغفّلة فهذا ليس ذنبي.
أسفتُ طبعًا للذي جرى للأخت ولكن ليس أكثر مِن ذلك، فبالفعل كنتُ أعتبر زبوناتي مغفّلات وأسأل نفسي مرارًا كيف تصدّقنَ أقوالي.
بعد ذلك تتالَت الأحداث بسرعة. جاءَت الشرطة إلى البيت وفتّشَته وسألَت أمّي ألف سؤال. إلا أنّهم لَم يجدوا ما يدّل على مهنتي ووالدتي لم تقل لهم شيئًا طبعًا. أمّا في ما يخصّ الشهود، فلَم يتقدّم أحد بشكوى ضدّي، تمامًا كما توقّعتُ. لكنّ الغضب ضدّي كان عارمًا وما كان يتحضّر كان فظيعًا.
ففي إحدى الليالي وأنا عائد إلى البيت، إنقضّ عليّ رجال عديدون وأخذوني عنوة إلى مكان لا أعرفه. وبالرّغم مِن أنّهم وضعوا على وجهي غطاءً، إستطَعتُ التعرّف إلى أصوات زبائن لي عانوا طبعًا مِن توقّعاتي. كان بعضهم يصرخ والبعض الآخر يضربني بوحشيّة. وتناهى إلى مسمعي صوت أعرفُه جيّدًا: كانت تغريد تحثّ خاطفيّ على إيذائي إلى أقصى درجة. عندها استسلَمتُ، فالتي أحبَبتُها كانت تكنّ لي كرهًا لا مثيل له. توقّفتُ عن المقاومة وتلقَّيتُ الضرب حتى أُغمِيَ عليّ. وحين استفَقتُ كنتُ في المشفى، وكانت كل عظامي مكسورة بما فيها عامودي الفقري. وعلمتُ أنّني لن أمشي بعد ذلك.
والغريب في الأمر أنّني لم أشعر بأيّ غضب، بل بأنّني أستحقّ الذي حصَلَ لي، وكأنّ عقابي كان فتَحَ عَينيَّ على قباحة ما فعلتُه بالناس لسنين، بعد أن تلاعبتُ بعواطفهم، وأعطَيتُهم آمالاً كاذبة ونصائح غير مُجديّة وسيطرتُ على عقولهم وأموالهم، حتى الفقراء منهم. أدركتُ أنّني قتلتُ فعلاً أخت تغريد، فحتى لو كانت هي صغيرة العقل، لم يكن يجدر بي استغلالها وإبقاؤها مِن دون علاج فقط لأستمرّ برؤية حبيبة قلبي.
حياتي بعد الحادثة كانت موحشة فلَم يعد أحد يزورنا، حتى الأقرباء والأصدقاء. وسرعان ما نفَذَ المال منّا، فمال الحرام لا بركة فيه. صِرتُ أعمل في مصنع للتبغ، وأتقاضى راتبًا ضئيلاً بالكاد سمَحَ لنا أن نأكل.
أنا اليوم إنسان مكسور مِن الخارج ومِن الداخل ولا أجرؤ حتى على التذمّر. كلّ ما أريدُه اليوم هو أن يُسامحَني الله وكلّ مَن أذَيتُه لأعيش باقي أيّامي بسلام.
لكن ما مِن أحد يُصدّق أنّني تبتُ حقًّا، ولا أزال بنظر الجميع الدجّال المجرم الذي لاقى جزاءه على يد ضحاياه.
حاورته بولا جشهان