اليوم أحمُدُ ربّي وأشكرُه على تلك الوقعة التي تعرّضتُ لها والتي سبَّبَت لي كسورًا عديدة. لقد غضِبتُ آنذاك لكثرة ألَمي والحالة التي بتُّ فيها لعدَم تمكّني مِن القيام بشيء، حتى المشي. للحقيقة، لقد وقعتُ مِن دون سبب، فلَم أتعثَّر بشيء ولَم أُصَب بدوخة ما، بل سقطُّ أرضًا فحسب. وبعدما اتّصلتُ بابني الوحيد ونقلَني إلى المشفى بسرعة، قال لي:
ـ عند انتهاء الأطبّاء مِن مُعالجتكِ، ستأتين للعَيش معي وزوجتي وأولادنا، فلا يُمكنُكِ البقاء لوحدكِ. أعلَم ما ستقولينَه، فلا تُعذّبي نفسكِ لأنّني مُصرٌّ على ذلك.
كان جمال يعرفُني جيّدًا إذ لطالما كنتُ أُصِرّ على عدَم التدخّل في حياته الخاصّة والزوجيّة، ورفضتُ أن أعيشَ عنده يوم تزوَّجَ لتجنّب المشاكل. لكنّ حالتي بعد الوقعة أجبرَتني على القبول، شرط أن أعودَ إلى بيتي فور تحسّني.
إستقبلَتني رباب كنّتي بتهذيب لكن مِن دون حماس، ورتّبَت لي غرفة الضيوف. فرِحَ الأولاد كثيرًا بي لدى عودتهم مِن المدرسة وكبُرَ قلبي بهم، فلَم أكن أراهم كثيرًا بسبب سفَر جمال الدائم إلى الخارج، وأيّ كنّة تُحبّ حماتها لدرجة تفضيلها على أمّها؟ فهي كانت تأخذُ أحفادي باستمرار إلى والدتها ليقضوا جميعًا أوقاتًا مُمتعة، وتُكرّسُ لي زيارةً بين الحين والآخر.
وجدتُ أنّ مكوثي مع رباب قد يكون فرصة لتقرّبنا مِن بعضنا، خاصّة أنّها كانت ربّة منزل، أي ليس لدَيها عمل تذهبُ إليه. لكن سرعان ما لاحظتُ أنّ زوجة ابني لا تُحبّ البقاء في البيت كثيرًا بل تقضي قسمًا كبيرًا مِن يومها مع صديقاتها. وهكذا صِرتُ أبقى لوحدي معظم اليوم بعد أن تُساعدني رباب على دخول الحمّام واللبس وتناول وجبة الفطور. مِن حسن حظّي أنّني كنتُ قد جلبتُ معي بعض الأعمال اليدوية مِن كروشيه وصوف، وإلا متُّ مِن الملَلَ بانتظار رجوع كنّتي والأولاد ثمّ ابني. لكنّني لَم أتذمَّر مِن الوضع، ففي آخر المطاف كانت تلك حياتهم وكانوا ممتنّين منها ولَم أكن سوى ضيفة مؤقّتة عندهم.
مرَّت الأيّام بهدوء واعتادَت رباب على وجودي بل لَم تعُد تشعرُ بي بتاتًا. وفي تلك الفترة بالذات، إقترفَت كنّتي خطأها الأوّل، فهي رجِعَت إلى عادتها القديمة، أيّ التكلّم هاتفيًّا وبصوت عالٍ... مع عشيقها!
كنتُ جالسة في الصالون ورباب خارجة مِن الحمّام وتتحدث هاتفيًّا مع عشيقها:
ـ أجل، سيُسافرُ ذلك الغبيّ ولن يعود قبل أسبوع، فلقد تأكّدتُ لتوّي مِن الأمر... كَم اشتقتُ إليكَ يا حبيبي... ما ذنبي إن كانت تلك "الساحرة" بيننا؟ كم أمقتُها!
ومِن ثمّ توقّفَت عن الكلام لحظة رأتني أنظرُ إليها بتعجّب تام. هي أقفلَت فجأةً الخطّ وتمتمَت قبل أن تركض إلى المطبخ: "هذه كانت صديقتي... أمزحُ معها كثيرًا". بالطبع لَم أُصدقها، وحزنتُ كثيرًا ليس لأنّها أسمَتني "الساحرة" بل لأنّ وحيدي هو رجل مغدور ومغشوش. كنتُ أعلَم كَم أنّه يُحبّ رباب وكيف أنّه يتعبُ كثيرًا ليؤمِّن لها ولأولادهما حياة مُريحة. بقيتُ جالسة في الصالون غير عالمة ما عليّ قوله أو فعله.
تصرَّفَت كلتانا وكأنّ شيئًا لَم يحصل طوال اليوم. ولدى عودة جمال، ركضَت رباب تقبّله بحرارة. وفي المساء، أخبرَني إبني بأنّه مُسافرٌ في صباح اليوم التالي. عندها نظرتُ إلى كنّتي وقرَّرتُ أنّ عليّ التكلّم معها بجدّيّة بشأن ما سمعتُه.
فبعد أن ودَّعَنا جمال، جلستُ مع كنّتي في المطبخ. وبعد دقائق طويلة مِن الصمت، قلتُ لها أخيرًا:
ـ لقد سمعتُكِ... وفهمتُ تمامًا ما يجري... لا تُحاولي الإنكار أرجوكِ، فانا لستُ طفلة لتُقنعيني بقصّة ما. إسمعي... جمال هو وحيدي ولا أُريدُه أن يتأذّى مِن أيّ أحد، لِذا ستقطعين علاقتكِ مع ذلك الرجل، وعلى الفور. وأنا مِن جانبي لن أقول لولَدي ما يجري. هل اتّفقنا؟
ـ إتّفقنا يا حماتي.
ـ ولِتُبرهني لي صدق نواياكِ، ستبقَين معي في البيت طوال فترة سفَر زوجكِ.
ـ ماذا؟!؟ وماذا عن صديقاتي؟
ـ إجلبيهنّ إلى هنا. فمُكالمة هاتفيّة واحدة منّي وسيُطلّقكِ جمال بلحظة.
ـ وتسبّبين له الحزن؟ وتُدمّرين عائلته؟ ماذا عن أحفادكِ؟ لا أظنُّكِ قادرة على تحميل ضميركِ هذا الأمر. لن تقولي لجمال شيئًا، أنا مُتأكّدة مِن ذلك.
ـ لا تُجبريني على القيام بذلك يا رباب.
للحقيقة، كانت كنّتي على حقّ بالذي قالَته، فآخر ما كنتُ أنوي فعله هو إخبار ابني بأنّ لزوجته عشيقًا، إلا أنّني بقيتُ أهدّدُها بأنّني لن أتردّد عن فضحها لو اقتضى الحال.
مكثَت رباب في البيت حتى عادَ جمال، وكانت طوال تلك الفترة صعبة المزاج لدرجة لا تُطاق إذ أنّني وقفتُ في درب لقائها بعشيقها. عانى الأولاد منها كثيرًا لكثرة صراخها بهم مِن دون سبب، وارتحنا جميعًا حين رجِعَ ابني.
وبالطبع لَم تُعِد رباب الخطأ نفسه بالتكلّم مع عشيقها أمامي، بل صارَت تدخلُ غرفتها لتتحدّث هاتفيًّا معه بصوت خافِت للغاية.
مِن جانبي، بدأتُ أتحسّن جسديًّا، وبدأَت مُعالِجة فيزيائيّة بالمجيء لأقوم معها بالتمارين اللازمة لاستعادة حركتي التامّة.
وارتكبَت رباب خطأها الثاني... وهو جَلب عشيقها إلى البيت. نعم، هي كانت بهذه الوقاحة! إذ أدخلَته خلسة حين كنتُ في الحمّام أُنشِّفُ نفسي وأنتظرُ كنّتي لتُساعدني على ارتداء ملابسي. غابَت رباب لدقيقَتين ثمّ عادَت وبقيَت تتصرّفُ على طبيعتها. جلستُ في الصالون ثمّ قالَت لي إنّها مشغولة في غرفتها لبعض الوقت بغرَض ترتيب خزانتها. لَم أشكّ بشيء طبعًا فبدأتُ بحياكة الصوف.
لَم أنتبِه إلى الوقت وهو يمّر، ووجدتُ أنّ كنّتي لا تزال في غرفتها. للحقيقة، إنشغَلَ بالي عليها فهي لَم تصدر أي صوت أو حركة طوال ذلك الوقت، وظننتُ أنّه أُغميَ عليها لسبب ما أو سقطَت عن الكرسيّ وهي تُرتّب خزانتها. لِذا جرَرتُ نفسي إلى آخر الرواق ولمّا كنتُ أنوي قرع الباب، سمعتُ صوت رجل. في البدء خلتُ طبعًا أنّها تتكلّم مع أحد عبر الهاتف وأنّها وضعَت مُكّبر الصوت، لكن الهمسات التي تلَت دلَّت على وجود فعليّ لأحد في الغرفة. بدأَت رجلاي بالرجفان لكثرة وقاحة كنّتي ولَم أعُد أعلَم ما عليّ فعله: هل أدخلُ فجأةً أم أتراجع؟ لَم يتسنَّ لي أخذ أيّ قرار إذ فتحَت رباب الباب بنفسها لغرَض ما وتفاجأَت بي لدرجة لا توصَف. ثمّ أخذَت تصرخُ بي بأعلى صوتها:
ـ ماذا تُريدين أيّتها العجوز الفضوليّة؟!؟ لَم أعُد أتحمّلُكِ على الإطلاق! يا لَيتكِ ترحلين أو... تموتين!
ثمّ أقفلَت الباب مُجدّدًا وأنا عدتُ إلى الصالون خائفة، بعد أن أرعبَتني نبرة صوتها ونظراتها المليئة بالشرّ والحقد. ماذا كانت تُريدُني أن أفعل؟ أن أتغاضى عن ممارساتها أو تهنئتها بخيانة ابني، وجَلب عشيقها إلى البيت الزوجيّ وأثناء وجودي؟!؟
لَم أشعُر بالعشيق وهو يرحَل، لكن فقط برباب وهي تقف أمامي وتنظرُ إليّ بإمعان لتقول:
ـ سترحلين على الفور مِن بيتي!
ـ أنا هنا عند ابني وأرحلُ فقط في إحدى الحالتَين: حين أشفى تمامًا أو إذا طلَبَ منّي جمال ذلك.
ـ أُريدُكِ خارج بيتي!
ـ لن يحصل ذلك... لن أفسحَ المجال أمامكِ وأمام ذلك الرجل. قولي لي... مِن أين وجدتِ الجرأة الكافية لِجَلبه إلى هنا؟ ألهذه الدرجة شهوتكِ تغلّبَت على أيّ منطق وشرَف؟!؟ على كلّ الأحوال، قد أُقرِّر العَيش هنا بصورة دائمة، مَن يدري؟
وتلك الجملة الأخيرة هي التي ولَّدَت الأحداث التي تلَت والتي أرتجفُ خوفًا لمجرّد سردها.
فبعد أيّام، حان وقت سفَر جمال مُجدّدًا، الأمر الذي كنتُ أخشاه لأنّني كنتُ سأضطرُّ لمراقبة كنّتي ليلاً نهارًا والتصادم معها. لكنّني أمّ وعليّ السهر على مصلحة ولَدي.
إلا أنّ رباب كانت قد دبَّرَت لي أمرًا فظيعًا وهو التخلّص منّي نهائيًّا... بقتلي! لا، لستم وسط مُشاهدة فيلم تليفزيونيّ، فتلك الأمور تحصلُ لأناس عاديّين أيضًا، طالما هناك شرّ وأنانيّة وغياب ضمير. فكنّتي أقنعَت عشيقها بقتلي لأنّني كنتُ سأفضحُ أمرهما عاجلاً أم آجلاً، وتخسرُ هي حياة الرخاء وهو المصروف الذي كانت تُعطيه له مِن مال ابني. فهو كان أصغر منها سنًّا ويأخذُ منها الهدايا والمال مُقابل إعطائها اللذّة والانتباه.
وبعد يومَين مِن سفَر ابني، أرسلَت كنّتي الأولاد إلى جدّتهم الأخرى لقضاء فرصة نهاية الأسبوع. وفي تلك الليلة، وبعد أن هبَطَ الظلام ورحتُ أنام، شعرتُ بحركة غريبة في البيت لا تُشبِه ما اعتدتُ عليه خلال تواجدي عند ابني. حبستُ نفَسي وسمعتُ صوت أقدام تروح وتجيء وهمسات أمام بابي. كنتُ لوحدي في البيت مع رباب، فمَن عساه يكون؟ العشيق؟ وهل هي تجلبه أيضًا في الليل؟!؟
فُتِحَ باب غرفتي ورأيتُ بطرَف عَيني شكل رجل. وسمعتُه يهمُس لِرباب:
ـ لا أُريدُ فعل ذلك، أرجوكِ... فهي بسنّ جدّتي وأنا أحبّ جدّتي كثيرًا!
ـ إذهَب إليها أيّها الجبان وأخطُف نفَسها إلى الأبد!
بدأتُ أتصبّبُ عرَقًا مِن الخوف، فكيف لي أن أنجوَ مِن هذَين المُجرمَين؟ لا أدري كيف كانت ستبرّرُ كنّتي موتي، لكنّني كنتُ مُتأكّدة مِن أنّها أعدَّت رواية مُتماسكة.
إقترَبَ الشاب منّي مُمسكًا وسادة بغرَض خنقي، حين فتحتُ عَينيَّ جيّدًا ونظرتُ إليه قائلة: "هذا أنتَ يا صغيري؟ جئتَ لتزورَ جدّتكَ الحبيبة؟". ولدى سماعه ذلك، رمى العشيق الوسادة وركضَ خارجًا وصارخًا: "لن أقتُل جدّتي!". حمدتُ ربّي أنّني استيقظتُ في الوقت المُناسب لأسمعهُ يُشبّهُني بجدّته وإلا كنتُ الآن في عداد الأموات!
أقفلتُ الباب بالمفتاح جيّدًا وأخذتُ الهاتف وخابَرتُ جمال حيث هو، ليس فقط بسبب ما حصَلَ لي للتوّ بل خوفًا أيضًا عليه. فمِن الجائز أنّ زوجته قد قرّرَت قتله هو الآخر!
عادَ ابني في أوّل طائرة وجدَها، وسمعتُه يتشاجرُ فور وصوله بعنف مع زوجنه. بعد دقائق، دخلَت رباب الغرفة وخرجَت منها مُحمّلةً بالحقائب ومِن ثمّ رحلَت. بكى جمال كثيرًا لأسباب كثيرة أيضًا، فهو لَم يحزَن فقط لأنّها زوجته وأمّ أولاده، بل لأنّني كدتُ أموت بسبب حياته الزوجيّة.
تألَّمَ أحفادي كثيرًا لدى معرفتهم برحيل أمّهم، ولاموا أباهم بينما هو بقيَ يخفي عليهم السبب الحقيقيّ كي لا يُولِّد لهم مشاكل نفسيّة.
بقيتُ عندهم بصورة دائمة، وعمِلتُ جهدي لأُنسيهم مصيبتهم، فأنا أعلمُ جيّدًا أنّ الزمن قادر على تخفيف أبشَع الأوجاع، وكنتُ على حق، خاصّة أنّ رباب بانَت على حقيقتها حين سافرَت بعيدًا وقطعَت كلّ تواصل مع أولادها.
اليوم أنا واثقة مِن أنّ حصول وقعَتي كان لإنقاذ ابني مِن الذي كان ينتظرُه مع تلك المرأة الشرّيرة.
حاورتها بولا جهشان