تمنَّيتُ لو كنتُ أرملة أو حتى مُطلّقة لأنّ الأمر كان أسهل عليّ إجتماعيًّا وعاطفيًّا... لكنّني بقيتُ عزباء طوال حياتي. لماذا؟ لأسباب عدّة مِن بينها إنشغالي بغيري ولأنّني بكلّ بساطة لَم أجِد مَن أحبُّه كفاية لأربط مصيري به... أو لأنّ ما مِن أحد شجّعَني على الزواج. ففي معظم العائلات هناك مَن يُكرّس حياته لأهله حين يكون باقي الأولاد مشغولين بتحقيق أحلامهم.
بعد زواج أخوَتي وموت أهلي رحتُ أعيشُ عند خالتي، وهي عجوز عنيدة تبغضُ البشريّة بأسرها لِسبب حتى هي تجهله. كان زوجها قد توفّى منذ وقت طويل وتعيشُ لوحدها لأنّها لَم تُنجِب. إستقبلَتني خالتي بمزيج مِن الفرحة والرَيبة، فهكذا كانت، تشكُّ بِنوايا الكلّ وتتصوّرُ أنّهم يُريدون أذيّتها أو وضع اليَد على القليل الذي وضعَته جانبًا تحت فراشها. لكنّها كانت تُحبُّني بطريقتها الخاصّة.
لماذا اخترتُ العيش مع العجوز بدلاً مِن أن أبقى في البيت الأهليّ أو مع أحد اخوَتي؟ ربّما لأنّني لَم أكن سعيدة مع هؤلاء القوم أو مع ما يُذكّرُني بهم. كنتُ قد أدركتُ أنّ كلّ فرد مِن عائلتي كان قد استغلَّني على طريقته، وقلتُ لنفسي إنّ خالتي لن تكون أسوأ منهم.
كان منزل خالتي جميلاً وهي اهتمَّت به كما يجب، فهو كان على تلّة جميلة ومُحاطًا بأرض شاسعة. عشتُ مِمّا حصلتُ عليه مِن إرث أبوَيّ، بعد أن اقتطَعَ أخوَتي منه نصيبهم مع أنّهم لَم يكونوا بحاجة له. إنتظرتُ منهم أن يتركوا حصّتهم لي بعد كلّ الذي فعلتُه لكنّهم لَم يروا سببًا لذلك. لَم أغضَب منهم فكنتُ قد تعوّدتُ على أنانيّتهم.
كانت خالتي تُعطِيني بين الحين والآخر بعض المال، لكنّني لَم أصرفه بل وضعتُه جانبًا في حال غيّرَت رأيها وطالبَتني به. فكنتُ قد لاحظتُ أنّ العجوز بدأَت تُصاب بالنسيان، الأمر الذي صعَّبَ تعاملي اليوميّ معها. إلا أنّني صرتُ مُتعلّقة بها وبأخبارها التي كانت ترويها لي... مئة مرّة.
بعد فترة، طلبتُ مِن خالتي الاذن بزراعة الأرض المحيطة بالمنزل وهي وافقَت بعد أن سألَت زوجها المُتوفّي. أجل، فهي كانت تُكلّمه عبر صورته الضخمة المُعلّقة على حائط الصالون وهو لَم يُمانع على ما يبدو. رحتُ أشتري البذور والشتلات وبدأتُ العمل. وسرعان ما بدأَت تظهر نتيجة عملي وشعرتُ بِفرح لَم أعرفه مِن قبل. وفي تلك الفترة، إكتشفتُ أنّ الزراعة هي ما عليّ فعله لِباقي حياتي.
بعد فترة، إشترَيتُ الدجاج الحَي وديكًا وصرنا نأكل البيض الطازج والخضار المُنعشة وكانت خالتي ممنونة للغاية. سألتُها إن كانت تُريدُ أن أزرَع الفواكه أيضًا وهي وزوجها وافقا. طلبَت منّي خالتي جلبَ شتل الدرّاق لأنّها فاكهتها المُفضّلة.
هل استبدلتُ شعوري بالأمومة بالزراعة؟ لربما. لَم أفكّر بالأمر كثيرًا إذ أنّ هناك أشياء لا يجب التفكير بها طالما أنّها تُعطينا الفرَح والإكتفاء وعلينا تقبّلها كما هي والتلذّذ بها بدون أن نطرح الكثير مِن الأسئلة.
بعد خمس سنوات على وصولي بيت خالتي، ساءَت حالتها. بالطبع إهتميَّتُ بها كما يجب، إلا أنّها لَم تشفَ. هي لَم تكن حزينة لِرحيلها، فقد كانت تنتظرُ بِشوق الإلتقاء بِزوجها مِن جديد. إلى جانب ذلك، خرَفها كان يُنسيها بين الحين والآخر حالتها ومصيرها، وذلك يُعدّ نعمة بحدّ ذاته. إلا أنّها وجَدَت الوعي الكافي لتقول لي قبل موتها بأيّام:
ـ هذا البيت لكِ يا صغيرتي... والأرض وكلّ ما أملك. أتذكرين حين نزلتُ المدينة السنة الفائتة لأرى الطبيب ولَم أقبَل أن تُرافقيني؟ للحقيقة قصدتُ المحامي وكتبتُ أملاكي لكِ.
ـ شكرًا يا خالتي! لكنّكِ ستتعافين قريبًا... سترَين.
ـ لا أحد يعيشُ إلى الأبد. ماذا كنتُ أقولُ... لقد نسيتُ.
ـ البيت... كتبتِه لي.
ـ أجل، أجل. وهناك المال. إنّه تحت الفراش.
ضحكتُ بسرّي إذ كنتٌ قد اكتشفتُ هذا المخبأ بعد وصولي بأيّام قليلة حين كنتُ أُرتّبُ سريرها، ولَم يكن الأمر سرًّا أبدًا. لكنّها تابعَت:
ـ وهناك المزيد... الكثير مِن المال. يا إلهي... أين وضعتُه؟
ـ هذا لا يهمّ فلقد تركتِ لي ما يكفي.
ـ لا... هناك المزيد... لماذا لا أستطيع التذكّر؟ ساعديني!
ـ كيف أساعدُكِ ولا أعلمُ عمّا تتكلّمين؟
ـ خبأتُ الباقي في مكان ما... مكان مُحدَّد لأتمكّن مِن تذكّره.
ماتَت خالتي مِن دون أن تتذكّر مكان ذلك المال. بكيتُ عليها لأنّها كانت قد عاملَتني بطريقة جيّدة، بالرّغم مِن طبعها الحاد، وخصّصَتني بكلّ ما تملك كي لا أحتاج إلى شيء أو أحد.
كنتُ قد صرفتُ أكثر مِن نصف المال المُخبّأ تحت الفراش على أتعاب الطبيب الذي كنتُ أجلبُه لها بشكل شبه يوميّ والذي لَم يُبارح جانبها، لكنّني لَم آسف على ذلك، فالمال كان مالها وهي أحقّ به منّي. والجدير بالذكر أنّني لَم أبحث عن باقي المال المُخبّأ، فإن كان مِن نصيبي سأجدُه يومًا ما وإن كان مِن نسيج خيال خالتي فلن آسف على شيء.
أخبرتُ أخوَتي بأن خالتهم توفّيَت، لكنّ الأمر لَم يؤثّر بهم فكانوا قد رأوها مرَّات قليلة في حياتهم. لكن عندما قلتُ لهم إنّها تركَت لي كلّ ما تملك، حينها بدأ الموضوع يهمّهم. فالبيت والأرض كانا في منطقة مرغوبة وجميلة للغاية، وبَيع العقار كان يُساوي الكثير مِن المال.
أسفتُ كثيرًا حين حاوَلَ أخوَتي مُطالبتي قانونيًّا بِحصّتهم في البيت والأرض. كنتُ قد تخطَّيتُ الأربعين مِن عمري ولا زوج أو ولد لي، وكانت هذه الأملاك كلّ ما تبقّى لي، فكيف لهم أن يُحاولوا تجريدي مِن الذي كان سيُؤمّن لي شيخوخة سعيدة بعيدة عن الفقر والذلّ؟ بكيتُ مِن الأسف لكنّني لَم أستسلم كما فعلتُ معهم سابقًا. فأرادَت خالتي أن أرِث لوحدي منها، وصمّمتُ على تنفيذ رغباتها الأخيرة. لَم أخبِر طبعًا هؤلاء الذئاب عن المال الذي هو مُخبّأ في مكان ما في البيت، فقد كنت متأكّدة مِن أنّهم كانوا سيهدّوه بحثًا عنه. يا لطمعهم! هم لَم يُفكّروا يومًا إلا بأنفسهم وبعائلاتهم وكأنّني لستُ أيضًا مِن العائلة.
نويتُ مُسامحتهم وفعلتُ، ليس مِن أجلهم بل مِن أجلي لأصل إلى حالة سلام ذاتيّة، وأنسى الاستغلال واللامُبالاة اللتَين مارساها عليّ. عدتُ إلى الزراعة، الأمر الوحيد الذي كان يُعطيني السكينة وسط الدعوات القضائيّة التي كانت تظهر مِن وقت لآخر مِن قِبَل أخوَتي. فهم لَم يتوقّفوا عن المطالبة بالعقار وكأنّ الأمر كان أساسيًّا لهم. لَم أفهم ذلك الإصرار ولَم أرِد فهمه.
صارَت قطعة الأرض بما فيها مِن خضار وفواكة وحبوب إلى جانب الدجاج كافية لأعيش منها، فكنتُ، ومنذ صغري، نباتيّة. وعندما نفَدَ مال خالتي، لَم أشعر بالحاجة إلى مدّ يدي إلى أخوَتي الذين توقّفوا عن مكالمتي بعد أن رفضتُ تقاسم ميراثي معهم.
ساعَدَني جيراني في المنطقة على إقامة خليّة للنحل في قسم مِن الأرض، ولَم يقبَل أيّ منهم أخذ نصيبه مِن العسل الذي كنتُ أنتُجه كي أنتفِع لوحدي مِن بيعه. يا للفرق الشاسع بينهم وبين أفراد عائلتي!
وبعد سنتَين صِرتُ أعيشُ جيّدًا مِن بيع منتوجاتي، فالعودة إلى الطبيعة لا تتركُ أحدًا يجوع. كَم أنتَ كريم يا رب! فلقد أعطَيتنا ما يكفينا وأكثر، ومعظمنا لا يُدركُ مدى هذا العطاء المجّاني.
مرَّت سنة أخرى حين لاحظتُ أنّ إحدى شجرات الدرّاق بِحالة سيّئة، وأسفتُ عليها إذ كنتُ قد تعلّقتُ بها شأنّها شأن باقي الأشجار. إلا أنّ هذه كانت المُفضّلة عند المرحومة خالتي لأنّها كانت تقصدُها لِقطف ثمار منها. حاولتُ مُعالجة تلك الشجرة، إلا أنّ أحدهم نصحَني بعدَم إضاعة وقتي بها وقَلعها، لكنّني بقيتُ أرفضُ. حتى لو يَبِسَت بِكاملها كنتُ سأُبقيها ذكرًا مِن العجوز.
لكن في أحد الأيّام، لاحظتُ على أصل الشجرة شيئًا يخرجُ مِن الأرض. كانت الدنيا قد أمطَرت بقوّة في اليوم السابق فظهَرَ مِن تحت الأرض ما كان مُخبّأً منذ سنوات: كنز خالتي! أزلتُ التراب بيدَيّ أولاً ثمّ بِمجرفة صغيرة واكتشفتُ علبة خشبيّة ثقيلة الوزن. أخذتُها إلى البيت وعَيناي مليئتان بالدموع وفتحتُها على مهل، وإذ بي أكتشفُ رزم مِن المال المُهترئ بسبب الرطوبة والماء. ضحكتُ لأنّ خالتي لَم تعرف أنّ الخشب لا يتحمّل الماء، إلا أنّني رأيتُ تحت الأوراق النقديّة شيئًا يلمعُ بقوّة: رأيتُ عددًا لا يُحصى مِن الليرات الذهبيّة! رفعتُ يدَيَّ إلى السماء وشكرتُ ربّي وخالتي لهذه الهديّة الثمينة. لَم أعدّ الليرات، فكان هناك ما يكفيني طوال حياتي. كتمتُ سرّ اكتشافي طبعًا، لكنّني قرّرتُ مُساعدة مَن هم بحاجة، ومُكافأة جيراني الذين لَم يتخلّوا عنّي.
بِعتُ بعض الليرات الذهبيّة لأشتري سيّارة لِتحميل المنتوجات بدلاً مِن استئجار شاحنة صغيرة في كلّ مرّة. الأمر لَم يغِب عن أخوَتي الذين كانوا، مِن دون أن أدري، يُراقبون كلّ ما أفعله. لِذا زارَني أخي الكبير يومًا، على غير عادته قائلاً:
ـ لقد وجدتِ الكنز على ما يبدو يا أختي.
ـ عمّا تتكلّم؟ أيّ كنز؟ وهل نحن وسط قصّة ألف ليلة وليلة؟
ـ لا تدّعي الجهل! نعرفُ كلّ شيء عن ذلك المال فلقد أخبرَنا بالأمر ذلك الطبيب الذي عالجَ خالتنا، إلا أنّه لَم يستطع معرفة مكانه لأنّ العجوز اللعينة كانت خرِفة.
ـ لا تتكلّم عنها هكذا!
ـ صحيح، لقد نسيتُ أنّكِ كنتِ المُفضّلة لدَيها.
ـ هذا لأنّني أحبَبتُها واهتمَمتُ بها جيّداً.
ـ نُريدُ نصيبنا مِن الكنز.
ـ ليس هناك مِن كنز وحتى ولو وُجِدَ فلَن تأخذوا شيئًا! لقد سئمتُ منكم ومِن جشعكم! ألهذا السبب أردتم تقاسم العقار معي وأوكلتم محاميًا لِمقاضاتي؟
ـ أجل، فالكنز وثمَن البيت والأرض كان سيدرّ علينا الكثير.
ـ وأنا؟ ألَم تفكّروا بي وبِمصيري عندما أشيخ؟
ـ الحياة عبارة عن مجموعة خيارات نأخذُها، وخياركِ كان الاهتمام بأهلنا وبِخالتنا وعدَم الزواج والإنجاب... وليس علينا تحمّل تداعيات خياراتكِ.
ـ أنتَ على حقّ... وخياري اليوم هو الإحتفاظ لوحدي بما تُسمّيه الكنز... حين أقولُ لوحدي أعني أنّكم لن ترَوا قرشًا واحدًا منه، بل سأنعمُ به أنا وكلّ مَن خصّني بالإهتمام والعون. سأعتبرُ ذلك تعويضًا لِخدماتي. هيّا أخرج مِن بيتي ومِن حياتي ولا تعد أبدًا!
حاورتها بولا جهشان