كنتُ الحلقة الأضعف

لَم يُسامحني إبني سامر على ضعفي الذي تميّزتُ به خلال زواجي مِن أمّه. نعم، أُقرّ بذلك، كنتُ الحلقة الأضعف في العائلة ولستُ فخورًا بذلك.

فلطالما كنتُ ولدًا هادئًا ومُسالمًا أبتعدُ قدر المُستطاع عن المشاكل، وألجأ إلى العالم الخاص بي، أي القراءة والكتابة. للحقيقة، كان الناس يُخيفوني ولا أعلم كيف أتعامل معهم.

كبرتُ مِن دون أن يتغيّر شيء في شخصيّتي، لكنّني صرتُ إنسانًا ناجحًا في ما أفعله وقادرًا على تأسيس عائلة وتأمين حياة مُريحة لها. إخترتُ رانيا زوجة لي ربمّا لأنّها كانت أقوى منّي، أي قادرة على أخذ زمام الأمور عنّي. ففي آخر المطاف، نختار شركاء حياتنا حسب حاجاتنا، ولَم أرَ شيئًا مُعيبًا بأن تكون زوجتي هي رأس العائلة.

إلا أنّ رانيا لَم تكن إنسانة صالحة وإلا لكانت فهِمَت توازن الثنائيّ الذي شكّلناه، فاستغلَّت شخصيّتي للوصول إلى كلّ ما أرادَته. كنتُ قد سلّمتُها قلبي وجسدي وبيتي ومالي بكلّ طيبة خاطر مُقابل أمر واحد: حبّها. حتى ذلك لَم تستطع زوجتي إعطاءَه لي، لأنّها لَم تكن قادرة على حبّ غير نفسها، الشيء الذي لَم أرَه فيها في فترة خطوبتنا.

لَم ترِد رانيا الإنجاب إلا بعد فترة طويلة. وردَدتُ الأمر إلى حاجتها للإستقرار بالحياة الزوجيّة، إلا أنّ السبب الحقيقيّ كان ابتزازها لِرغبتي الشديدة بِجَلب ولد إلى الدنيا. وهي عرِفَت تمامًا كيف تُساوم وتحصل على مُبتغاها وأنا وقعتُ في فخّها أو بالأحرى أفخاخها. فلقد شبّهتُ رانيا مرارًا بالعنكبوت التي تُحيكُ مصيَدتها على مهل وتنتظرُ بصبر أن تعلقَ ضحيّتها فيها لِتلتهمها على مزاجها. فبعد أن كتبتُ قطعة أرض بإسمها، رضيَت رانيا عنّي وحملَت بإبننا سامر. بالطبع كثرَت مطالبها خلال تلك الفترة وأنا لبَّيتُها جميعها: كانت زوجتي ستهبني إبنًا أخيرًا!

إتضَحَ لي في ما بعد أنّ رانيا لَم تكن مؤهّلة لتقوَم بدور الأم، إذ ألقَت المهمّة عليّ. وهكذا قمتُ بتربية سامر لوحدي. لَم أنزعج مِن الأمر بتاتًا، فقد كانت تلك المهمّة مُمتعة للغاية بعد أن نقلتُ طبعًا عملي إلى البيت. كنتُ أودّ أن تُشاركني رانيا فرَح الإعتناء بإبننا، إلا أنّها كانت مشغولة بصرف مالي مع صديقاتها ولاحقًا عشيقها... أو بالأحرى عُشّاقها.

لَم يحظَ سامر بعاطفة الأم وأثَّرَ ذلك به بالرغم مِن جهودي. فهو كان حزينًا بمعظم الوقت ويتعلّق بأدنى حركة مِن رانيا قد تدلّ على شيء مِن الحبّ.

 


بعد فترة، صارَت زوجتي تصرخُ فينا لأيّ سبب وكان مِن الواضح أنّني وإبني نُزعجُها ونقفُ في طريق طموحها الوحيد: العَيش مِن دوننا وعلى سجيّتها. قد يعتقد المرء أنّها وجدَت مَن تحبّه وتُريد الزواج منه، إلا أنّها صارت تنتقلُ مِن عشيق إلى آخر مِن دون أن تتعلّق بأيّ منهم. لَم أكن طبعًا على علم بمغامراتها العاطفيّة، واكتشفتُ الأمر مِن فم إبني الذي أخبرَني حين صارَ في العاشرة مِن عمره، بما سمعَه مِن حديث هاتفيّ دارَ بين أمّه ورجل ما. والذي أثارَ غضبه، ليس أنّ لأمّه علاقة بغيري، بل الطريقة التي تكلّمَت عنّي خلال تلك المُكالمة. وهذا موجز ما قالَته زوجتي لحبيبها:

 

ـ سنلتقي الليلة طبعًا... أجل كما اتّفقنا، فلقد اشتقتُ لكَ يا حبيبي... أجل، لا يزالُ المُغفّل يخال أنّني مع صديقاتي... لا، لن يعرف... على كلّ الأحوال، لا يهمّني الأمر فهو نكرة لا كلمة له ولا منفعة منه... ها ها ها، معكَ حقّ إنّه الزوج المثاليّ! أمقتُه لدرجة لا توصَف لكنّه يأتي لي بالمال ويُلبّي جميع طلباتي... رجل مُطيع للغاية! إلى اللقاء "مون شيري!".

 

إنتابَني حزن عميق ليس فقط مِن ذلك الكلام الأليم بل لأنّ إبني الصغير سمعَه وفهمَه، فهو أدركَ أنّ أمّه ليست فقط إمرأة خائنة بل معدومة الأخلاق بتاتًا. فهناك نساء غير وفيّات تهبنَ زوجهنَّ وتُحاولنَ إخفاء خيانتهنّ بشتّى الطرق. على كلّ الأحوال، لَم تكن رانيا مُخطئة تمامًا بوصفها لي، على الأقل مِن وجهة نظرها. مِن جانبي، لَم أعتبر حبّي أو معاملتي لها ضعفًا بل نوع مِن التفاني للتي اختارَها قلبي. أمّا أن تخونَني، فذلك لَم يكن مقبولاً على الإطلاق. لِذا قرّرتُ وضع حدّ لممارساتها وفورًا.

حين واجهتُ زوجتي بالذي وصَلَ إليّ مِن أخبارها، تفاجأتُ بردّة فعلها. فكنتُ أنتظرُ منها بعض الحياء إن لَم تكن نادمة على ما تفعله، لكنّها نظَرت إليّ بازدراء واضح وقالَت بقساوة:

 

ـ أجل لدَيّ عشيق، وماذا تنوي فعله حيال ذلك؟

 

ـ سأطلبُ منكِ الكفّ عن خيانتي.

 

ـ وإنّ لَم أكفّ عن ذلك؟

 

ـ سأطلّقكِ لأنّ لدَيّ كرامتي!

 

ـ إن طلّقتَني فسآخذ سامر منكَ وسأضعه عند أمّي لتربّيه.

 

كانت رانيا قد وضعَت إصبعها على نقطة ضعفي المتمثّلة بإبني، خاصّة أنّ أمّها هي إنسانة مُهمِلة وعجوز أي غير كفؤة للإهتمام بولد. على كلّ الأحوال كان يكفي أن أنظرَ إلى زوجتي لأعلم كيف هي تربيتها. عضضتُ على جرحي وسكتُّ، مِن أجل سامر وحسب.

 

مرَّت السنوات مِن دون أن يتغيّر شيء بتصرّفات رانيا. إلا أنّ إبني باتَ يكرهُني لأنّني لَم أتَخذ موقفًا مِن أمّه. هو لَم يعرف سبب سكوتي الحقيقيّ ولَم أُرِده أن يعرف أنّه مَن أجبرَني على العَيش في الذّل، كي لا يشعر بالذنب حيال ذلك. فحياتي بأسرها باتَت شبيهة بكابوس يوميّ. فإلى جانب خيانات رانيا لي، هي صارَت تشتمُني وتنعتُني بأبشع الكلمات وذلك أمام إبننا. لَم أعد أستقبل أقاربي أو أصدقائي في البيت، كي لا يرى أحد ما يجري وصرتُ معزولاً تمامًا.

وحين أصبحَ سامر في سنّ الرشد أخبرتُه بأنّني سأطلّق أمّه. هو نظَرَ إليّ بتعجّب ثمّ قال لي ساخرًا:

 


ـ وأخيرًا! هل صحَت فيكَ كرامتكَ أخيرًا؟

 

ـ لا تكن قاسيًا معي يا بنَيّ... أنتَ لا تعرف المعطيات كلّها... صحيح أنّني رجل مُسالم وطيّب، لكنّ ذلك لا يعني أنّني كنتُ مستعدّ لتقبّل الإهانة هكذا.

 

ـ أنا راحل... فقد صرتُ قادرًا على ترك البيت لكما إذ لَم أعد أحتمل ظروف عَيشي.

 

ـ أنتَ على حقّ، هذا ما عليكَ فعله وسأساعدُكَ على الرحيل وإيجاد مكان أفضل لكَ.

 

ـ لا أُريدُ شيئًا منكَ!

 

ـ لا تكن عنيدًا يا بنَيّ... أنتَ بحاجة إليّ على الأقل في الوقت الحاضر. أنا أبوكَ وسأُساندُكَ.

 

ـ وماذا ستفعل بأمّي؟

 

ـ سأُنهي زواجنا فور خروجكَ مِن البيت، لا تخَف.

 

قبل إقامة دعوى الطلاق، أسرعتُ بكتابة مُعظم ما أملك لإبني سرًّا كي لا تضَع رانيا يدها على مالي وأملاكي. فهي كانت شرّيرة وستنوي حتمًا الإستفادة قدر المُستطاع مِن الطلاق. وعندما صرتُ حاضرًا، إتّصلتُ بمحاميّ وبدأنا المعركة. أقول معركة لأنّ رانيا فعلَت المستحيل لنَهش أكبر قدر ممكن قبل رحيلها، إلا أنّها لَم تحصل إلا على القليل. لَم أُدخِل في الدعوى تفاصيل خياناتها، للحفاظ على إسمي وإسم إبني... لكنّ الأمور كانت واضحة للعيان.

بعد أن أخذَت رانيا أمتعتها ورحَلَت، شعرتُ بارتياح شديد وكأنّ ثقلاً كبير أُزيحَ عن صدري. لَم أندَم على تضحيتي مِن أجل إبني، فهو ضحيّة مثلي ولا ذنب له بشخصّيتي المُسالمة واختياري لأمّه.

إنقطعَت أخبار سامر لفترة، وكنتُ أعلم أنّه بحاجة للإبتعاد عن كلّ ما ومَن يذكّره بطفولته التعيسة، فلَم أغضَب منه.

إلا أنّ إبني عادَ واتّصَلَ بي بعد أكثر مِن سنة طالبًا المجيء إلى البيت لرؤيتي. إستقبلتُه بفرح واضح وقبّلتُه مئة قبلة. ثمّ بدأَ سامر بالبكاء، فأجلستُه وحضّرتُ له فنجانًا مِن الشاي ليهدأ. بعد دقائق قال لي:

 

ـ أنا آسف يا بابا... لقد ظلمتُكَ كثيرًا... لَم أكن إبنًا داعمًا أو مُتفهّمًا بل كنت قاسيًا وأنانيًّا... هل تظنّ أنّني أخذتُ هذه الخصال مِن أمّي؟

 

ـ أبدًا يا حبيبي بل أنت مجروح وأتفهمّ ذلك. أنا سعيد أنّكَ جئتَ لتراني أخيرًا.

 

ـ إتّصلَت أمّي بي، لا أعلَم كيف وجدَتني.

 

ـ إنّها أمّكَ فلا بدّ أنّها اشتاقَت لكَ.

 

ـ لا! فهي لا تحبّ أحدًا، صدّقني. لقد فتّشَت عنّي لتُقنعني بإعطائها ما كتبتَه باسمي. لَم أكن على علم بذلك وأشكرُكَ على ما فعلته لكنّني سأعيدُ أملاككَ لكَ.

 

ـ لن أقبَل بذلك، فكل مالي هو لكَ.

 

ـ أريدُ أن أؤسّس حياتي بنفسي وأعدُكَ بأن أستعينَ بكَ لو احتجتُ للأمر.

 

ـ كما تريدُ يا حبيبي.

 

ـ قالَت لي أمّي إنّكَ لَم تطلّقها بسببي.

 

ـ صحيح ذلك لكن...

 

ـ لماذا لَم تقل لي عن السّبب الحقيقيّ؟ فلقد كرهتُكَ لسنوات.

 

ـ هربتُ طوال حياتي مِن مسؤوليّاتي إلى حين أبصرتَ النّور، يا بنَيّ... عندها وبفضلكَ أدركتُ أنّ هناك ما عليّ العَيش والتضحية مِن أجله. لستُ نادمًا. لكن لماذا أخبرَتكَ رانيا عن بقائي معها مِن أجلكَ؟ فهذا ليس مِن شِيمها.

 

ـ قالَت لي الحقيقية لسبب واحد وهو إظهاركَ مرّة أخرى بموقف الضعيف، لكنّها لَم تدرك أنّ ما فعلتَه هو عبارة عن قوّة كبيرة وحبّ أكبر. سامحني يا بابا.

 

ـ أنتَ سامحني يا حبيبي. أدعو الله أن يُعطيكَ أيّامًا سعيدة ويُعوّض لكَ عمّا عشتَه معنا.

 

ـ هل لي أن أعودَ إلى البيت يا بابا؟

 

تعانَقنا لدقائق طويلة وبكَينا مِن الفرح. كنّا سنعيش أخيرًا سعيدَين ونبني حياتنا مِن جديد. لكَم أنتَ كريم، يا رب!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button