كانت لي أيّام جميلة حين كنتُ ناجحًا في عمَلي الذي درَّ عليّ أموالاً كثيرة. إلا أنّ الظروف ساءَت لِدرجة أنّني خسرتُ كلّ شيء بسرعة رهيبة. غرقتُ في كآبة عظيمة إذ أنّ جنى عمري ضاعَ منّي وكذلك أحلامي وآمالي، فلقد عمِلتُ بكدّ لسنوات عديدة بغرَض تكوين عائلة مع إنسانة تكون نصفي الآخَر ونعيشُ كلّنا برخاء. فالجدير بالذكر أنّني آتٍ مِن عائلة مُتواضعة، ولقد شهدتُ كيف أنّ أبي فعَل جهده سدىً لتأمين ما يلزمنا، وكيف أنّ والدتي عانَت طوال حياتها مِن ذلك الضيق المادّيّ. وأتذكّرُ أنّني أقسمتُ لنفسي أنّني لن أعيدَ غلطة والدي أي أبني عائلة لا تحصلُ على أقلّ قدر مِن الراحة. وها أنا أعودُ إلى حالة القلّة وكأنّني لَم أنجِز شيئًا على الاطلاق!
وفي تلك الفترة بالذات، وكأنّ القدَر يُريدُ أن يُسدّد لي ضربة جديدة وقاضية، تعرّفتُ إلى نوال. ومع أنّ الظروف لَم تكن أبدًا مؤاتية لبناء علاقة عاطفيّة، لَم أستطِع مُقاومة المشاعِر التي انتابَتني حين وقعَت عينايَ على تلك الصبيّة الجميلة، وحين جلستُ معها وتبادَلنا الأحاديث. فلقد أدركتُ أنّها الانسانة التي أبحثُ عنها ومِن المُستحيل أن أدَعها تفلتُ منّي. والجدير بالذكر أنّ أحوالي المادّيّة الرديئة لَم تكن أبدًا مُعلَنة، إذ أنّني كنتُ لا أزالُ أملكُ بيتًا جميلاً وسيّارة فخمة وألبسُ أفضل الماركات. لِذا إعتقدَت نوال وأهلها أنّني إنسان ثريّ وناجح، وسمَحَ لها أهلها بمواعدتي شرط أن أُعلِنَ خطوبتي عليها. مشيتُ في الكذبة آمِلاً أن أجِدَ وبأقرب وقت مخرجًا لأوضاعي المادّيّة السيّئة. ألَم أكن إنسانًا ذكيًّا وكفوءً؟ ألَم أصِل للنجاح بفضل تعَبي وإصراري وتصميمي؟ إذًا لَم يكن الأمر مُستحيلاً، وكلّ الذي أردتُه هو الحفاظ على نوال وعدَم إضاعتي لهكذا لؤلؤة.
جرَت الأمور بسرعة، فبضغط قويّ مِن أهلها تمّ الزواج، وانتقلَت نوال إلى المنزل الجميل والمفروش بذوق رفيع. هي تخيّلَت حياتها سعيدة معي وأنا لَم أشأ إحباط تلك الآمال أبدًا. سترَين يا حبيبتي كيف أنّ زوجكِ رجُل قويّ!
حمِلَت نوال منّي بلمحة بصَر، وأعترفُ أنّني لَم أتوقّع أن يأتي إلى الدنيا فم إضافيّ لإطعامه. فبعتُ بعض الأغراض الشخصيّة لي والثمينة كالساعات والخواتم والأقلام، الأمر الذي ساعدَني على الصرف على زوجتي الحامل لفترة مِن الزمَن.
وُلِدَ ابننا وكنتُ قد بعتُ كلّ الذي بإمكاني بَيعه واحترتُ بأمري. لَم أبق مَكتوف اليدَين، إذ أنّني بقيتُ أحاولُ إيجاد مورد رزق آخَر لكن مِن دون نتيجة، بسبب تردّي الأوضاع الاقتصاديّة في البلد. فلسوء حظيّ، كان البلَد يمرّ بأزمة ماليّة وعقاريّة عظيمة، فاستحال عليّ إنجاز أيّ شيء بل بقيَ المُستثمرون يترقّبون مرور تلك الأزمة بخوف وتردّد.
لِذا استدَرتُ لمَن بإمكانه إقراضي بعض المال لأؤمِّن لنوال وابننا ما يطلبانه، وبقيتُ أدّعي أنّني رجُل أعمال ناجح، الأمر الذي سهَّلَ عليّ إيجاد الأموال. فكلّ الذين قصدتُهم كانوا قد سمعوا بنجاحي ومهارتي بالأعمال، ولَم يتردّدوا لإعارتي ما احتجتُ له. وكنتُ واثقًا مِن أنّني سأردُّ لهم مبالغهم في وقت قريب، إلا أنّ الأمور بدأَت تتفاقَم حتّى بدأتُ أفقدُ السيطرة على الوضع. وبعد مرور بضع سنوات، صرتُ مديونًا بأموال طائلة، وسبيلي الوحيد كان استمهال أصحاب الدَين بوعود كاذبة وخياليّة. لَم أعُد قادرًا على النوم أو القيام بأبسط الأمور، وصرتُ أبتلعُ الأقراص العديدة للتغلّب على قلَقي الدائم.
المؤسِف في الأمر أنّني، ومنذ زواجي مِن حبيبتي نوال، كنتُ أدّعي العمَل وبقوّة كَي لا أخذلها وليس لغشّها، فأذهبُ في الصباح إلى مكتب لَم يكن موجودًا، بل أقضي نهاري في المقاهي حتى يحين موعد عودتي إلى البيت. إضافة إلى ذلك، وجبَ عليّ الادّعاء بأنّني مُسافرٌ للعمل في الخارج، فأحجزُ غرفة فندق في البلَد وأمكثُ فيه وكأنّني في السفر، لأعودَ بعد أيّام ومعي هدايا لزوجتي وابني. حياة كذب ونفاق مُتعِبة أرهقَتني واستهلكَت كلّ قوايَ.
لذلك أُدخِلتُ المشفى حين وقعتُ أرضًا وسط الطريق وأسعفَني أحَد المارّة، فوافَتني نوال مرعوبة. كنتُ قد وصلتُ إلى حدّ مِن الارهاق لَم يعُد يحتمّلُه جسدي أو فكري. تمّ تطبيبي ووُصِفَ لي المزيد مِن الأقراص وعدتُ إلى البيت رجُلاً شبه مُنتهِ. حاولَت زوجتي فَهم ما يحصل، والاستنتاج الذي وصلَت إليه كان أنّ عليّ التخفيف مِن أعمالي:
ـ لا تُرهِق نفسكَ حبيبي، فلا يلزمُنا كلّ هذا المال... يُمكننا العَيش بمدخول أقلّ مِن هذا، صدّقني. مِن جهتي أنا أقبَل بحياة عاديّة شرط أن تتحسّن صحّتك.
ـ هل تعنين ما تقولينَه أم أنّكِ فقط خائفة عليّ؟
ـ أعني ما أقولُه طبعًا.
عندها اعترَفتُ لنوال بالحقيقة الكاملة وبكيتُ لكثرة خجَلي منها. إلا أنّني وعدتُها بأن أُتابع بلا كلَل مسعايَ لإيجاد مخرج سريع وفعّال لحالتنا المادّيّة، وأنّني سأتمكّن مِن تأمين لها ولابننا الحياة التي وعدتُهما بها. ذُهِلَت زوجتي بالواقع المرير وسكتَت وهي تُحاوِل استيعاب ما سمعَته. فأضفتُ:
ـ سأطلبُ منكِ شيئًا يا حبيبتي... لدَيكِ قطعة أرض كبيرة ورثتِها مِن جدّتكِ وتقَع في أفخَم منطقة مِن العاصمة. بيعيها ودعينا نبدأ مِن الصفر. فبثمنِها سأستطيع تسديد ديوني وأتفضّى فكريًّا للعمَل. فحالتي النفسيّة لن تسمَح لي بالوقوف على رجلَيَّ.
ـ ماذا؟!؟ أبيعُ مراثي؟ هل فقدتَ عقلكَ أيّها الكاذب؟
ـ صحيح أنّني كذبتُ عليكِ لكن فقط كَي لا أخسَركِ. إضافة إلى ذلك، أبوكِ هو الذي سرَّعَ بتزويجنا بينما كنتُ أودّ كسب الوقت لتحسين أوضاعي.
ـ أنتَ مُجبَر على تأمين حياة كريمة لي وليس العكس!
ـ لقد تزوّجنا للسّراء والضرّاء. سأُعيدُ لكِ ثمَن الأرض، لا تخافي.
ـ كَم أنّكَ ماكِر؟ تُريدُ أن أصرِفَ عليكَ؟!؟
ـ أُريدُ مُساعدة مِن التي أحبَبتُها وأحبَّتني. أنا قادرُ على الخروج مِن هذه الأزمة شرط أن أدفَع ديوني.
ـ أتعرفُ شيئًا؟ لَم أعُد أُريدُكَ! فأنتَ شِبه رجُل!
ـ أحبُّكِ يا نوال وكلامكِ لي يُجرّحُ قلبي. أعلَم أنّكِ مُستاءة لكن لا داعِ للشتائم.
ـ طلّقني!
ـ فكّري في الأمر ولا تتسرّعي، أرجوكِ. إنسِ موضوع الأرض، لَم أعُد أُريدُها.
ـ أرض أو لا أرض، لَم أعُد أُريدُكَ! طلقّني!
أسِفتُ أن ترفضَ زوجتي المُشاركة في زواجنا مع أنّني تفهّمتُ موقفها، لكن أن تطلبَ الطلاق!
حاولتُ مُتابعة حياتنا العائليّة بسلام، إلا أنّها بقيَت مُصرّة على الطلاق وكأنّ كلّ ما يهمّها هو مالي، وأنا بقيتُ أرفضُ... إلى حين هي فعلَت ما لَم أتوقّعه أبدًا! فقد راحَت زوجتي وأبوها إلى الشرطة واشتكَت عليّ قائلة إنّني نصّاب، ففُتِحَت الملفّات وتقدّمَ العديد مُطالبًا بماله. لَم أصدِّق أن تفعل نوال بي ذلك، فلماذا هذا الكّم مِن الغضب والكُره؟ كيف لها أن تسجُن أب ابنها وتخلقُ له مشكلة نفسيّة ستُرافقه مدى الحياة؟
أخذتُ بعض الأمتعة وهربتُ مِن البلد قَبل أن يُلقى القبض عليّ. لَم أفعَل ذلك لأنّني جبان بل لأبتعِد قدر المُستطاع عن كلّ الذي سبَّبَ وسيُسبّب لي عائقًا لِجَمع المال. فقراري الأوّل والأخير كان تسديد ديون الناس.
إنتهى بي المطاف عند ابن عمّي في الولايات المُتحّدة، بعد أن أخبرتُه كلّ شيء بأدقّ التفاصيل. هو تفاجأ أن أكون مُفلِسًا فكان يعلَم كَم أنّني موهوب في عالَم الأعمال والعقارات. وبعد فترة قصيرة، عرّفَني إلى أقوى عميل في العقارات وبدأتُ العمَل معه. وببركة الله، إستطعتُ بعد وقت قصير تأمين عدد كبير مِن الزبائن الذين جلَبوا بدورهم زبائن آخَرين، حتّى باتَ لي اسم وباتَت تقصدَني الناس. أسرَعتُ بإرسال المال للذين أدانوني في البلَد وهم أسقَطوا الواحد تلوَ الآخَر شكواهم ضدّي. وفي غضون خمس سنوات كنتُ قد وفَيتُ كلّ ما عليّ وصرتُ أجني المال لنفسي.
نوال، مِن جانبها، بقيَت تعيشُ في بيتنا في البلَد ومِن المال الذي أبعثه لابني، وتبثُّ أخبارًا مُسيئة عنّي مفادها أنّني مسجون في الغربة وأنّها تموتُ جوعًا بسببي. كيف لتلك المرأة أن تشوّه صورتي أمام ابني هكذا؟ ما هذه الأنانيّة؟؟؟ كان مِن المُتأكّد أنّها تزوّجَتني فقط مِن أجل مالي.
عدتُ إلى البلد بعد أن أُسقِطَت جميع الشكاوى ضدّي، وجمَعتُ ما يكفي للبدء مِن جديد وبطريقة قويّة. وحين دخلتُ بيتي تفاجأتُ بزوجتي تُرحِّبُ بي بحبّ وحنان. كنتُ أتصوّر أنّها ستستقبلُني بالشتائم والصراخ، إلا أنّها جلبَت ابننا أمامّي وقالَت له: "عانِق أباكَ يا حبيبي، فهو إنسان عظيم ضحّى مِن أجلنا في الغربة طوال سنوات". المسكين كان خائفًا منّي فبالكاد اقترَب منّي، أوّلاً لأنّه لَم يرَني منذ فترة طويلة، وثانيًا لأنّ أمّه صوّرَتني له وكأنّني مُجرم خطير. عندما راحَ ولَدنا إلى غرفته قالَت لي نوال:
ـ ماذا تُريد أن تأكُل يا حبيبي؟
ـ حبيبي؟ حرَمتِني مِن ابني وشوّهتِ سُمعتي واشتكَيتِ عليَّ وامتنَعتِ عن مُساعدتي!
ـ الآن كلّ شيء عادَ إلى مساره.
ـ أنتِ مُخطئة تمامًا! إسمعي، أنتِ تصرّفتِ كالكثيرات مِن النساء اللواتي تعتبِرنَ أنهنّ جائزة كبيرة للرجُل بمُجرّد قَبِلن بالزواج منه. ماذا قدّمتِ لي؟ لا شيء، فلقد أمَّنتُ لكِ مَن يُنظّف ويطهو ويُخفِّف عنكِ الكثير. جلبتِ ولَدًا إلى الدنيا؟ الحيوانات تلِد وتُربّي. مَن أنتِ لأتصرّف معكِ وكأنّني حاجِب لدَيكِ ترميه إن أخفَق في تأدية واجبه؟ الزواج يا حضرة الأميرة، هو مُشاركة وتضحية، كلمات لا تعرفينها. أنتِ لَم تمتنعي وحسب عن مُساعدتي، بل اشتكَيتِ عليّ وكأنّني عدوّكِ وحرَمتِني مِن ابني وطلبتِ الطلاق. لستُ أقولُ إنّني بريء كلّيًّا لكنّ غلطتي أصغَر بكثير مِن إثمكِ. سأُعطيكِ الطلاق، يا زوجتي المصونة، ولأنّني أفضل منكِ، لن آخذ ابننا منكِ بل سأُشاركُكِ حضانته. سأُحاولُ تصحيح الكذب الذي ملأتِ رأسه به عنّي، ليس حبًّا بنفسي بل ليكبُر مُتّزنًا نفسيًّا. هيّا، أخرجي مِن بيتي!
حصَلَ ما كنتُ أريدُ أن يحصل، وبعد فترة قرَّرَ ابني ان يعيشَ معي بصورة دائمة بعد أن أدركَ أنّني لستُ إنسانًا سيّئًا كما اعتقَدَ. بعد ذلك، وجدتُ إنسانة رائعة تُشاركُني حياتي وتملأها بالفرَح والحبّ. أمّا بالنسبة لنوال، فهي لا تزال عند أهلها. هنيئًا لهم بها!
حاورته بولا جهشان