ما أصعَب وأبشَع أن يحمل المرء ذنبًا لمدّة سنوات، لا بل العمر بأسره، وأن يضطرّ أن يُضحّي بأغلى ما لدَيه لِمحو ما اقترَفَه! لكن لأيّ مدىً علينا أن نصل للحصول على الغُفران؟
قصّتي حزينة، لأنّها تحكي عن أخَوين كانا بمُستهلّ عُمرهما عندما حصَلت مصيبة لأحَدِهما بسبب الآخر. فعندما كنتُ بسنّ الحادية عشرة، خطَرَ ببالي أن ألعَبَ مع أخي الصغير أيمَن لعبة الشرطيّ واللص. ولإضافة صبغة واقعيّة على لعبتنا، جلبتُ مسدّس والدنا الذي كان يُبقيه في أعلى الخزانة، ظانًا أنّنا لن نعرف مكانه أو أنّنا لن نستطيع الوصول إليه. لكنّ الأولاد يعرفون كلّ شيء، ويفعلون ما بوسعهم لنَيل مرادهم. فبالنسبة لهم، كلّ شيء محظور هو شيء مرغوب ومُثير.
أخَذتُ المسدّس ورحتُ وأخي إلى الحديقة. كنتُ فخورًا بنفسي لأنّني كنتُ سألعبُ دور الشرطيّ، أي الإنسان النزيه الذي يُحافظ على القانون، فلطالما تحلَّيتُ بحبّ مُفرط للعدالة والعدل.
بدأنا باللعب بعد أن أعدَّينا سيناريو حيث على أيمَن الإدّعاء بأنّه سرَقَ خزنة أبي، ويركضُ للّحاق بباقي العصابة التي تنتظرُه خارج الحديقة. صوّبتُ المسدّس نحو أخي صارخًا به أنّ يقف مكانه ويرفع يدَيه عاليًا كما يحدثُ في الأفلام. بالطبع لَم أكن أنوي إطلاق النار عليه، إلا أنّ هذا ما حصَلَ. لا أدري كيف أو لماذا، لكنّ الطلقة خرجَت مِن المسدّس، وأصابَت أخي الصغير في ظهره، وبدأت الدماء تخرجُ منه بغزارة.
كانت أمّي قد هرعَت إلى الحديقة لحظة سماعها دويّ الرصاص، وكادَت أن تقع أرضًا عند رؤية ابنها سابحًا في بركة دماء.
لا أذكرُ تمامًا ما حدَثَ بعد ذلك، لأنّ كلّ شيء تتالى بسرعة. كلّ ما أعرفُه هو أنّ أيمَن نُقِلَ إلى المشفى، وبقيتُ وحدي واقفًا في الحديقة والمسدّس بِيَدي. بعد دقائق طويلة، رحتُ أنام في سريري، على أمل أنّ ما حدَث ليس سوى حلم مُزعج سيزول لحظة أستَيقظ.
في المشفى فعلوا ما بوسعهم لإيقاف النزيف، لكنّ العامود الفقري كان قد أُصيبَ بشكل مُباشَر، الأمر الذي سبَّبَ لأيمَن شلَلاً دائمًا.
وعندما علِمتُ بالخبر، شعرتُ بذنب لا مثيل له وأيقَنتُ أنّ حياتنا كلّنا قد تغيّرَت إلى الأبد، وذلك بالرّغم مِن أنّ والدَيّ فعلا ما بوسعهما لِعدَم تأنيبي بشكل مُباشَر، عالِمَين بأنّني مُدرك تمامًا لفظاعة ما فعلتُه. لكنّني كنتُ أشعرُ طبعًا بنظراتهما، وأرى الدموع في عَينَيهما، وأسمعُ تهامسهما بشأن المُصيبة التي حصلت. وحده أيمَن كان قد غفَرَ لي على الفور، ربمّا لأنّه كان ولدًا مثلي ويعلمُ أنّنا كنّا نلعب فقط، أو ربمّا لأنّه لَم يُدرك بعد أبعاد حالته وتأثيرها على باقي حياته.
قطعتُ على نفسي وعدًا بأن أفعَلَ ما بوسعي للتعويض لأيمَن عمّا سبّبتُ له، أيّ أن أُكرِّسَ حياتي له، فهذه كانت طريقتي الوحيدة لأُساعدُه على إكمال حياته. إرتاحَ قلب والدَيَّ عندما رأيا أنّني صِرتُ أهتمّ شخصيًّا بأخي وكأنّني ممرّضه الخاص، ولَم يخطر ببالهما أنّني كنتُ لا أزال صغيرًا للعب دور كهذا. ولَم يفعلا شيئًا لإراحتي جسديًّا أو نفسيًّا مِن عبءٍ إعتبراه عقابًا لِما فعلتُه بأخي. أيمَن، مِن جانبه، أحبّ اهتمامي به، إذ سمَحَ له ذلك بقضاء وقته كلّه بصحبتي، فلطالما كنتُ مثاله الأعلى.
مرَّت السّنوات ثقيلة ومُتعبة، حتى صار نمَط حياتي شيئًا إعتياديًّا لدرجة أنّني لَم أعدُ أتذمّر أو حتى أشعرُ بالذنب... كثيرًا. ولكن بقيَت طبعًا حاجتي لحمَل كلّ مَن حولي، وأوّلهم أيمَن، على نسيان إثمي. وكنتُ قد وجدتُ الطريقة المُثلى لذلك، وهي أن ألبّي حاجات واحتياجات عائلتي، وبطيبة خاطر. صِرتُ أستبقُ رغبات ذويّ وأقومُ بها على أفضل وجه.
تابعنا مسيرتنا المدرسيّة ولاحقًا الجامعيّة، وكان أيمَن تلميذًا متفوّقًا... ووسيمًا. فلقد حظيَ بانتباه العديد مِن الصّبايا، إلا أن ما مِن واحدة منهنّ تجرّأت على متابعة علاقة عاطفيّة طبيعيّة معه، بسبب حالته بالتأكيد. فمعظم الأهل لن يرضوا بخطيب أو زوج مُقعَد لبناتهم، الأمر الذي سبَّبَ لأخي حزنًا دائمًا، فإلى ذلك الحين، لَم يكن قد واجه مشاكل تُذكر مِن جرّاء حالته، على الأقل على صعيد علاقته مع مَن حوله.
مِن ناحيتي، كنتُ قد أُغرِمتُ بفتاة جميلة حصَلَ أن كانت في سنّ أخي وصفّه، وكان اسمها دلال، وهو إسم يليقُ بها تمامًا. هي الأخرى بادلَتني شعوري، ورأيتُ بذلك فرصة لأعرف السعادة بعد أكثر مِن عشر سنوات مِن العذاب النفسيّ. فبرفقة دلال، كنتُ أنسى مصيبتي والأجواء الضاغطة التي أعيشُها في بيت إعتبَرني مُجرمًا أبديًّا.
وما لَم أكن أعلمُه، هو أنّ أيمَن هو الآخر كان مُتيّمًا بدلال، ويحلمُ سرًّا بأن يقضي باقي حياته معها بعد تخرّجهما. لكنّه لَم يجرؤ على مُصارحتها، خوفًا مِن أن تهرب منه كباقي الفتيات. وبعدما علِمَ أنّنا مُتحابّان، إنتابَه الغضب، ليس تجاهي، بل تجاه نفسه. وباتَ أخي مُنعزلاً وصامتًا، الأمر الذي لم يغِب طبعًا عن إنتباهي. حثَّيتُه أكثر مِن مرّة على إخباري بسبب حزنه، إلى حين صارحَني بما يؤلمه:
ـ إنّها دلال... أعرفُ أنّكما على علاقة عاطفيّة، لكنّني لستُ قادرًا على تقبّل هذا الوضع، فهي تعني الكثير لي. أدعو لكما بالتوفيق، يا أخي.
ـ تحبّ دلال أنتَ الآخر؟ يا إلهي، كيف لَم أنتبِه للأمر؟ أقسمُ لكَ يا أيمَن أنّني لَم أكن على علم وإلا...
ـ لا عليكَ، فحتى لو لَم تكن معها، فهي لَن تقبل بإنسان مثلي. فلقد كُتِبَ لي العَيش لوحدي ومِن دون حبيبة. يلزمُني بعض الوقت لاستيعاب هذا الواقع المرير... سأتابع تركيزي على دراستي، لأملأ فراغًا عاطفيًّا لن تسدَّه فتاة أو إمرأة يومًا.
ـ لا تقل ذلك، فكلّ صبايا الجامعة تحومُ حولكَ!
ـ أنا مجرّد صديق لهنّ وتشعرنَ بالأمان معي لأنّني مُقعَد.
ـ أنا آسف يا أيمَن، آسف جدًّا.
حديثنا هذا زادَ مِن شعوري بالذنب، فكيف لي أن أنعَم بحبّي لدلال والزواج منها لاحقًا في حين يدمعُ قلب أخي، أخي الذي أقعَدتُه في كرسيّ لآخِر حياته؟
ومع مرور الوقت، بتُّ واثقًا مِن أنّني لن أقدر على مواصلة تعذيب أخي، ففضّلتُ إنهاء قصّة حبّ جميلة. لكنّني لَم أكتفِ بذلك، بل صمَّمتُ على أن "أعطي" دلال لأيمَن، الأمر الذي لَم يكن سهلاً أبدًا.
بدأتُ أمدحُ بأخي أمام حبيبتي، مُظهرًا لها مزاياه، وأثني على ذكائه ووسامته وعلى ما هو أهم: إهتمام جميع فتيات صفّه به. وبذلك كنتُ أنمّي في قلبها روح المنافسة الموجودة في كلّ إنسان، قائلاً إنّ التي ستفوز بقلب أيمَن ستكون الأقوى والأفضل والأكثر حظًّا. وفي الوقت نفسه، صرتُ أهملُ حبيبتي، أي أتغيّبُ عن مواعيدنا وأقلّلُ مِن اتصالاتي الهاتفيّة لها بحجّة الدرس، فتخرّجي كان قد اقترَبَ. وللسّبب نفسه، أوكلتُ إلى دلال الإهتمام بأيمَن، عالمًا تمام العلم أنّ الوقت الذي سيقضيانه سويًّا سيُقرّبُهما مِن بعضهما، خاصّة أنّني كنتُ على علم بشعور أخي تجاه حبيبتي.
إستغلّ أيمَن وجوده مع دلال ليُظهر لها مدى تعلّقه بها، وهي فرحَت أن تكون سعيدة الحظ. وأكثر ما جذَبَها إليه، هو أنّني لَم أعد أتصرّف معها كحبيب بل كصديق دائم الإنشغال.
وبعد حوالي الثلاثة أشهر، أخبرَني أيمَن بأنّه استطاعَ أخيرًا انتزاع اعتراف حبّ مِن دلال. وكأنّه بذلك كان يقولُ لي إنّ الوقت حان لأنسحب مِن حياتهما. لكنّني بالرغم مِن حزني على فقدان حبيبتي، كنتُ سعيدًا لأنّني أفرَحتُ قلب الذي دمرّتُ حياته.
تزوّج أيمَن مِن دلال بعد سنتَين وبعد أن أنهَيتُ رسميًّا علاقتي بها، وكان الجميع فرحًا. الجميع؟ إلا أنا طبعًا، لكنّني فعلتُ جهدي لأبدو مُرتاحًا للأمر. إلا أنّني لَم أستطع تحمّل وجود دلال في بيتنا وأراها تقبّلُ وتدلّلُ غيري، حتى لو كان أخي. لِذا قرّرتُ الإبتعاد قدر المُستطاع بعد أن اعتبَرتُ أنّني كفَّرتُ أخيرًا عن ذنبي. ووجدتُ عملاً في إحدى دول الخليج العربيّ، وسافَرتُ بسرعة لأبدأ حياة جديدة بعيدًا عن شبَح ما اقترفَته يدايَ عندما كنتُ فتيًّا.
فور وصولي، إنكبَبتُ على عملي لأعطي نفسي الوقت لنسيان حياتي السابقة. إلا أنّ والدَيّ بدآ يُطالباني بإمداد أخي بالمال، فراتبه لَم يعُد كافيًا لإشباع رغبات دلال المُتزايدة. أيمَن لَم يجرؤ على التكلّم معي شخصيًّا لأنّه خجل مِن نفسه، ليس مِن طلَب المال، بل مِن السبب الحقيقيّ وراء تصرّفات زوجته.
فما لَم أكن أعلمُه، هو أنّ أخي لَم يكن قادرًا على القيام بواجباته الزوجيّة، الأمر الذي بقيَ يُخفيه عن الجميع. فعندما تزوّج، إصطدمَت دلال بالأمر الواقع. في البدء، حاولَت المسكينة حثّه على لعب دور الزوج معها، إلا أنّها فشِلَت طبعًا لأنّه غير قادر على ذلك بسبب إصابته. لِذا، وهكذا بدأت تطلبُ مِن الأمور أفخرها كتعويض لها... وإلا طلبَت الطلاق.
وبالطبع صرِتُ أبعثُ لأخي الكثير مِن المال. لكنّ الطلبات صارت تتزايد، وأصبحتُ أُعطيه كل راتبي تقريبًا، مُعتبرًا أنّ ما يمرّ به كان ذنبي. وما المال أمام عدَم قدرة الرجل على ممارسة رجوليّته؟
إلا أنّ دلال سئمَت مِن الوضع بعد أن أدركَت أنّها لن تعرف الحياة الزوجيّة الحقيقيّة، وما هو أهمّ مِن ذلك، كيف هي الأمومة. لذلك رحَلت ولَم تنظر وراءها.
غرِقَ أيمَن بكآبة لا توصَف، وتركتُ عملي في الخارج لأعود إليه. فحياتي، شئتُ أم أبيتُ، كانت مرهونة به وبسلامته الجسديّة وخاصّة النفسيّة. ولو كان والدايَ مثقّفَين، لأخذانا إلى طبيب نفسيّ بعد الحادثة لنتخلّص مِن ذيول الفاجعة. وبذلك كنتُ نزعتُ عنّي الذنب، وكان أيمَن قد استوعَبَ أنّني لستُ مُجبرًا على دفع الثمَن طوال حياتي. على كلّ حال، كان الأوان قد فات، إذ أنّنا دخلنا جميعًا دوّامة لا مخرج منها.
بعد عودتي، كرّستُ حياتي كّليًّا لأخي وعادَت الأمور إلى مجراها. ماتَ والدي بعد سنوات، ولحِقَت أمّي به وصرِتُ لوحدي مع أيمَن. أما بما يختصّ بالنساء، فهو لَم يكن قادرًا على التعاطي معهنّ وأنا لَم أعد أريدُ تحطيم قلبي.
وكبرنا وصِرنا في العقد الخامس مِن حياتنا، والجميع في الحيّ يُلقّبُنا بِـ"العانِسَين".
هل تدمَّرَت حياتي؟ نعم. هل أستحقُّ ذلك؟ طبعًا لا.
حاورته بولا جهشان