حتى وقوع الأحداث التي سأرويها، كنتُ أعتقد أنّ ما نراه في الأفلام الأجنبيّة ناتج إمّا عن خيال واسع أو عقد نفسيّة لا يعرفها الشرقيّون. ولكن النفس البشريّة هي نفسها في كل مكان والفرق أنّ في بلدنا وبسبب تقاليدنا وحسّنا المرهف بالحياء نُبقي أموراً كثيرة قيد الكتمان. لِذا لا نسمع الكثير عمّا يحدث خاصة مع الفتيات.
كل شيء بدأ عندما كنتُ في العشرين مِن عمري أدرس في الجامعة لأصبح صحافيّة. والذي شدَّني إلى هذا الإختصاص هو حبّي للناس وسهولتي في التعامل معهم والحصول على أيّ معلومة أودّ أن أعرفها. قد يقول البعض أنّني فضوليّة ولكن ما يهمّني فعلاً هي الأحداث بِحدّ ذاتها وذلك حبّاً لِفهم الطبيعة البشريّة. وكنتُ أُعدّ محظوظة لِقبولي في تلك الكليّة لأنّها تضّم أفضل الأساتذة وشهادتها مُعترفاً بها عالميّاً. وهكذا وجدتُ نفسي في سنتي الثانية وأمامي مستقبلاً لامعاً. إلاّ أنّ شخصاً غيّر حياتي فقط لأنّه مضطرب عقليّ. والذي أتكلّم عنه هو يوسف أستاذي الذي في البدء رأى فيّ عنصراً لامعاً وقرّرَ أن يوليني إهتماماً خاصاً. وكنتُ فخورة جداً أنّ إنساناً مثله يقبل بإعطائي البعض مِن وقته الثمين.
فعندما أخذَني في ذاك يوم جانباً وقال لي أنّه يريد أن يبحث معي بعض زوايا الدرس الذي أخذناه في الصباح وافقتُ بكل سرور ووافَيتُه إلى مكتبه حيث جلسنا سويّاً وراجعنا كل النقاط المهمّة. وبعد أن إنتهينا سألتُه:
ـ لماذا إخترتَني أنا بالذات؟
ـ لأنّكِ مميّزة يا رجاء... لدَي خبرة 25 سنة في التعليم ومِن النادر أن أصادف مَن يفهم الصحافة مثلكِ... كانت هناكَ تلميذة مثلكِ... ولكنّ حدثَ ذلك منذ فترة طويلة جداً... تذكّرينني بها كثيراً... العمر يمرّ بسرعة... والآن أصبحتُ عجوزاً.
ـ لا تقل ذلك! كم عمركَ؟
ـ خمسة وخمسين سنة...
ـ لا تزال شابّاً... علِمتُ أنّكَ لا تزال عازباً... لماذا؟
ـ لأنّني أحببتُ مرّة واحدة في حياتي... ومنذ ذلك الحين وأنا أبحث عن شعور مماثل... كفى حديثاً عنّي... لنعود إلى الحاضر.
وأصبحنا نجلس في مكتبه مرّة في الأسبوع لِنبحث في أمور الدرس ولم نعد نتطرّق إلى مواضيع شخصيّة لأنّني رأيتُ الحزن في عينيه عندما تكلّم عن نفسه. وبقيَت لقاءاتنا رسميّة ولم أشعر ولو مرّة بأيّ إنزعاج في رفقته فكان إنسان مهذّباً ولائقاً لِذا لم أرَ أي مانعاً لِقبول دعوته إلى العشاء:
ـ كل ما أريده يا رجاء هو رفقة أحد وأنا آكل... وجودكِ معي يعطيني فرحاً... شبابكِ مفيد لي... وحديثكِ مثير للإهتمام... إلاّ إذا كان ذلك يشكل إحراجاً لكِ... أعني أن يراكِ الناس بصحبة عجوز.
ـ أبداً... بل ذلك يشرّفني.
ولم أخبر أهلي بمَن كنتُ سألتقي خوفاً مِن أن يظنّوا أنّني أواعد أستاذي ولأنّني كنتُ أعرف أنّهم سيمنعونَني مِن الذهاب. ولأنّني لم أكن غبيّة إرتدَيتُ ثياباً عاديّة أي محتشمة لكي لا أعطي يوسف صورة منافية للواقع. فلم أعتبر هذا العشاء موعداً غراميّاً أوّلاً لأنّني لم أكن مُعجبة بالرجل وثانياً لأنّه كان بعمر أبي. أمّا هو فكان مرتدياً بذّة أنيقة وينتظرني مع باقة مِن الزهور. شكرتُه على تلك اللفتة الجميلة وجلسنا نأكل ونشرب ونتحدّث عن أمور عديدة. أخبرَني عن مسيرته المهنيّة ومتطلّعاته وقضَينا وقتاً ممتعاً. وخلال كل ذلك الوقت لم تظهر عليه اي علامة إعجاب على الإطلاق.
وعدتُ إلى البيت ونمتُ ككل مساء. ومرَّت الأيّام وحدثَ أن أصِبتُ بإنفلونزا قويّة أجبَرَتني على مقاطعة الدروس لِبضعة أيّام ومِن بعدها عُدتُ في حالة ضعف شديد لأجري أمتحاناً هاماً. وكنتُ أدرك أنّني لن أحصل على علامة جيّدة ولكنّني وعدتُ نفسي أن أعوّض عن ذلك في الإمتحان القادم. ولكن عند ورود النتائج تفاجأتُ بالعلامة الممتازة التي نلتُها وذهبتُ فوراً إلى مكتب يوسف لأسأله عن الأمر. عندها قال:
ـ كنتِ مريضة... وإلاّ أنا متأكّد أنّكِ كنتِ حصلتِ على هذه العلامة بالذات.
ـ أشكركَ كثيراً ولكن... ضميري لا يسمح لي بالقبول... أنا إنسانة عادلة وخاصة مع نفسي... أرجوكَ أن تعدّل العلامة وتعطيني ما أستحقّ فعلاً.
إمتعَضَ أستاذي ولكنّه فَعَل ما طلبتُه منه وكَبُرَ إعجابه بي وبِنزاهتي. وبعد حوالي الأسبوع عاد يوسف يدعوني للعشاء ولكنّني شعرتُ أنّ عليّ الرفض لكي يبقى هناك مسافة بيننا خاصة بعدما فعلَه بعلامتي. كنتُ أريد أن أنجح بفضل مهارتي وليس لأنّ أستاذي هو أيضاً صديقي. لِذا رفضتُ دعوته بتهذيب متحجّجة بأن لدَيّ إرتباطات أخرى. عندها أرجأ العشاء إلى يوم آخر ورفضتُ مرّة أخرى:
ـ أفضّل أن نبقي لقاءاتنا في الجامعة... أحبّ رفقتَكَ كثيراً ولكن لا أريد أن تصبح الأمور شخصيّة.
ـ هل هناكَ مِن رجل آخر في حياتكِ؟
ـ ليس هناك أحداً بتاتاً في حياتي... ولما قلتَ" آخراً"؟ هل تعدّ نفسكَ جزءً حياتي؟
ـ أجل... أمّ أنّني لستُ جدير كفاية بكِ؟
ـ أنتَ أستاذي وأفتخر كثيراً بإهتمامكَ بي ولكنّني لا أراكَ سوى هكذا... أستاذي.
ـ فقط؟ ولِما كل هذه الجلسات في مكتبي؟ وإهتمامكِ بحياتي الخاصة؟ ومجيئكِ إلى العشاء في تلك المرّة؟
ـ لقد أسأتَ فهمي يا أستاذ يوسف... آتي إلى مكتبكَ لأتعلّم منكَ... سألتُكَ عن حياتكَ بدافع معرفة المزيد عنكَ... وقبِلتُ دعوتكَ لأنّكَ صديق... هذا كل ما في الأمر.
ـ لقد أعطيتُكِ علامة جيّدة على مسابقة رديئة!
ـ وطلبتُ منكَ تصحيح ما فعلتَ... ما الأمر يا أستاذ؟
ـ ما الأمر؟ ما الأمر؟ لقد فعلتِ جهدكِ لتعليقي بكِ.
ـ أنا؟؟؟ لم أقل أو أفعل شيء!
ـ ونظراتكِ؟ ونبرة صوتكِ؟
ـ أظنّ أنّ علينا أنهاء هذا الموضوع... لا أريد التحدّث فيه.
ـ رجاء... أحبّكِ!
وخرجتُ ركضاً مِن مكتبه وإلتجأتُ في المكتبة وقلبي يدّق بسرعة وكأنّ أحداً يلحق بي. وبعد بضعة دقائق شعرتُ بإستياء كبير لأنّني لم أفعل شيء وبدا الأمر وكأنّني شجعتُ الرجل على الإعتقاد بأنّني أريده. وقرّرتُ أن أتغيّب بضعة أيّام عن الجامعة لكي يهدأ يوسف قليلاً. ولكنّ غيابي هذا أثار قلقه وأربَكه لِدرجة أنّه قصدَني في المنزل.
وعندما فتحتُ الباب ورأيتُه أمامي تفاجأتُ كثيراً ولم أعد أعلم ما أقول. أمّا هو فصَرَخَ بي:
ـ أين أنتِ؟ كيف تقلقيني هكذا؟ حسبتُكِ مريضة أو... أو ميتّة! لا تفعلي ذلك بي مجدّداً!
ـ أذهب إلى الجامعة حين أشاء! وما بكَ مرعوب هكذا؟
وهجمَ عليّ وقبّلني بالقوّة. عندها دفشتُه خارجاً وأقفلتُ الباب وراءه. وبدأتُ بالبكاء لأنّني كرهتُه وكرهتُ كل ما يمثّله وذهبتُ إلى غرفتي أكمل البكاء قبل أن تراني أمّي التي سألَتني مَن دقّ الباب علينا. بالطبع لم أقل لها الحقيقة بل أنّ أحداً أخطأ بالعنوان.
ومنذ ذلك اليوم بدأ يوسف يتصّل بي هاتفيّاً كل دقيقة ويرسل لي أشعاراً وكلاماً في الحبّ ويطاردني أينما ذهبتُ. كان يركن سيّارته قرب بيتي ويقود ورائي. في البدء لم ألاحظ شيئاً إلى حين لفَتت صديقتي نظري على الموضوع قائلة: "هناك سيّارة تلحق بنا منذ ساعات". وتعرّفتُ إلى سيّارته وذهبتُ إليه صارخة: "كفّ عن ملاحقتي! ما بكَ لا تفهم؟ لا أحبّكَ!!! ما هذه التصرّفات الصبيانيّة؟ أنتَ رجل ناضج ولا يصح أن ترغمني على حبّكَ! إرحل الآن! عُد إلى بيتكَ!".
ولم أعد أجرؤ على الخروج إلاّ إذا كان هناك أحداً معي وقاطعتُ الجامعة كليّاً. وبالطبع لاحظَ أهلي عدم ذهابي إلى الكليّة فقلتُ لهم أنّهم أعطونا فرصة للدرس قبل الإمتحان الأخير. وفي ذاك مساء بعدما كنّا قد إنتهينا مِن تناول العشاء سمعنا طرقاً على الباب. قامَ أبي ليرى مَن يحدِث كل هذه الضجة فرأى أمامه رجل بسنّه يقول له: "جئتُ أطلب يد رجاء... نحن متحبّان". عندها ناداني والدي وركضتُ أصرخ: "لا تدَعه يدخل! أنّه مجنون!". وأقفلنا الباب عليه وطلَبَ أبي تفسيراً على الذي جرى فأخبرتُه كل شيء. سكتَ مطوّلاً ثمّ قال:
ـ أوّلاً كان عليكِ إخبارنا بأمر العشاء قبل حصوله... لقلتُ لكِ أنّ الرجال عندما يدعون فتاة للعشاء فهذا يعني أنّ لديهم إهتماماً عاطفيّاً أو جنسيّاً بها... ولو قلتِ لي عن إجتماعاتكِ به أسبوعيّاً في مكتبه لأخبرتُكِ أنّ الأستاذ المحترف لا يصبّ كل إهتمامه على تلميذة واحدة إلاّ إذا أرادَ التواجد معها على إنفراد... ولو أخبرَتيني بأمر العلامة لأكّدتُ لكِ أنّه يريدكِ... كذبتِ علينا لأنّكِ تعلمين بِقرارة نفسكِ أن كل ذلك لا يجوز... ماذا ستفعلين الآن؟
لم أجِب لأنّني لم أكن أدري. ولكنّني كنتُ واثقة مِن شيء واحد: دراستي في تلك الجامعة لم تعد ممكنة. حاولتُ العودة ولكنّني صادفتُ يوسف في الرواق ومسكَني مِن ذراعي وشدَّني إلى مكتبه. هناكَ قال لي بِصوت خافِت:
ـ ما بكِ يا أسمى؟ لماذا تتهرّبين منّي هكذا؟
ـ أسمى؟ أنا رجاء!
ـ حبيبتي أسمى... أنسيتِ حبّنا؟ أنا لم أنسىَ... إنتظرتُ عودتكِ سنين طويلة ولم أصدّق عينيّ عندما رأيتُكِ جالسة في حصّتي... لن أدعكِ تفلتين منّي ثانية.
وخرجتُ بسرعة بعدما أدركتُ أن الرجل مجنون. كان يعتقد فعليّاً أنّني حبيبته القديمة التي تركَته ولم تعُد. وبقيَ يوسف يطاردني ويتّصل بي أشهر طويلة ما أنهكَ أعصابي. وخشيَ أهلي أن أصاب بالإكتئاب أو المرض لِذا بعثوا بي عند جدّي في البلدة.
وبِذهابي فقدتُ أصدقائي والصحافة التي كنتُ أحبّها كثيراً. وبدأتُ بالعمل كسكرتيرة عند طبيب أسنان وأهتمّ بجدّي وبالمنزل ورأيتُ نفسي أغوص بحزن عميق. حياتي تغيّرَت جذريّاً بِسبب رجل معتوه ولم أكن لأقبل ذلك دون أن أناضل ولو قليلاً.
ففي ذاك يوم ومِن دون أن أخبر أحداً قصدتُ الجامعة والمدير بالتحديد. دخلتُ عليه مِن دون موعد وأخبرتُه بما حصلَ لي لأنه لم يعد لدَيَّ ما أخسره. عندها قال لي المدير:
ـ وماذا تتوقّعي منّي أن أفعل؟
ـ أريد أن أتعلّم... هذا مِن حقّي... الرجل مجنون وهذا ليس ذنبي...
ـ نفضّل عادة إبقاء هكذا أمور طيّ الكتمان.
ـ " تفضّلون هذا ولكنّني "أفضّل" أن أدرس على سجيّتي دون أن أخاف مِن أحد.
ـ الأستاذ يوسف هو رجل ذات خبرة قيّمة في التعليم ومِن الصعب إستبداله.
ـ هو أيضاً مريض نفسيّ... ومَن يضمن لكَ أنّه لن يفعل الشيء نفسه مع تلميذة أخرى؟ ومَن يضمن لكَ أنّه لن يتمادى أكثر بعد؟ هل أنتَ مستعدّ لتحمّل المسؤوليّة؟
ولكنّني لم أستطع حمله على طرد يوسف. كل ما حصلتُ عليه وهو نقلي إلى فرع آخر مع منحة تعفيني مِن دفع قسطي حتى تخرّجي. كانوا قد إشتروا سكوتي. ولم أكن لأقبل لو وجدتُ طريقة أخرى تفضحهم جميعاً. فكرّتُ بالذهاب إلى الشرطة ولكنّني لم اكن أملك دلائل وكل ما كان في الأمر هو أنّ الرجل يحبّني ويريد الزواج منّي. ووضّبتُ أمتعتي وودّعتُ أهلي وإنتقلتُ إلى مدينة أخرى لِمتابعة علمي. وتخرّجتُ ووجدتُ عملاً في جريدة محليّة وبعد بضعة سنين على تركي لأهلي علِمتُ أنّ يوسف طُرِدَ مِن الجامعة بعد "نوبات نفسيّة منعَته مِن مزاولة مهنته" أي أنّه وجَدَ فتاة أخرى تذكّره بأسمى وأنّ الإدارة وجَدَت هذه المرّة أنّه مِن الأفضل التخلّص منه.
يا ليتهم فعلوا ذلك عندما قصدتُهم لما كنتُ تركتُ أهلي وعشتُ بعيداً هكذا.
حاورتها بولا جهشان