كنتُ أراقبُها وهي تبكي في الجنازة، وشعرتُ بموجة غضب تجتاحُني. فتلك الأفعى كانت حتمًا فرحة بموت أبي، بعد أن عمِلَت جهدها لتنكيد حياته وأكثر مِن ذلك بعد. خطَرَ ببالي أن أذهب إليها وأمسكها بشعرها وأرميها خارجًا، لكنّني لَم أرِد أن أقلِبَ جنازة والدي إلى استعراض. لِذا سكتُّ واكتفَيتُ بالرجوع إلى العدالة الإلهيّة.
كلّ شيء بدأ حين أرادَ أبي الزواج ثانية، بعد أقل مِن سنة على موت أمّي. بالطبع وجدتُ الأمر مُبكرًا، لكنّه تذرَّعَ بأنّ أولاده بمَن فيهم أنا، كلّهم تزوّجوا، وأنّه كان يشعرُ بوحدة قاتلة. الحقيقة أنّه كان على علاقة بنجلاء منذ فترة، أي عندما كانت والدتي لا تزال على قَيد الحياة. ولَم يخطر ببالي أن يكون أبي مِن هذا الصنف مِن الرجال، فكلّنا نخال أهلنا أفضل أناس في العالم. طلبتُ رؤية "العروس"، فأعَدَّ والدنا مأدبة غداء ضمَّت جميع أفراد عائلتنا... والآنسة نجلاء.
مِن أوّل نظرة لَم أحبّها، بينما استلطفَها البعض وأحبَّها الآخر. أي كنتُ الوحيدة التي لمَست سواد قلب التي ستحلّ مكان أمّنا. لَم أقل شيئًا لوالدي، بل اكتفَيتُ بسؤاله إن كان أكيدًا مِن اختياره. أجابَ بأنّه أكثر مِن متأكّد، وأنّه يُجيد انتقاء نسائه، فهو أعطانا أفضل أمّ في العالم. إبتسَمتُ لهذه المقارنة ودعوتُ له بالتوفيق. ولَم أنسَ أن أقول له إنّه يستطيع الإستنجاد بنا لو لَزِمه الأمر، فضحِكَ مُستهزئًا.
عادَ كلّ منّا إلى أشغاله وحياته العائليّة، لنلتقي مجدّدًا يوم الزفاف الذي أرادَته نجلاء عظيمًا، أي بقدر حساب أبي المصرفيّ. وجدتُ الأمر مُبالغًا به، لكنّ رؤية والدي سعيدًا وهو يرقصُ بحماس في فرحة، كانت كافية لأتفاءَل بالخير.
لكنّ نجلاء لَم تكن فقط أنانيّة وطامعة بمال والدي، بل كانت أيضًا بلا أخلاق. فذلك القريب الذي عرّفَته إلينا على أنّه إبن خالتها كان بالفعل عشيقها. كيف علِمتُ بالحقيقة؟ لأنّني لاحظتُ النظرات والإبتسامات والكلمات المُبطّنة التي كانا يتبادلانها، وقرّرتُ أن أتحرّى عن الأمر. فكلّ شيء يتعلّق بتلك المرأة كان يهمُّني، ربّما لأنّني لم أسامح أبي لأنّه نسيَ، وبسرعة فائقة، التي رافقَته لسنوات طويلة وأعطَته أولادًا.
أوكَلتُ بمراقبة نجلاء عاملة البيت التي بدأَت العمل لدَينا حين كنتُ لا أزال مراهقة، أي أنّها كانت متعلّقة جدًّا بي ولا ترفضُ لي طلبًا. إضافة إلى ذلك، كانت ريما لا تزال تبكي أمّي وتتأسّفُ على رحيلها وعلى استبدالها بنجلاء.
وهكذا صارَت ريما تُعطيني تقريرًا مفصّلاً عن تحرّكات زوجة أبي، وكان مِن الواضح أنّ "ابن خالتها" كان يقضي وقتًا طويلاً معها ويذهبان مرارًا للتسوّق سويًّا أو لرؤية "خالتها العجوز". وهكذا تمكّنتُ مِن مُتابعة الثنائيّ في أحد الأيّام بعد خروجهما مِن البيت. بالطبع لَم يذهبا لشراء شيء أو رؤية أحد، بل مباشرة إلى فندق رخيص مثلهما.
وركضتُ أفضح أمر نجلاء أمام أبي، إلا أنّني لَم أتوقّع ردّة فعله: فهو بدأ يصرخُ بي ويتّهمُني بأنّني ماكرة وفضوليّة وكاذبة، وأنّ غَرَضي هو التسبّب له بالتعاسة والوحدة. ومِن ثمّ أخَذَ يروي لي كيف أنّ نجلاء هي أشبه بالملاك، وأنّها رمز الوفاء والنزاهة. واختَتَم بأن أمرَني بتركهما وشأنهما وإلا اضطّر لأخذ إجراءات بحقّي. كنتُ أعلم ما يعني ذلك، أي أنّه سيحرمُني مِن الميراث، الأمر الذي لَم يكن يُهمُّني إطلاقًا فكان لي عمل وزوج مُكتفٍ.
لَم أفهم إصرار والدي على الوثوق بزوجته بالرّغم مِن الذي علِمَه منّي، لكنّني قرَّرتُ أن أنسى الأمر وأدعَه يتحمّل مسؤوليّة خياره.
بعد ذلك، صِرتُ أتلقّى أخبار أبي مِن أخوَتي، وعلِمتُ منهم أنّ "القريب" جاء ليعيش في البيت مع والدي ونجلاء، بذريعة أنّ مسكنه تدمَّرَ في حريق كبير. أسفتُ للخبر، إذ أنّ زوجة أبي قد بلَغَت حدًّا لا يوصَف مِن الوقاحة، ولَم أكن قادرة على التدخّل، ليس خوفًا مِن أن أُحرَم مِن الميراث بل مِن فقدان حبّ والدي لي. لِذا اكتفَيتُ بمتابعة الأحداث... عن كثَب.
صِرتُ أتّصلُ يوميًّا بأبي لأسأله عن أحواله، مِن دون أن أذكر "الضَيف" كي لا أضايقُه، وكنت أذهب وعائلتي لزيارته مرّة في الأسبوع. لَم أعد قادرة على الحصول على المعلومات اللازمة مِن ريما، بعدما طردَتها نجلاء لتصفو لها الأجواء. وبقيَ والدي صامتًا... إلى أن تكلَّمَ أخيرًا.
كنتُ معه عبر الهاتف حين قال لي:
ـ هل بإمكاني قضاء بضع أيّام في بيتكِ؟
ـ بالطبع يا بابا! سيفرحُ بكَ الأولاد!
ـ وزوجكِ؟
ـ وزوجي طبعًا. سأجّهزُ لكَ غرفة الضيوف.
وقدِمَ والدي مع حقائبه ووجه مهموم. لَم أطرَح عليه أيّ سؤال، فكان مِن الواضح أنّ الوضع في بيته لم يعد يُحتمل. فأيّ رجل سيرضى بأن يأتي آخر ويعيش تحت سقفه، خاصّة بعدما أخبرتُه بأنّ علاقة حميمة تجري بين نجلاء و" إبن الخالة"؟ مكَثَ أبي عندنا حوالي الشهر، وكنتُ سعيدة جدًّا به بعدما وُلِدَت بيننا مودّة لَم تكن موجودة، فلطالما كان هو رجلاً جدّيًّا وقاسيًا في معظم الأحيان. ورحَلَ أبي بعدما جعلتُه يعدَني بأن يأتي ثانية حين يشاء. نظَرَ إليّ بحزن وقال: "قد أعود".
لكنّه لَم يعُد، وبقيَ مع "الثنائيّ الفاحش". وكَم مِن مرّة تخيّلتُه جالسًا في بيته يستمع إلى الأصوات الصّادرة منهما! لماذا لَم يطرد تلك الفاسقة؟ بقيَ الأمر غامضاً للغاية بالنسبة لي، ولكن ما استطَعتُ استنتاجه، هو أنّ والدي لم يشأ أن يعترفَ بخطئه، وأن يعرف الناس بما يحصلُ له مِن إهانة ومذلّة.
وسرعان ما لَم يعُد مُرّحبًا بي في بيت أبي إذ طلبَت نجلاء منّي عدَم المجيء مجدّدًا. نظرتُ إلى أبي كي يصرخ بها ويقول لها إنّ ذلك البيت هو المكان الذي وُلِدتُ وكبرتُ فيه، وإنّ عليها هي الرحيل منه إن لَم تكن تستطيع استقبالي، إلا أنّه بقيَ صامتًا. وحين غادرتُ على مضض، كانت عينا أبي مليئتان بالدّموع.
وساءَت حالة والدي الصّحيّة، بعدما أُصيبَ بذبحة قلبيّة نجا منها بأعجوبة، وأمره الطبيب بأن يستريح ويبعد كلّ البعد عن أيّ توتّر. لِذا اتصلتُ به وتوسّلتُ إليه كي يأتي للعيش معنا. إلا أنّه أكَّدَ لي أنّه بخير، وأنّ عليّ الإطمئنان إلى قدرته على إدارة أمور بيته. مرّة أخرى، كان والدي ضحيّة عنفوانه.
عندما وصلَني خبر موت أبي صرختُ عاليًا: "أتمنّى لو تحترقي في نار جهنّم أيّتُها الفاسقة!" إلا أنّها كانت بعيدة لتسمعني، وحتمًا سعيدة بأنّ "العجوز" إبتعَدَ عن طريقها وعشيقها، لتنعم بسلام بالبيت الجميل والكبير الذي كان قد كتبه باسمها بعد الزفاف. نعم، المكان الذي يحملُ داخل جدرانه كلّ ذكرياتي وأخوَتي وأمّي، صار ملك إنسانة بلا شرَف. يا للخسارة! لقد فقَدَ أبي عقله مِن أجل امرأة بشعة لَم تحبّه يومًا.
بعد الجنازة، رمَت نجلاء ملابس وأمتعة أبي أمام الباب، واتّصلَت بنا لنأتي ونأخذها. ركضنا لنحافظ على آخر أثر لرجل عظيم.
قد يظنّ البعض أنّ نجلاء عاشَت حياة تعيسة مِن جرّاء ما فعلَته بأبي، لكنّها تزوّجَت مِن عشيقها وعاشا في البيت الكبير وأنجبا.
نُحبّ أن نظنّ أنّ الشرّير سيُعاقَب ويندَم على أفعاله، لكنّ الواقع ليس كذلك. إلا أنّ الذي خلَقَ السماء والأرض والكائنات أجمع هو قبل كلّ شيء أب عادل ولا يرضى أنّ يفلِتَ أيّ مرتكب سوء بفعلته، وسيأتي وقت وتنال نجلاء عقابها... وما أعظمه! وحتى ذلك الحين، سأحتفظُ في قلبي بالذكريات الجميلة التي ربطَت أفراد عائلتنا ببعضهم، وأطلبُ الراحة لنفس أبي.
حاورتها بولا جهشان