كيف وصلَت الأحداث إلى ذلك الحدّ المُخيف، ونحن كنّا عائلة مُتماسِكة، لستُ أعلَم. لكن مع الوقت، نمَا بين أخَوَيّ حقدٌ عميق لا أساس له معروف. قد تكون غيرة قديمة حين كانا صغارًا، فالجدير بالذكر أنّني وُلِدتُ بعدهما بسبع سنوات وكنتُ الإبنة الوحيدة. فلَم أواكبهما تمامًا، بل كنتُ مُنشغِلة باستقطاب اهتمام ودلَع والدَينا ونجحتُ بذلك. وحين بلَغَ أخوايَ سنّ المُراهقة كنتُ لا أزال صغيرة. لكنّ حدّة مُشاجراتهما كانت واضحة، واستوجَبت مرارًا تدخّل والدنا، بينما حاولَت أمّنا دائمًا تهدئة الوضع تجنبًّا للتصعيد.
إرتاحَ جوّ البيت أخيرًا بعدما دخَلَ رامي ومِن ثمّ رامِز الجامعة، وكان مُستقبلهما واعدًا لأنّهما كانا مِن أوائل دُفعتهما. مِن جانبي، مرَّت حياتي بسلاسة مُحاطة بكلّ الذي تطلبُه فتاة سعيدة. ولو قالَ لي أحَدٌ آنذاك إنّ حياتنا لن تعودَ كما في السابق، لمَا صدّقتُه إطلاقًا.
لقد شاءَ القدر أنّ يقَعَ أخي الكبير رامي في حبّ فتاة لكن بطريقة خفيّة، إذ أنّه لَم يُفصِح لها عن مشاعره. هل علِمَ أخوه الأصغَر بالأمر؟ لا أعرِف الجواب، إلا أنّه أقدَمَ على التقرّب مِن تلك الصبيّة، واستطاعَ نَيل إعجابها لأنّه كان شابًّا وسيمًا ولبقًا يعرفُ كيف يستعملُ أساليب جذّابة. مرّة أخرى وقَعَ شجار قويّ بين رامي ورامِز ووصلَت أصواتهما إلى آخِر الحَيّ. حاوَلنا جميعًا الفصل بينهما واستطعنا بالكاد منعهما مِن التضارُب. طلبَت أمّنا مِن رامِز قطع علاقته بالفتاة لكنّه رفضَ، فاستدارَت إلى بِكرها وقالَت له إنّه مِن الأفضل أن ينسى مشاعره، خاصّة أنّه لَم يُصارِح الصبيّة بشيء، على عكس أخيه. هدأَت الأجواء أخيرًا، لكنّ النار كانت لا تزال مشتعِلة تحت الرماد.
بعد حوالي السنة، تزوّجَ رامِز مِن حبيبته، وأجبَرَ أبوايَ رامي أن يحضرَ الزفاف بعد أن قرَّرَ المُقاطعة. وطوال الحفل، رأيتُ كيف كان رامي ينظرُ إلى العروسَين وهما يرقصان بفرَح، ورأيتُ أيضًا نظرة الحقد الموجودة في عَينَيه. إعتقدتُ آنذاك أنّ قلبَه سيبرد بعد فترة وكذلك والدانا، لكنّنا كنّا على خطأ.
وُلِدَ إبن أخي وسط فرحة كبيرة وأًعطِيَ إسم جدّي، رحمه الله، كما تجري العادة، وبالكاد نظَرَ رامي إليه بل استدارَ نحو الحائط وسمعتُه يُتمتِم: "كان يجدرُ به أن يكون إبني". حزنتُ كثيرًا مِن أجله، وتمنَّيتُ أن يلتقيَ بأسرع وقت بالتي ستُنسيه زوجة أخيه وتُعطيه إبنًا خاصًّا به.
وكَم كانت مُفاجأتنا كبيرة حين أخبرَنا رامي أنّه ينوي الزواج... ومِمَّن؟ مِن أخت زوجة أخيه! في الواقع، شعرتُ بشيء مِن الإنزعاج لَم أستطِع تفسيره، فمِن كلّ البنات الموجودات في البلَد لَم يجِد سوى هذه؟!؟ لكنّني أزَحتُ تلك الأفكار مِن رأسي، فعلى الأقل، كان أخي الأكبر سيجدُ أخيرًا الراحة.
لَم أكن الوحيدة التي شكَّت بنوايا رامي، فرامِز هو الآخَر لَم يكن مُرتاحًا لتلك العلاقة المُفاجئة، وحاوَلَ بطريقة خفيّة تعطيل مسألة الزواج. لكنّ أهل الصبيّة بقوا مُصرّين مُتحجّجين بكلام الناس، فانتهى المطاف برامي مُتزوّجًا.
في الفترة الأولى سارَت الأمور بكلّ سلاسة، وصارَ أخوايَ يلتقيان على الدوام مع زوجتَيهما إمّا في أحَد البيتَين أو في المطاعم والمُتنزّهات. لكنّ العروس الجديدة لَم تحمَل، وصارَ أخي الأكبَر قلقًّا بالرغم مِن تهدئة باله مِن قِبَل أمّنا، وبدأ يُوجّه لزوجته ملاحظات مُجرِّحة وكأنّ للمسكينة دخلاً بالأمر. نتَجَ عن ذلك تباعد بين أخوَيّ، ولَم يعُد رامي يُبارحُ منزله حتى لرؤيتي ورؤية والدَينا. كان الأمر وكأنّه فشلَ في مهمّته، أو بالذي كان ينوي إثباته لأخيه الأصغَر، فمسألة الإنجاب كانت ستزيحُ عنه العار الذي أحسَّ به حين وُلِدَ إبن التي هو كان يُريدُها. وزواجه مِن أختها، لَم يكن سوى نسخة قريبة جدًّا مِن الزواج الذي لَم يحصل مع التي أحبَّها أصلاً. كلّنا فهمنا ذلك بعد فترة، لكنّنا لزِمنا الصمت آملين أن تمرّ تلك الفترة العصيبة على خَير.
إتّضَحَ أنّ عروس رامي تُعاني مِن مشاكل تمنعُها مِن الإنجاب، على الأقلّ لوقت مُعيّن وعليها أن تتعالَج، الأمر الذي لَم يتحمّله رامي فقرّرَ أن يُطلّق المسكينة. علَت الصرخة في العائلتَين، فلَم يكن مِن الجائز أن "يتخلّصَ" أخي مِن زوجته لهذا السبب، خاصّة أنّه لَم يرِد الانتظار حتّى تتعالَج زوجته. للحقيقة، خجِلتُ مِن تصرّف أخي الكبير، فلَم أتصوّره يفعلُ ذلك يومًا إذ نحن ربينا على احترام الناس ومشاعرهم وربيَ أخوَتي على إحترام النساء بوَجه خاصّ.
إنتهى المطاف برامي يُطلّقُ زوجته بحجّة إخترعَها، وسكنَ لوحده في بيته. في تلك الحقبة بالذات أُصيبَ أبونا بمرض أخذَه بسرعة، وبقيَت أمّنا تُردِّد أنّ ما حصَلَ له كان نتيجة تصرّفات أخوَيّ، ورامي بالأخصّ. بعد ذلك، تغيّرَت نفسيّتها، ليس فقط لفقدان زوجها الحبيب بل لاستحالة إصلاح الوضع بين إبنَيها. أمّا أنا ففعلتُ جهدي للترفيه عنها لكنّها بقيَت مُكتئبة.
ثمّ تعرّفتُ على الذي كان سيُصبحُ زوجي، وأسرَعتُ بقبول الإقتران به لرغبتي الشديدة في الإبتعاد عن أجواء البيت المسمومة، فانتقَلَ رامِز وزوجته وإبنه للعَيش مع أمّه كي لا تبقى لوحدها. إطمأنّ بالي، وتفرّغتُ لحياتي الجديدة وللمولود الذي حمِلتُ به بعد أشهر. للحقيقة، خفتُ أن يعرفَ رامي بشأن حَملي، كَوني أعلمُ كَم أنّ الموضوع دقيق بالنسبة له، إلا أنّه لَم يزعَل على الإطلاق بل تمنّى لي السعادة وبناء عائلة جميلة. فأنا لَم أكن شخصيًّا مَن كان يزعجه بل فقط رامز "وسرقته" لحبيبته.
مرَّت حوالي السنتَين مِن دون أيّ حدَث يُذكَر، سوى أنّنا إلتقَينا جميعًا عند أمّي في الأعياد، وكان رامي كعادته مُنغلقًا على نفسه ويُراقبُ بغضب تصرّفات أخيه مع زوجته وولدهما. أمِلتُ أن يتعرّفَ أخي الأكبَر على إنسانة تُنسيه حقده وغيرته، إلا أنّ رامي لَم يُحاوِل الزواج مِن جديد. لكنّ زوجته السابقة كانت أكثر منه حظًًّا، فوجدَت عريسًا وأنجبَت فتاة جميلة بعد أن تعالجَت لفترة قصيرة للغاية. ألَم يكن يجدرُ بأخي أن يتحلّى بالصبر قبل اتّخاذ قراره بالطلاق؟ على كلّ الأحوال، هو لَم يُحبّها يومًا بل تزوّجَها فقط لأنّها أخت زوجة رامِز. كان مِن الواضح أنّ رامي مُضطرِب نفسيًّا، لكنّني لَم أجرؤ طبعًا على نصحه برؤية أخصّائي، فذلك كان سيجلبُ لي ويلاته للأبد!
ثمّ علِمنا أنّ زوجة رامز حامِل مِن جديد، لكنّ الخبَر بقيَ سرًّا لِسبب وجيه، بَيد أنّه سيُفضَح طبعًا عند ولادة الطفل. فبدأ رامِز يُفكِّر بطريقة لإصلاح الوضع مع أخيه، تمهيدًا للخبَر ولكثرة حزنه على ما آلَت إليه الأمور. لِذا دعا أخاه الأكبر إلى بيتنا في الجبل، فرُحنا جميعًا لنقضي فرصة نهاية الأسبوع: أنا وزوجي وإبنتنا، أمّي، ورامز وزوجته وإبنه. حضّرنا الأكل اللذيذ، وأشعَلنا الموقد إذ أنّ الطقس كان باردًا مساءً، وأخَذَ رامِز أخاه الأكبر في نزهة حول البيت ليتكلّم معه على إنفراد ويحلُّ المُشكلة نهائيًّا. لكن بعد رحيلهما بحوالي الساعة، سمعنا أصواتهما تعلو تحت شرفتنا، وعندما ركضنا لنرى ما يحصل، وجَدنا رامي مُمسِكًا برامِز، بِيَده سكّين وهو يصرخُ به: "سأذبحُكَ وأتخلّص أخيرًا منكَ أيّها الماكِر!".
وقَفنا أمامهما غير قادرين على التدخّل خوفًا مِن إستفزاز أخي الأكبر، وحاولَت أمّنا بشتّى الطرق حَمل بكرها على إفلات صغيرها. إلا أنّ رامي زادَ حدّةً.
عندها عادَت والدتنا إلى البيت والحزن والخوف يملآن قلبها... ثمّ عادَت وبِيَدِها غالون وقود فتحَته وأفرغَته بالكامل على نفسها. لَم نستوعِب ما يحصل إلا بعد حوالي الدقيقة، لكنّها صرَخَت في ابنَيها: "سأحرقُ نفسي أمامكما إن لَم تتوقّفا فورًا عن التقاتل. رامي! أترك أخاكَ! أتركه!". لكنّ أخي الأكبَر لَم يمتثِل، بل جرَحَ رامز عمدًا في رقبته كدليل على جدّيّة نواياه.
عندها، أخذَت أمّنا ولاعة مِن جَيبها وأضرمَت النار في نفسها. بدأنا نصرخ مُحاولين إخماد النار، وأفلَتَ رامي أخاه ليُحاول معنا إنقاذ أمّه إلا أنّنا لَم ننجَح في الوقت المُناسب. فالجدير بالذكر أنّ الوقود إشتعَلَ بسرعة فائقة وبقوّة رهيبة، وحين إستطَعنا أخيرًا إخماد النار كانت أمّنا شبه ميّتة.
أخَذنا المسكينة إلى أقرَب مشفى، لكنّ الأمر تطلَّبَ وقتًا طويلاً بسبب وجودنا في منطقة معزولة. كنتُ أعلَم أنّ أمّنا لن تنجو، وتمنَّيتُ لو أستطيع ضمّها إلى صدري ومواساتها في لحظاتها الأخيرة، لكنّني لَم أستطِع بسبب حروقها البليغة. ماتَت أمّنا قَبل وصولها إلى المشفى.
لَم يحضر رامي دفن أمّه فهو الذي تسبَّبَ بموتها، وكرهناه كلّنا. ومَن يستطيع لومنا؟ بكينا المرحومة بحرارة لمدّة طويلة، ولَم نعرِف أنّ رامي سافَرَ بعيدًا. للحقيقة شعَرنا بإرتياح كبير لدى سماعنا الخبَر، فلَم نكن نعلَم كيف نتعامَل مع الذي فعلَه برامِز ولاحقًا بأمّه.
إستعَدنا حياتنا شيئًا فشيئًا، وأُعطيَ إسم أمّي لإبنة رامز الجديدة، فشعَرنا بذلك أنّها لا تزال معنا بشكل مِن الأشكال.
وصَلَنا بعد سنة خبَر موت رامي، ولَم نعرِف الطريقة التي ماتَ بها، فقد تضاربَت الروايات حول ذلك. لَم نُحاوِل معرفة المزيد، لكنّنا شكَكنا أن يكون قد انتحَرَ.
غريب هو الإنسان... فلقد سبّبَ رامي لنا جميعًا مُعاناة ثمّ مأساة فظيعة لكثرة غيرته مِن أخيه. ماذا استفادَ مِن كلّ ذلك؟ أين غروره الآن وهو يرقدُ تحت التراب بإنتظار حكم خالقه عليه؟ يا لَيت الناس تُفكِّر بنتائج تصرّفاتهم قَبل فوات الآوان!
حاورتها بولا جهشان